قصة الفلسفة الحديثة

زكي نجيب محمود d. 1414 AH
92

قصة الفلسفة الحديثة

قصة الفلسفة الحديثة

ژانرها

ومما يستلفت النظر من أخلاقه عدم احتماله للجلبة والضوضاء، وقد كتب في ذلك يقول: «إن من رأيي أن مقدار الضوضاء الذي يمكن للإنسان أن يحتمله دون أن يثيره، يتناسب تناسبا عكسيا مع مقدرته العقلية، فيمكننا بهذا أن نتخذ الضوضاء مقياسا للكفاءة بالغا في الدقة ... الضوضاء تعذيب لكل من يعمل بعقله من الناس.» فلقد كان يدرك «شوبنهور» أنه عظيم رغم إنكار الناس لعظمته، ولما أفلتت منه الشهرة والتوفيق ارتد إلى نفسه مع الناس وأخذ ينهش في نفسه بأنيابه.

عاش «شوبنهور» وحيدا فلا أم ولا زوجة ولا ولد ولا أسرة ولا وطن ولا صديق، ولم يكن يشاطر معاصريه فيما ملأ صدورهم من نار الوطنية المشتعلة وقتئذ. ومما يروى في ذلك أنه في عام 1813م كان قد تأثر بحماسة «فخته» حتى استجاب لدعوته لحرب وطنية ضد نابليون. وفكر فعلا في التطوع بنفسه في تلك الحرب، وابتاع لنفسه ما يلزمه للقتال من عدة وسلاح، ولكنه لم يلبث بعد ذلك أن استنكر من نفسه ذلك التصرف قائلا: «إن نابليون لم يفعل في كل ما قام به من عمل إلا أن أفصح بتعبير حر مختصر عن تقرير الذات وعن الشهوة للاستزادة من الحياة التي يحسها من هم أضعف منه من الناس، ولكنهم يكتمونها في صدورهم مرغمين.» وبدل أن يذهب لمشاركة قومه في القتال كما اعتزم. قصد إلى هدوء الريف حيث كتب رسالته التي نال بها لقب الدكتوراه في الفلسفة.

ومنذ ذلك الحين قصر «شوبنهور» مجهوده ووقته على تأليف كتابه المسمى «العالم كإرادة وفكرة» وهو آية نبوغه وبرهان عبقريته، ولقد كتب هو نفسه عن هذا الكتاب حين أرسل صورته الخطية للناشر يقول: ليس كتابه هذا مجرد تكرار للآراء القديمة، ولكنه بناء شامخ من فكر مبتدع، وأنه «قوي واضح ولا يخلو من جمال.» فهو كتاب «سيكون بعدئذ معينا وسببا لمائة كتاب.» يبعث هو على تأليفها فلم يشك «شوبنهور» في أنه حل في كتابه ذاك كل مسائل الفلسفة الهامة، حتى إنه فكر في أن يتخذ لنفسه خاتما منقوشا عليه صورة أبي الهول وهو يلقي بنفسه في الهاوية؛ إذ قيل إن أبا الهول قد أخذ نفسه بأن يفعل هذا إذا ما حلت ألغازه وزال عنها الغموض.

ولكن الكتاب رغم هذه المكانة كلها لم يجد في الناس قارئا، لقد كان الناس منهوكي القوى يتمرغون في حمأة الفقر فما حاجتهم إلى قراءة كتاب يحدثهم عن فقر العالم وشقائه؟! ومهما يكن من أمر، فقد طبع الكتاب ولبث أكداسا مركومة في المخازن، فلما مضت بعد طبعه ستة عشر عاما أنبئ «شوبنهور» أن قد بيعت الكثرة العظمى من نسخ الكتاب ورقا تالفا، وقد كتب في مقال له عن «الشهرة» مشيرا إلى كتابه ذاك: «إن مثل هذه الكتب كالمرآة إذا نظر فيها حمار فلا يتوقعن أن يرى فيها ملكا.» «وهل إذا ما تصادم رأس وكتاب، ثم انبعث من أحدهما صوت أجوف، أويكون الأجوف هو الكتاب دائما؟» ثم يستطرد «شوبنهور» في هذا المقال فيزهو بنفسه كأنما يريد أن ينتقم لكبريائه الجريح: «كلما كان الرجل تابعا للخلف - أو بعبارة أخرى كلما كان تابعا للإنسانية بصفة عامة - كان أبعد عن معاصريه؛ لأنه إذا كان كتابه لا يقصد إليهم كمعاصرين، بل يخاطبهم كجزء من الإنسانية عامة، فلن يصطبغ الكتاب باللون المحلي الذي يألفونه، ويمس قلوبهم»، ثم يقول في لغة ثعلب العنب : «هل يغتر الموسيقي عندما يضج سامعوه باستحسانه إذا علم أن كثرتهم الغالبة صماء وأنهم أوصوا شخصا أو شخصين ليصفقوا عنهم لكي يخفوا من أنفسهم عاهة الصمم؟ وماذا هو قائل إذا ما عرف أن ذلك الشخص أو الشخصين لم يصيحا باستحسانه إلا بعد أن ارتشيا ليفعلا هذا؟»

أما مؤلفاته الأخرى فأهمها وأوسعها انتشارا «المقالات» التي نشرها في سنة 1851م، وهو كتاب مفعم على صغره بالحكمة. وجدير بنا أن نذكر أن الفيلسوف لم يأخذ من ناشر الكتاب ثمنا لكتابه إلا عشر نسخ منه.

لبث «شوبنهور» في وحدته وعزلته بعد أن غادر «فيمار» ولبث يعاني تلك الحالة الرتيبة التي لا تأتيه بجديد، حتى تهيأت له في عام 1823م فرصة طالما تمناها، وهي أن يتاح له أن يحاضر في فلسفته في إحدى الجامعات، فلما كانت تلك السنة دعي إلى جامعة برلين ليبسط فلسفته للطلاب، فتعمد أن يحدد لإلقاء محاضراته نفس الأوقات التي كان يلقي فيها «هجل» محاضراته، وكان «هجل» في ذلك الحين في ذروة مجده وقمة شهرته، له صوت بعيد في الطلاب، وكان «شوبنهور» يحسب أن جموع الطلاب لن تلبث أن تقبل عليه، وقد كان يكون هذا لو لم يكن الطلاب قد ملأهم الإعجاب بهجل وملك عليهم نفوسهم، ولم يعد فيها مجال للإعجاب بأحد غيره، ولكنه أحسن الظن بتقدير الطلاب إلى حد بعيد، فخاب فأله، إذ ألفى نفسه يلقي محاضراته وليس أمامه إلا صفوف من المقاعد الخاوية، فلم يسعه إلا أن يستقيل من هذا المنصب الذي طالما رجاه، وكأنما أحس بشيء من الغيط نحو «هجل» الذي سيطر على نفوس الطلاب جميعا، فراح ينتقم لنفسه منه بما نشر عنه من نقد. وفي عام 1831م انتشرت الكوليرا في برلين، ففر «هجل وشوبنهور» استبقاء لحياتهما، ولكن «هجل» عجل بالعودة إلى برلين حيث لقي حتفه، أما «شوبنهور» فواصل السير حتى استقر في فرانكفورت، وهنالك طاب له المقام، فعاش بها اثنين وعشرين عاما انتقل بعدها إلى جوار ربه.

لقد أبى «شوبنهور» أن يكسب عيشه بإنتاج قلمه بحجة أن هذه زلة لا يقع فيها إلا متفائل بالدنيا، أما هو المتشائم فلا يجوز له ذلك، وكان يكفيه لعيشه ريع مال خلفه له أبوه. ومن العجيب أنه كان حريصا في استخدام أمواله حرصا لا يكاد يلائم روح الفيلسوف، وكان يسكن في الشطر الأخير من حياته في حجرتين من منزل لا زميل له إلا كلبه الذي أطلق عليه اسم «أطما

Atma » (وهو اسم يطلقه البرهمي على روح العالم)، ولكن المجان من أهل المدينة كانوا يسخرون من الفيلسوف فسموا كلبه هذا «شوبنهور الصغير»، وقد اعتاد «شوبنهور» في كل يوم عند بدء تناوله لغدائه أن يضع قطعة ذهبية من النقود أمامه على المائدة، ثم يعيدها إلى جيبه ثانية إذا ما فرغ من طعامه، فلم يسع خادم المائدة إلا أن يستفسره يوما عن معنى ذلك، فأجابه «شوبنهور» إنه راهن نفسه أن يلقي بهذه القطعة الذهبية في صندوق الفقراء إذا سمع الضباط الإنجليز الذين كانوا يطعمون في ذلك المطعم يتحدثون في شيء غير الخيل والنساء والكلاب، وأنه في كل يوم يكسب من نفسه الرهان.

لقد أنكرت الجامعات «شوبنهور» كما أنكرت كتبه، فكانت بذلك الإنكار كأنما تؤيد ما زعمه هو نفسه من أن الفلسفة لم تتقدم خارج جدران الجامعات، ولكن «شوبنهور» لم تخامره خلجة من الشك في أن الناس لا بد معترفون يوما بمكانته، أسرع ذلك اليوم أم أبطأ، ولقد حققت الأيام رجاءه بعد أعوام طوال، فأقبل على فلسفته المثقفون من الطبقات المتوسطة كالمحامين والأطباء والتجار؛ لأنهم لم يجدوا فيه الفيلسوف الذي يرطن بضخام الألفاظ عما وراء الطبيعة، ولكنهم ألفوه يشرح بفلسفته ظواهر الحياة شرحا يسير الفهم سهل الإساغة.

جاءته الشهرة التي تمناها وتوقعها، ولم يكن من الشيخوخة بحيث لا يستطيع أن يتمتع بها، بل كان له من حيوية الشباب ما مكنه من التمتع بشهرته، فأخذ يقرأ كل ما كان ينشر عنه من مقالات، وطلب من أصدقائه أن يرسلوا إليه كل ما يقعون عليه في الصحف وغير الصحف مما يتصل به بسبب وعليه أجرة البريد! وقد بعث إليه «فاجنر» في سنة 1854م بتقديره وإعجابه بفلسفته في الموسيقى، فسر «شوبنهور» بذلك سرورا كاد ينقلب معه تشاؤمه إلى تفاؤل ... وقد كان في كهولته يضرب على القيثارة كل يوم بعد الغداء ويحمد الأيام التي خلصته من نيران الشباب المحتدم، وبلغ في سنة 1858م عامه السبعين، فتدفقت إليه جموع غفيرة من كل حدب وصوب ليروه، كما انهالت عليه رسائل التهنئة بذلك العيد.

صفحه نامشخص