وكان موسى قائد الدفاع وحارس أبواب المدينة، وكان أهل غرناطة قد أحكموا إيصادها عندما ظهر جيش النصارى فأمر بفتحها وقال: سنسد الأبواب بأجسامنا، فأثارت هذه الكلمات وأمثالها عزائم الشباب، وحين قال مرة لجنوده: إننا لا نحارب لشيء إلا لصيانة الأرض التي تحت أقدامنا، فإننا إن فقدناها فقدنا بيوتنا ومملكتنا - قذفوا بأنفسهم للموت معه، ومن الحق أن ندون هنا أن فرسان العرب تحت لواء هذا القائد الجريء قاموا بأروع ضروب الشجاعة والإقدام.
وعول فرديناند في النهاية على اتباع أساليبه المعتادة في قهر المدن؛ فخرج من معسكره الذي اتفق أن التهمته النيران، وشرع في إفساد ما بقي في المرج من نبات وثمار، وبذل العرب آخر ما في قلوبهم من شجاعة لحماية المزارع والبساتين، وحارب موسى وأبو عبد الله أمام فرسانهما كما يحارب الأبطال البسلاء، ولكن المشاة وقد كانوا ضعاف القلوب هزموا وتقهقروا إلى أبواب المدينة، فتبعهم موسى حزينا وقد عزم ألا يقذف بنفسه في موقعة حامية وإلى ظهره أمثال هؤلاء الجبناء، وكانت هذه آخر حروب الغرناطيين، فقد لبثوا عشر سنين يناضلون أعداءهم على كل شبر من الأرض، وكلما وجدت أقدامهم مكانا تقف عليه حاربوا الإسبان دونه ثابتين غير مزعزعين، غير أنهم الآن لم يبق لهم غير المدينة، فحبسوا أنفسهم بين أسوارها يائسين جازعين، وعزم فرديناند أن يسلم المدينة إلى الجوع والسغب، فاتبع طريقة عبد الرحمن الناصر في حصار طليطلة وبنى في ثمانين يوما مدينة أمام غرناطة سماها: شنتفى
6 «الإيمان المقدس» ويقوم إلى اليوم بهذه المدينة تذكار أثري لهذا الحصار، وعمل الجوع بأهل المدينة ما تعجز عن مقاومته الشجاعة، فتوسل أهل غرناطة إلى أبي عبد الله أن ينقذهم من هذا العذاب، وأن يعقد شروطا للتسليم مع الفاتحين، فخضع لهم السلطان الشقي الطالع في النهاية.
أما موسى فلم يرض بالتسليم، ولبس شكته، وامتطى جواده، وخرج من المدينة إلى غير عودة.
وفي الخامس والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1491م/897ه أمضيت شروط التسليم، وكان منها شرط يحدد زمنا للهدنة لا يجوز بعد انقضائه أن تصل إلى المدينة أية نجدة، وأن تسلم عند ذلك للملكين، وترقب العرب عبثا وصول ما كانوا يؤملون من النجدات من مصر أو من سلاطين تركيا فلم تأت، وأرسل أبو عبد الله في آخر ديسمبر إلى فرديناند يطلب إليه أن يدخل المدينة ويستولي عليها، فتقدم جيش النصارى من مدينة شنتفى صفوفا، واخترق المرج، وعيون العرب الباكية تنظر إليه في جزع وحسرة، ودخلت مقدمته الحمراء، ونصبت الصليب الفضي الأكبر فوق قمة برج المدينة إلى جانب بيرق الحواري يعقوب، بين أصوات كانت تملأ الأفق صائحة: سنتياغو!! ثم نصب حولهما علما قشتالة وأراغون، وجثا فرديناند وإيزابلا على ركبتيهما يحمدان الله على هذا الفتح المبين، وسجد خلفهما الجيش كله، ورتلت فرقة المرتلين الخاصة صلاة الشكر في تبتل وخشوع.
ووقف أبو عبد الله في ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان عند مرور هذا الموكب، فتقدم إلى فرديناند وسلم إليه مفاتيح المدينة، ثم ولى مدينته المحبوبة ظهره منطلقا إلى الجبال حتى إذا وصل إلى قرية البذول وهي على مسافة مرحلتين من المدينة فوق مرقب عال من البشرات - وقف يودع المملكة التي نزع منها كما تنزع السن القادحة، فرأى المرج النضير وأبراج الحمراء، ومنائرها الضاربة في السماء، وبساتين جنة العريف، وكل ما بغرناطة من جمال وعظمة، فأجهش بالبكاء وصاح: الله أكبر!! ووقفت أمه عائشة إلى جانبه وهي تقول: حق لك يا بني أن تبكي كما تبكي النساء؛ لفقد مدينة لم تستطع أن تدافع عنها دفاع الرجال! ولا تزال البقعة التي ودع فيها أبو عبد الله مدينته بدموعه وزفراته تسمى إلى الآن: آخر حسرات العربي، ثم اجتاز أبو عبد الله إلى بر العدوة بإفريقية حيث كان يعيش بها هو وأبناؤه بالاستجداء وسؤال المحسنين.
هوامش
ظهور الصليب
لم تكن آخر حسرات أبي عبد الله إلا بداية عصر كله حزن وابتلاء وآلام ونكبات تتوالى على رءوس العرب المساكين، وقد لمع في أول الأمر بصيص أمل بأن الإسبان سينفذون ما عاهدوا المسلمين عليه عند تسليم غرناطة، وأن العرب ستكون لهم حرية العبادة وإقامة أحكام الإسلام، وكان هرناندو تالاڨيرا - أول أسقف بغرناطة بعد نكبتها - رجلا خيرا واسع أفق التفكير، يحافظ على حقوق العرب، ويحاول أن يكتسب مودتهم بالقدوة الصالحة والرفق والعدل، ثم بمشاكلتهم في عاداتهم وأحوالهم بقدر ما يستطيع، فأمر قساوسته أن يتعلموا العربية، وأدى صلاته باللسان العربي المبين، وكان لهذا التسامح أثره في عقول العرب، حتى إنه في سنة 1499م/905ه حينما قدم الكردينال شيمينيس مرسلا من قبل الملكة لمعاونة تالاڨيرا كان يخيل إلى الناس أن مظاهر النصرانية - وهي في أول نشأتها بأورشليم - تجددت ثانية بغرناطة؛ فقد تنصر في يوم واحد ما يبلغ ثلاثة آلاف من العرب، عمدهم المطارنة ونضحوهم بأغصان الثغام المقدسة، ولم يرض شيمينيس عن سياسة اللين التي كان يصطنعها الأسقف؛ لأنه كان من دعاة الكنيسة الحربية الذين يظهرون نشاطهم عقب كل انتصار، ولأنه كان يريد فيما يزعم أن ينقذ أرواح هؤلاء الملحدين رضوا أم غضبوا، فأدخل في عقل إيزابلا - وما كان أسرع تأثرها بكل ما له صلة بالدين - رأيا شديد الخطر، ووسوس إليها أن في حفظ عهد المسلمين خيانة لعهد الله، فأنفذت أمرها في الحال باضطهاد العرب.
وخابت أول محاولة لإجبار الغرناطيين على التنصر، وأظهر المتشددون من المسلمين ازدراءهم للمرتدين، فأخذوا وحبسوا، وبينما كانت امرأة تساق إلى السجن لهذه الجريمة، أخذت تصيح وتستثير عزائم أهل البيازين، فوثبوا إلى أسلحتهم وأنقذوها، واشتعلت الفتنة بغرناطة وتحفز أهلها للقتال، وكانت حامية غرناطة قليلة العدد لا تستطيع دفع الثائرين، فاشتد غضب شيمينيس وحنقه، ولكن الأسقف خرج هادئا لا يتبعه من رجاله إلا حملة الصليب، ودخل غير خائف ولا وجل ربض البيازين، حيث أحاط به الناس يقبلون طرف عباءته، ويبثون إليه شكواهم، ويبتغون إليه الرفق وحسن الوساطة، فأزال تالاڨيرا أسباب الثورة واضطر الكردينال إلى مغادرة المدينة.
صفحه نامشخص