قصة الفلسفة الحديثة

زكي نجيب محمود d. 1414 AH
56

قصة الفلسفة الحديثة

قصة الفلسفة الحديثة

ژانرها

Dialogues of Hylas and Philonous ، وهو عبارة عن حوار فلسفي يمثل فيه هيلاس نظرية الماديين، فينقض فيلونوس آراءه بالحجج الدامغة، وفيلونوس هذا إنما يعبر في هذا الحوار عن آراء بركلي نفسه.

أما فلسفته فشعبتان: شعبة سلبية وأخرى إيجابية، فهو في الأولى يحاول أن يبرهن على أن العالم المادي ليس له وجود مستقل عن العقل الذي يدركه، ثم يبين بعد ذلك أن العقول وما تشمل عليه من أفكار هي وحدها الحقيقة. ولما كان الله هو العقل الأسمى كان هو باعث أفكارنا، كما أنه في الوقت نفسه هو الذي يوجد ما بينها من روابط. (1)

بطلان الأشياء المادية:

يستهل بركلي كتابه «أصول المعرفة البشرية» بعبارة يلخص فيها المشكلة، ويوجز موقفه منها: «حسبك أن تلقي نظرة شاملة على ما تتألف منه المعرفة البشرية لتوقن يقينا جازما أن معرفتنا إحدى ثلاث: فهي إما أن تكون أفكارا قد انطبعت آثارها على الحواس حقا، وإما أن تكون أفكارا أدركناها بالتأمل في عواطفنا وخلجات عقولنا، أو هي أفكار كونتها الذاكرة والخيال ... ولكن لا بد أن يكون هنالك - عدا هذه الأفكار المتنوعة تنوعا لا حد له - شيء يعرفها ويدركها، ويتصرف فيها بما له من إرادة وتخيل وتذكر، وهذا الكائن المدرك الفاعل هو ما أسميه العقل، أو الروح، أو النفس، أو الذات ... وإنه لبديهي أن آراءنا وعواطفنا وأفكارنا التي يكونها خيالنا ليست موجودة خارج عقولنا، وليس أقل من ذلك بداهة أن الأحاسيس المختلفة أو الأفكار التي تنطبع على الحواس - مهما بلغ من امتزاجها واختلاطها بعضها مع بعض. لا يمكن أن توجد إلا في عقل يدركها.»

ولقد أراد بذلك أن يقيم الدليل على أن وجود العالم الخارجي متوقف على وجود العقل الذي يدركه، فإن لم يكن عقل مدرك لما كان هناك عالم مادي، فلو انعدمت حواس الأبصار لانعدمت معها المرئيات، ولو صمت الآذان لانمحت الأصوات، وعلى الجملة لو ذهبت الحواس لامتنع وجود الأشياء. ويجب أن نلفت النظر إلى أن بركلي لا يقصد بذلك أن يشك في وجود العالم الخارجي، ولكنه يرى أنه من خلق العقل والحواس، وهو ينكر وجود ذلك الجوهر المجهول الذي زعم الفلاسفة من قبله - ومنهم لوك - أنه كان وراء الظواهر المحسوسة. يقول بركلي: إنني لست أقل منك إيمانا بوجود ما تراه عيناي وتحسه يداي، إنما أنكر أن يكون ثمة شيء غير ما أرى وما أحس، وأن هذا الجوهر المزعوم إن هو إلا فكرة مجردة ليس لها حقيقة واقعة. إننا لو تأملنا فيما تأتينا به التجربة لما رأينا فيه ذلك الجوهر أو تلك القوة التي تنشأ عنها الظواهر أو تكون قواما للأشياء كما يزعمون، بل كل ما نراه هو مجموعة من الإحساسات إذا حللتها وجدتها تتألف من مرئيات معينة، وأصوات، وطعوم، وما إلى هؤلاء من ضروب ما تجيء به الحواس. هذا فضلا عن معرفتي بنفسي؛ إذ إني أعلم - إلى جانب تلك الأحاسيس - أنني أنا الذي أعرفها. وليس يعي الإنسان غير هذين الجانبين؛ إحساسات، وذات تدركها.

وإذا قلت إنني أرى أو ألمس شيئا ما، فإنما أريد بذلك أنني أدرك فكرتي عنه. إن هذا القلم الذي أكتب به موجود ما دمت أراه بعيني وأحسه بين أصابعي، فإذا تركته على المائدة وانصرفت من غرفتي، فسأظل أعلم أنه موجود، ويكون معنى وجوده عندئذ أنني لو كنت في الغرفة لرأيته وأحسسته، أو قد يكون معنى وجوده أن هنالك عقلا آخر يدركه. ويريد بركلي بذلك أن يقول إنه يسمع أصواتا، ويرى ألوانا وأشكالا ويذوق طعوما، إلى آخر هذه الآثار الحسية التي هي كل ما يستطيع أن يعلمه، بل كل ما يمكن أن يكون له وجود حقيقي. أما ما يقال من أن للأشياء جوهرا حقيقيا موجودا في الخارج سواء أكانت هنالك عقول تدركه أو لم تكن، فذلك ما يرفضه رفضا باتا، فلفظة «موجود» معناها «مدرك». وبعبارة تلخص ما مضى نقول: إنه يستحيل أن يكون للأشياء وجود خارج العقول التي تدركها «إن كل هذه الأجسام المادية التي يتركب منها الكون ليس لها وجود بغير عقل - فوجودها هو أن تدرك وتعرف ...» وفي هذا الرأي تتلخص رسالة بركلي.

ويقول بركلي: إن ما حدا بالإنسان إلى الزعم بأن للأشياء جوهرا حقيقيا خارجيا غير ما تنبعث فينا عنه من إحساسات هو الفرض الباطل بأن في أذهاننا ما نسميه بالأفكار الكلية المجردة (أي أن في الذهن أفكارا كلية غير الإحساسات الجزئية مما يدل على أن للأشياء حقيقة أخرى غير مجموعة الآثار الحسية التي تنطبع على حواسنا)، ولكن بركلي يقول: إن الإنسان ليخدع نفسه حين يخلط، فيظن الألفاظ أفكارا، فليس لهذه الأفكار الكلية وجود قطعا، وليس ثمة إلا الحقائق الجزئية التي نحسها بحواسنا. إن هذه الأفكار المجردة ليس لها وجود، حتى في العقل نفسه فضلا عن العالم الخارجي.

ولا بد هنا من معترض يسائل «بركلي» إذا استحال وجود الأفكار نفسها إلا في عقل يفكر فيها - وهذا ما نسلم به - فماذا يمنع أن يكون هنالك، خارج عقولنا، أشياء شبيهة بأفكارنا؟ أو على الأصح تكون أفكارنا شبيهة بها أو صورا لها؟ إذا كانت فكرتي عن هذا القلم الذي أكتب به لا يمكن أن توجد بغير عقل يدركها، فلماذا لا يكون ثمة قلم مادي في الواقع، هو الأصل الذي انبعثت عنه فكرتي؟ ولكن بركلي يجيب على من يعترض بهذا قائلا: إن الفكرة لا يمكن أن تشبه إلا فكرة ؛ لأن الشبه لا يكون إلا بين النظائر، فيماثل لون لونا وشكل شكلا، فإذا سلمنا بوجود أشياء مادية في الخارج، فلا يمكن لتلك الأشياء أن تخلق فينا أفكارا؛ لأن الشيء مادة، والفكرة روح، فلا يعقل أن يكون بينهما شيء من التشابه.

ولقد أخطأ «لوك» في تقسيمه صفات الأشياء قسمين: صفات أولية موجودة فعلا في الأشياء، وأخرى ثانوية تنشأ في العقول. ومن أمثلة الصفات الأولية الامتداد، فكل جسم يتصف بالامتداد بغض النظر عن العقل المدرك له، ومن أمثلة الصفات الثانوية الألوان والطعوم، فهذه من صنع العقل وتكوينه وليست موجودة فعلا في الأشياء التي تتصف بها ... يقول بركلي: إن «لوك» قد أخطأ في هذا، فليس هناك أي فرق بين صفة وأخرى، وكلها - امتدادا كانت أو لونا أو طعما - موجودة فقط في الذهن الذي يدرك الشيء.

وربما قيل إن للأشياء جوهرا يكمن وراء صفاتها، وإنه من الجائز أن تكون الصفات كلها كما يقول «بركلي» من خلق الذات، ولكن جوهر الشيء الذي تتعلق به تلك الصفات لا بد أن يكون له وجود حقيقي خارجي واقع، فإن قلت مثلا إن لون هذه التفاحة أحمر، ورائحتها زكية، وطعمها كذا، إلى آخر هذه الصفات، فما الذي تصفه باحمرار وبطيب الرائحة ولذة الطعم؟ أليس المعقول أن يكون للتفاحة جوهر غير هذه الصفات، تتعلق هي به؟ نقول: ربما يعترض بهذا على «بركلي» ويكون معناه أن هناك حقيقة خارج العقول هي جوهر الشيء على فرض أن الصفات لا توجد إلا في العقل وحده. ولكن بركلي يجيب عن هذا الاعتراض بأن الشيء هو مجموعة صفاته ليس إلا. خذ تفاحة مثلا في يدك، ثم افرض أنك لا تبصر، فستنمحي من فكرة التفاحة صورتها، فإذا فقدت بعد ذلك حاسة الشم انمحت من الفكرة رائحتها، فإذا فقدت بعدئذ حاسة الذوق، كانت فكرة التفاحة عبارة عن ملمسها، فإن فقدت حاسة اللمس انمحت فكرة التفاحة، ولم يعد لوجودها أي معنى بالنسبة إليك. ومعنى ذلك أن التفاحة هي صفاتها لا أكثر ولا أقل، فإن كانت الصفات من خلق الذات كما قدمنا، كانت فكرة التفاحة بأسرها من خلق الذات كذلك، وليس لها معنى من معاني الوجود خارج العقل المشتمل على تلك الفكرة. وبهذا محا «بركلي» المادة من الوجود، فليس في حقيقة الأمر إلا أفكار في عقول.

صفحه نامشخص