قصة الفلسفة الحديثة

زكي نجيب محمود d. 1414 AH
59

قصة الفلسفة الحديثة

قصة الفلسفة الحديثة

ژانرها

ثم يفرق «هيوم» بعد ذلك بين أفكار الذاكرة وأفكار الخيال، فيقول: إن الأولى أنصع وأقوى من الثانية؛ لأنها صور مباشرة لمدركاتنا،؛ إذ الذاكرة تحتفظ بالصورة الأصلية التي أدركنا عليها الأشياء، وأما الخيال فهو يتناول هذه الصور الفكرية بالتغيير والتحوير. وبعبارة أخرى: إن الذاكرة تقف عند حدود التجربة، أما الخيال فلا يقيد نفسه بذلك، ولهذا يقع في كثير من الأخطاء، ويختلق كثيرا من الدعاوى التي لا يمكن البرهنة عليها. (2)

العلاقة بين الأفكار:

ينظر «هيوم» إلى أفكاره فيراها دائمة الاتصال والانفصال بعضها مع بعض. وقوة الخيال هي التي تقوم بربط هذه الفكرة بهذه أو بتلك، ويستحيل أن تكون المصادفة وحدها هي التي تعمل على ربط أشتات الأفكار المفككة التي تصل إلى الذهن، بل لا بد أن يكون هنالك أساس لربط الأفكار، وقاعدة تتصل بمقتضاها فكرة بفكرة أخرى. ويقول «هيوم» إن لذلك التداعي بين الأفكار أسسا ثلاثة: التشابه، والتقارب الزمني أو المكاني، ورابطة العلة بالمعلول. أما التشابه فهو أساس كل العلوم التي ترتكز على البداهة أو على البرهان. كالحساب والجبر، والرياضة بصفة عامة؛ لأن قضايا الرياضة يدركها العقل بمجرد الفكر دون أن يعتمد في ذلك على ما هو موجود في زمان أو في مكان، فلو فرضنا مثلا أن ليس في الطبيعة كلها مربع ولا دائرة، فذلك لا يمنع الحقائق العقلية التي نثبتها بالدليل أو ندركها بالبداهة عن المربع أو الدائرة، وأما العلاقة الزمنية أو المكانية، فتقوم على أساسها علوم الطبيعة، وعلى السببية يعتمد كل ما له علاقة بالحوادث التي تقع في تجارب الحياة، وهذه السببية هي أوسع الروابط الثلاث انتشارا وأشدها اتصالا بالحياة العادية، فكل ما يقع من حوادث بين الأشياء إنما يحدث وفقا لقاعدة السببية، ولهذا فإن «هيوم» يختصها بشطر كبير من بحثه، فهو يحللها تحليلا دقيقا ينتهي به إلى القول بأن الإنسان لا يدري شيئا عن الرابطة بين العلة ومعلولها، وهو يبحث هذا الموضوع في فصل مسهب. عنوانه: «العلم والاحتمال» وهو يكون الجزء الثالث من كتابه. (3)

العلم والاحتمال:

أراد «هيوم» أن يبين أن فكرة السببية باطلة ؛ لأننا لو رددناها لأصلها لما وجدنا بين الآثار الحسية ما ينشئها. ولم تكتسب فكرة السببية ما لها من قوة إلا بالعادة وحدها فقد تعود الإنسان أن يرى حادثة تتبع أخرى فربط خياله بين الحادثتين برباط سماه السببية، إذ توهم أن الأولى علة للثانية، مع أنه لم يتلق من الحياة الخارجية إحساسا معينا معناه أن هنالك رابطة ضرورية بين هاتين الحادثتين. فكل ما يصادفه الإنسان في تجاربه العملية هو جزئيات مفككة ليس بينها أية صلة البتة، ولكن إذا كان ذلك كذلك، فما الذي حدا بالإنسان أن يتجه هذا الاتجاه في تفكيره، ومن الذي أوحى إليه بهذا الوهم الباطل، أي أن صلة السببية تربط بين مفردات الحقائق، مع أن هذه المفردات منفصل بعضها عن بعض في الواقع الخارجي، ولا شأن لأحدهما بالآخر. نقول إن كانت التجربة العملية لا تقدم إلينا فيما تقدم من أحاسيس هذه الفكرة، فكرة ارتباط العلة بالمعلول، فلماذا فكر فيها الإنسان بادئ بدء، وفرض أنها حقيقة واقعة على الرغم من حواسه؟ إن هذه الفكرة لا يمكن أن تكون قد نشأت من باطن النفس؛ لأننا قد قررنا أن ليس لدى الإنسان أفكار فطرية تولد معه، وكل علمه مكتسب من التجارب وبطريق الحواس، كذلك لا يمكن أن نقول إنها بديهية تفرض نفسها على العقل فرضا؛ لأن المعلول مختلف عن علته كل الاختلاف، وليس في مقدور العقل أن يسلم بأن يكون اختلاف المقدمة عن نتيجتها بديهية مقطوعا بصدقها، بل هي - على النقيض من ذلك - ظاهرة تبعث على التفكير وتستوقف النظر، فأنت مهما أمعنت في تحليل العلة والمعلول الذي ينشأ عنها، لما وجدت أن هذا متضمن في تلك. إن كرة «البلياردو» لا تكاد تمس الكرة الأخرى حتى تبدأ هذه في الحركة، فكيف انبعثت الحركة من الكرة الأولى في الكرة الثانية؟ إنه ليس في حركة الأولى ما يستدعي الحركة في الثانية. فمن ذا الذي أوحى إلى الإنسان أن يفرض بأن هذه علاقة ضرورية لازمة الحدوث باعتبار الأولى سببا والثانية مسببا؟ إن كل ما يراه الإنسان بحواسه من هذه الحادثة إحساسان متعاقبان: كرة أولى تتحرك، ثم كرة ثانية تتحرك، ولم تقدم له الحواس علاقة بين الحركتين، ولكنه مع ذلك تخطى حواسه، وزعم أن بين الإحساسين علاقة علة بمعلول، وأن هذه العلاقة ضرورية محتمة الحدوث.

يتساءل «هيوم»: من أين جاءت هذه الفكرة التي أضافها الإنسان إلى الإحساسات المتفرقة التي ليس بينها في الواقع حلقات متوسطة تربط الواحدة منها بالأخرى، فتطوع لها الإنسان برابطة السببية، وسمى حادثة ما علة، وسمى الأخرى معلولا، والحقيقة أنهما حادثتان تتابعتا لا أكثر، وليس التتابع بالطبع معناه السببية؟ قد يقال: إن الإنسان قد حكم بوجود علاقة السببية بين حادثتين لما رأى أنهما تتتابعان باطراد، ولكن هذا التتابع مهما اطرد فهو تتابع فقط، ولا يمكن أن يفهم منه أن الحادثة الأولى سببت الحادثة الثانية وأوجدتها ... يقول «هيوم» إنها العادة وحدها هي التي أدت بالإنسان إلى استخلاص هذه النتيجة؛ إذ توهم أنه ما دامت هاتان الحقيقتان قد ارتبطتا في الماضي، فلا بد أن يرتبطا كذلك في التجارب المقبلة. وإذن ففكرة السببية ذاتية محضة، وهي خدعة من الخيال الذي يميل إلى فرض رابطة بين الأشياء والحوادث ليس لها وجود إلا في العقل الذي يدركها. (4)

العالم الخارجي وهم باطل:

يعتقد الإنسان أن الأشياء الخارجية تتمتع بوجود متصل دائم، وهي عقيدة باطلة ووهم نسجه الخيال، ويرجع هذا الوهم الخاطئ إلى العادة أيضا التي أوهمتنا بوجود علاقات ضرورية بين الأشياء. يلقي «هيوم» بادئ بدء هذين السؤالين: «لماذا تعزو للأشياء وجودا مستمرا حتى ولو لم تكن موجودة؟ ولماذا تفرض أن تلك الأشياء موجودة خارج العقل متميزة عن القوة المدركة؟» ثم يجيب عن السؤال الأول فيقول: إن الحواس لا تقدم إلي إلا إدراكا حاضرا فقط، فأنا مثلا أرى مكتبي، ثم أخرج من غرفتي وأعود إليها بعد حين فأرى المكتب ثانية، فمن أدراني أن هذا المكتب الذي أراه الآن هو نفس المكتب الذي رأيته منذ حين؟ إنها العادة هي التي تحملني على العقيدة بأن مكتبي مستمر الوجود، ولكن لو حللت الأمر لأيقنت ببطلان ما توحي إلي العادة به، أو على الأقل لشككت فيها؛ ذلك لأنني في حقيقة الأمر لا أعلم عن المكتب إلا ما دلتني عليه عيناي، وهاتان لم تبعثا في إلا صورا متفرقة عن المكتب، فصورة رأيتها في الصباح، وأخرى رأيتها في المساء، وليس لدي حجة عقلية واحدة أبرر بها أن ما بعث صورة الصباح هو نفسه الذي بعث صورة المساء، لقد جاءني من العالم الخارجي عدة «مكاتب» فأسرع خيالي الخادع إلى توهم أن كل هذه «المكاتب» التي جاءت بها حاسة الإبصار هي في الواقع شيء واحد له وجود مستمر.

وهذا الوهم الباطل الذي نسجه الخيال ولفقه - بغير سند يثبت حقيقته - هو الذي أدى كذلك إلى اعتقادنا بوجود المادية مستقلة عنا. إنني لا أعلم عن العالم الخارجي إلا ما في ذهني من مدركات حسية، فبأي حق أتعدى حدود علمي، وأزعم أن في الكون أشياء غير هذه المدركات؟ إننا نرى بعض أفكارنا واضحة قوية ناصعة، فلا نصدق أن تكون هذه الأفكار بغير أشياء تقابلها، وبهذا نخلق وجودين في كون واحد: أفكار وأشياء!

كلا، ليس في الكون إلا هذه الأفكار التي ندركها، ومن الخطل أن نفرض وجود ما لا نعلم.

صفحه نامشخص