9
وأصدر الكتب والأوامر باسمه، ودعي له على المنابر، وضربت باسمه السكة، ولبس الملابس المنسوجة بالذهب، وقد نقش اسمه عليها شأن الخلفاء، وكيفما استوى له الأمر فإنه لم يكن بنجوة من كيد أعدائه، فإن المطامح لها خطرها، ولا بد للمضطهدين الذين ديس عليهم بالأقدام أن يثوروا يوما للأخذ بثأرهم، وهكذا كانت حال المنصور، فإن أحد الصقالبة الذين طردهم من القصر حينما رفضوا تولية الخليفة الصغير حاول اغتياله فلم يفلح، فقبض عليه مع كثير من كبار الدولة المتآمرين معه، وحبسوا ثم حكم عليهم بالموت فصلبوا.
10
وأصبح المنصور الحاكم الأعلى بقرطبة؛ لأن الخليفة الشاب لم يبد أي اعتراض على الوصاية التي فرضت عليه، وكانت أمه «صبح» لا تزال صديقة حميمة للمنصور، ولم يكن في المملكة من يزعم أنه يقارع المنصور أو يدانيه في القوة إلا غالب أبو زوجته، نعم إن الجيش أعجب بالمنصور وعجب من جرأته على قيادة الجيوش دون أن يكون له سابقة في الجندية، ولكنه عشق غالبا وفني في محبته؛ لأنه كان شجاعا حقا وجنديا بفطرته، وله من المهارة والتدابير في الحرب ما لا يغلب؛ لذلك كان غالب منافسا مخيفا للمنصور، وكان يجب أن يزل من طريقه ، فاتخذ كبير الوزراء العدة لذلك بطريقته الناعمة وعزيمته الهادئة.
وكلما حاول المنصور عملا سار فيه بثبات لا يتزعزع، وإرادة من الحديد، ومن الأدلة الغريبة على أخلاقه: أنه كان مرة جالسا في مجلس الوزراء وكان القوم يتحدثون في بعض الشئون العامة؛ إذ اشتم من بالمجلس رائحة لحم يشوى، وظهر لهم بعد ذلك أن الرئيس كان أحضر كواء لكي ساقه بينما كان يناقش زملاءه في هدوء وسكينة.
ومثل هذا الرجل لن يصعب عليه القضاء على أية عقبة ولو كانت القائد غالبا؛ فقد دبر مكايده بعناية فنجحت جميعا، وإذا رأى في وسائله من الشدة ما لا تستسيغه الأمة عمد إلى تدبير آخر فيه رضاؤها واستعادة محبتها، فحينما أطفأ المؤامرة التي قام بها عدد من كبار الدولة لاغتياله على النحو الذي سقناه آنفا، وأحس أن له أعداء بين الفقهاء ورجال الدين، أسرع إلى مهادنتهم، فدعا إلى عقد اجتماع من زعماء الفقهاء، وطلب إليهم أن يكتبوا رقا بأسماء كتب الفلسفة التي يرون فيها خطرا على الدين وخروجا عليه، وشهرة مسلمي الأندلس بشدة التحرج والتشدد في الدين معروفة، فطالما لقي الفلاسفة منهم عنتا؛ لذلك عجل الفقهاء وقدموا إليه قائمة بالكتب المقضى عليها بالإعدام، فأسرع المنصور إلى إحراقها علنا في الميادين، والمنصور كان من غير شك واسع الأفق، فسيح الصدر للفلسفة، ولكنه فاز بهذه الوسيلة السهلة بأن يدعى: حامي الإسلام، وبألا يأتمر به الفقهاء مرة أخرى.
إن رجلا مثله واسع الحيلة لن يعجز عن التخلص من غالب، فعمد أولا إلى إحداث بعض الإصلاح في نظام الجيش، فحد من سلطة القواد واختلس هذه السلطة لنفسه، ووصل إلى هذا باجتلاب جنود كثيرة من إفريقية ونصارى الشمال الذين ما كانوا يأنفون من بيع أنفسهم وسيوفهم لأي قائد مسلم، فأحبوا المنصور وأخلصوا له حينما رأوا سخاءه، وتوالت لديهم الأدلة على نبوغه الحربي، وقد كان دائما قاسيا، أمر مرة أن يقطع رأس جندي بالسيف الذي كان يحمله؛ لأنه لمح وميضه وقت أن كان يجب أن يكون مغمدا، ولكنه كان في غير أمور النظام والتدريب أبا لجنوده ما داموا يحسنون القتال ويفعلون ما يؤمرون.
وكان تأثيره في جنده لا يحد، كان مرة في خيمته فرأى جنوده يفرون في ذعر والنصارى في أعقابهم، فرمى بنفسه من كرسيه وقذف بخوذته بعيدا وجلس فوق التراب، ففهم الجند ما أبداه قائدهم من أمارات اليأس، فعادوا أدراجهم وهجموا على النصارى فاستأصلوهم وتتبعوا الفارين إلى شوارع ليون.
ثم إن الجند لم يجدوا من يسوقهم إلى مغانم كثيرة كالمنصور الذي قادهم إلى النصر في أكثر من خمسين غزوة
11
صفحه نامشخص