ويرى «هوبز» أن العالم يتكون من أجسام طبيعية، وأجسام سياسية، أي من الأشياء والناس، ولذلك ترى فلسفته تنقسم شعبتين هما: الفلسفة الطبيعية التي تبحث في الأشياء وتكوينها، والفلسفة المدنية وتبحث في المجتمع ونشأته، وهو في كليهما مادي يرى أن الطبيعة والمجتمع يتألفان من جزئيات تراكمت، فتكونت منها الأجسام طبيعية كانت أم سياسية.
وتظهر نزعة «هوبز» المادية ظهورا جليا في نظريته السياسية وهي أهم جوانب فلسفته؛ إذ يذهب إلى أن الدولة إنما تتألف من ذرات اجتمع بعضها إلى بعض، فكان من اجتماعها الدولة، كما تتراكم الذرات المادية، وتتلاحق فتكون الأجسام، وكما أن العالم الطبيعي يعتمد في تكوينه على الحركة التي بين أجزائه وما فيها من جذب ومقاومة، كذلك المجتمع لم يقم إلا على أساس من الحركة والمقاومة بين الأفراد، فقد كانت الإنسانية في حالتها الطبيعية الأولى في عراك متصل عنيف، لا ينقطع بين أفرادها، ولهذا كان احتفاظ الإنسان بذاته هو الخير الأسمى، وكان الموت هو أبغض الشرور، وقانون الطبيعة هو أن تقوي الجانب الأول من الإنسان، وأن تعاونه على اجتناب الموت.
كان الناس في حالتهم الفطرية الأولى لا يذوقون للسلم طعما، ولا ينفكون يتنازعون ويتقاتلون، وينظر كل فرد إلى الآخر نظرة ملؤها الخوف والشك، فلم يجدوا بدا من التعاهد والتعاقد فاتفق الجميع، على أن يتنازل كل إنسان عن جزء من حريته المطلقة، فتصبح مقيدة بصالح المجموع، وأن يحدد من مطالبه، فلا يحاول أن يظفر بكل ما يشتهي، هذا التعاقد بين الأفراد هو أساس الاجتماع والقاعدة التي تقوم عليها الدولة، ولكن هذا التعاقد لا يمكن تنفيذه وتحقيقه إلا إذا خضع الجميع لفرد واحد منهم تتمثل في شخصه الدولة كلها، وتكون إرادته هي القانون النافذ، وليس الصواب والخطأ، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، إلا ما تريده هذه القوة الحاكمة، ويستحيل أن يسود النظام في جماعة، وأن يطرد لها تقدم ورقي، إلا إذا وقر في نفوس الجميع أنهم يفيدون خيرا باحترامهم لرئيسهم الأعلى وخضوعهم له.
فأنت ترى من هذا أن نظام «هوبز» السياسي هو نتيجة مباشرة لنظريته المادية، إذ يصور لنفسه الدولة آلة عظيمة هي كل شيء، ولا يكون فيها للأفراد حرية الرأي ولا إملاء للضمير، بل وتستحق فيها كل عقيدة دينية تتعارض مع ما تراه الدولة حقا وخيرا، وهذا التصور للدولة يقابل رأيه في الكون بأنه يسير سيرا آليا، وكل ما يقع فيه يسير بقوة مادية.
ويسمي «هوبز» الدولة «بالتنين الجبار»
The Great Leviathan ؛ لأنها تبتلع في جوفها كل الأفراد الذين تنمحي شخصياتهم وإرادتهم أمام شخصيتها وإرادتها، وإنما دفع «هوبز» إلى هذه الآراء السياسية ما قام في عهده من صورة زلزلت عرش الملكية في إنجلترا، وأقامت على أنقاضها جمهورية رئيسها «كرومول» زعيم الثوار، فأجاب «هوبز» على تلك الحركة بفلسفته الاجتماعية التي تقرر للملك قوة مطلقة، وتلغي كل إرادة للأشخاص، وتنكر على الأفراد حق المعارضة والثورة على ولي أمرهم.
الدولة عند «هوبز» هي كل شيء، فلا دين إلا ما ترضاه الحكومة، ولا حقيقة إلا ما ينادي به السلطان، وليست تقاس قيم الأعمال إلا بشيء واحد هو قانون الدولة الذي يفرضه الملك فرضا، ولا يرى «هوبز» أن في الإنسان ضميرا يصح الركون إليه في الحكم على الأعمال والأشياء. إن الدين والأخلاق هما من صنع الدولة وإنشائها؛ إذ الإنسان الطبيعي لا يعرف إلا أنانية محضة، فالخير عنده هو ما يريده ويرغب فيه، والشر هو ما يضره ويؤذيه، وإذ كانت الدولة هي مصدر الدين والأخلاق جميعا، فلها وحدها حق الإشراف عليهما.
ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد ما بين هوبز وروسو من شبه في نظرية العقد الاجتماعي، فكلا الفيلسوفين يرى أن الدولة أساسها تعاقد بين الأفراد، ولكنهما يختلفان أشد الخلاف فيما يترتب على هذا الأساس من نتائج، فبينما «هوبز» يذهب إلى أن حالة الإنسان الطبيعية كان قوامها النفور والعداء بين الأفراد، وأنهم إنما تعاقدوا ليأمن الإنسان شر أخيه. ولكي يتمكن الفرد من الاحتفاظ بذاته دون أن يتعرض في كل ساعة إلى خطر الموت، إذا «روسو» يرى أن الناس ليسوا بطبيعتهم أعداء متناكرين، ولكنهم على نقيض ذلك، إذ هم بفطرتهم متحابون متآلفون، ولقد تعاقدوا على الاجتماع؛ لكي يوحدوا جهودهم في رقي الإنسانية وكمالها. كذلك يذهب «هوبز» إلى أن القوة هي الحق. ولما كانت القوة كلها متركزة في شخص الملك، كان الملك مطلق الإرادة لا يحد من سلطانه شيء، ومعنى ذلك أن الحكومة عند «هوبز» يجب أن تكون ملكية مطلقة، أما «روسو» فيرى أن الناس إنما تعاقدوا على أن يتمتع كلهم بحقوق متساوية وواجبات متساوية، لا يمتاز منهم فرد على فرد، وإذن فالحكومة عنده يجب أن تكون ديمقراطية، وأن يكون للناس حق إسقاط الحكومة إذا حادت عن جادة السبيل؛ لأنهم مصدر القوة كلها. (1-3) رينيه ديكارت
René Descartes (1596-1650م) (1) حياته وكتبه
ولد رينيه ديكارت في تورين
صفحه نامشخص