فرح الأندلسيون بمقدمه وأطروا شجاعته، وابتهجوا بنجاة بلادهم، وأعجبوا بسذاجته وتقواه؛ إذ رأوا أنه لا يعمل عملا إلا بعد استشارة الفقهاء، حتى إنه أبطل الضرائب بإسبانيا إلا ما أقره عمر بن الخطاب في عهود الإسلام الأولى، ولكن طبقة المتعلمين بالأندلس كانت تسخر من جهله وجفوة أخلاقه، فلم يكن يحسن العربية، ولم يكن يدرك مرامي الشعراء إذا أنشده شاعر قصيدة في مدحه، وليس هذا بالنقص اليسير في رأي الأدباء الأندلسيين الذين لا يغفلون عن إنشاد الشعر والاستشهاد به ولو كانوا في بحر من الدماء، فلم يكن يوسف في أعينهم إلا بربريا، غير أن نقدهم لثقافته لم يكن له وزن ما داموا في حاجة إلى سيفه، أما جمهرة الأندلسيين ففكروا في رفاهيتهم أكثر مما فكروا في علمه، وكانوا على استعداد لقبوله مسرورين ملكا على الأندلس، وفي سنة 1090م/483ه استجدى ملك إشبيلية عون المرابطين ليصدوا عنه غزوات المسيحيين الذين استمروا في عدائهم وطفقوا يرسلون غارات مستمرة من حصن ليط.
أجاب ابن تاشفين الدعوة مظهرا التثاقل وعدم الرغبة، ولكنه في هذه المرة وجه هجومه إلى ملوك الطوائف وإلى نصارى قشتالة على السواء، وملأ الملوك الأغبياء أذنيه بشكوى بعضهم من بعض وخيانة بعضهم لبعض حتى عرفهم يوسف جميعا، ولم يثق بهم جميعا، وكان يعتمد على الأمة وعلى الفقهاء الذين أحلوه سريعا من عهده بألا يضم إليه الأندلس، وغالوا فأدخلوا عليه أن مما يجب عليه - إرضاء لربه - أن يعيد السلام والرفاهية إلى هذه البلاد المنكوبة.
أطاع ابن تاشفين نصيحة الفقهاء، لما كان يخالجه من الطموح في ملك إسبانيا الذي كان يكتمه ويخفيه، فشرع في إخضاع إسبانيا قبل انتهاء سنة 1090 فدخل غرناطة في نوفمبر، ووزع على قواده الكنوز العجيبة التي لم يروا مثلها أو ما يقرب منها في حياتهم من الماس والدر والياقوت والجواهر الثمينة ، والحلي الذهبية والفضية، والكئوس الزجاجية وعتاق البسط، وغير ذلك مما لم يسمع به من النفائس، ثم سقطت جزيرة طريف في ديسمبر، وشهدت السنة التالية سقوط إشبيلية وغيرها من كبار مدن الأندلس، وجرد ألفونسو جيشا يقوده البرهانس فهزمه المرابطون، وأصبح القسم الجنوبي في أيديهم إلا مدينة بلنسية التي لم تفلح فيها محاولة ما دام السيد الكمبيدور يتولى الدفاع عنها، وفي سنة 1102م/495ه سقطت بلنسية بعد موته، فغدت الأندلس الإسلامية كلها - حاشا مدينة طليطلة ورية - تابعة لمملكة المرابطين بإفريقية.
رضي جمهور الأندلسيين إلى حين - ولحاجة في أنفسهم - عما آلت إليه البلاد بعد دعوة المرابطين إليها، ولكن قلة من عظماء الأندلس والمثقفين كانوا ساخطين على تلك الحال، فإنهم كانوا يحكمون بطائفة من الدينيين المتزمتين
8
كما كانت تحكم إنجلترا في أحد عهودها، ولكن إنجلترا ظفرت بملتون
9
شاعر هذا العهد، فخفف من شدته وعبوسه.
اشمأز الشعراء من جفوة البربر وخشونتهم وجهلهم، فإنهم لم يفهموا روائع أشعارهم، وإذا حاولوا التشبه بملوك الطوائف الأدباء البارعين في ذوقهم المرهف ونقدهم الدقيق، أتوا بما يستثير الضحك، ولم ير المفكرون في رجوع السلطة إلى الفقهاء المتعصبين ما يبعث على التفاؤل؛ فقد كان هؤلاء أصحاب الرأي والشورى عند المرابطين، فحاربوا كل ما يتصل بالفلسفة، وجمدوا على أن يفهموا القرآن من تفسير مفسر واحد،
10
صفحه نامشخص