ولأول مرة يقرأ صاحبنا عن «الجمال» بما يفسره ويعلله، وكان قبل ذلك لا يعرف عن الجمال إلا أنه شيء يثير النشوة في الحس، بصرا كان أو سمعا، أما السؤال وراء ذلك، الذي يسأل: لماذا يثير ما يثيره من نشوة؟ فلم يكن يطرأ له ببال. ولأول مرة يقرأ عن موقف الإسلام من الخلافة، فيعلم أن الإسلام لم يحدد للحكم صورة معينة، خلافة كانت أم غير خلافة، مع أن صاحبنا لم يقرأ في تاريخ المسلمين عن عهد لم يكن الحكم فيه لخليفة.
وفكرة «المنهج» تعرض على صاحبنا لأول مرة، فهو قبل ذلك كان يقرأ ما يقرؤه من فلسفة وتاريخ ونقد أدبي وغير ذلك؛ ليعجب بما يقرؤه أو لا يعجب، أما أن يكون الكاتب ذا منهج معين فيما كتبه، وأن ذلك المنهج يمكن تحديده وتقنينه، فلم يكن يعلم من أمر ذلك شيئا، حتى قرأ - أول ما قرأ في ذلك الباب - تفصيلا لمنهج «تين» في كتابة التاريخ، والتاريخ الأدبي بنوع خاص؛ وهو أن الرجل يصنعه التقاء خطوط ثلاثة: البيئة المكانية، واللحظة التاريخية، وشخصيته ونسبه الأسري. وإنني لأقلب في أكداس المقالات التي كتبتها على طول فترة امتدت حتى اقتربت من ستين عاما، وأعني المقالات التي لم تنشر بعد ذلك مع غيرها في كتاب، فأجد بين الأكداس مقالة طويلة صدرت في شهر مارس سنة 1927م عن الخليفة أبي بكر الصديق، وأقرأ صفحاتها الأولى فأرى أن صاحبنا الشاب، وهو في سن الثانية والعشرين، يبدأ بحثه بتفصيل منهج «تين» الذي يعتزم الكتابة عن أبي بكر على أسس قواعده.
كثيرة هي الأفكار التي صادفت صاحبنا إبان النصف الثاني من عقد العشرينيات، وكثيرون هم أعلام الفكر الذين سمع عنهم لأول مرة. نعم، إنه كان بالطبع قد عرف أشخاص الفلاسفة وأسماء مذاهبهم، وذلك بحكم دراسته، ولكن العجب هو أنه لم يكن يتأثر بما يتلقاه في قاعات الدرس تأثره بما يحصله من كتابات المفكرين الأحياء، الذين يلتقي بهم في كتبهم وصحفهم وكأنه يلتقي بأشخاصهم يتحدثون إليه حديثا حيا نافذا إلى عقله.
وإنه لمما يلفت نظري الآن ، أن ذاكرتي وهي تعرض أمامي من المؤثرات في تلك المرحلة من العمر ما تعرض، فإنها لا تذكر كلمة واحدة عن أدب القصة وأدب المسرح؛ فلماذا لم أقرأ يومئذ قصة ولا مسرحية؟ كانت أول مسرحية قرأتها هي «أهل الكهف» للحكيم في أوائل الثلاثينيات، وكانت أول قصة قرأتها هي قصة «سارة» للعقاد، وأما كل ما عرفته عن القصة والمسرحية فقد جاءني من الأدب الإنجليزي بصفة مباشرة، ومن الأدب الفرنسي أو الألماني بصفة غير مباشرة عن طريق الترجمات العربية، وأبرز مثل في هذا المجال هما: ترجمة الزيات لقصة «آلام فرتر» لجوته الألماني (ترجمها الزيات عن الفرنسية فيما أظن)، وقصة «رفائيل» للامارتين الفرنسي. على أنني هنا أبحث عن «الأفكار» التي هي بضاعة «العقل» ومكوناته، وأما شأن الأدب الخالص في تكوين العقل فأمر آخر يحتاج إلى توضيح وتحليل.
2
أسدلت العشرينيات أبوابها، وبدأ عقد الثلاثينيات، وفي أول أعوامه (1930م) تخرج صاحبنا في مدرسة المعلمين العليا، وبدأ حياة التدريس ليجعلها أحد خطين متوازيين سار عليهما، أما الخط الثاني فهو الإقبال الشديد على متابعة الحياة الثقافية متابعة كادت ألا تترك كتابا أو مقالة مما كان يكتبه أعلام الحركة الفكرية والأدبية في مصر، ومعها متابعة أخرى - لم تكن شاملة - لما يصدر في أوروبا، وإنجلترا بصفة خاصة، من نتاج ثقافي. ولنا أن نضيف خطا ثالثا كان له أعمق الأثر في سيرة حياته بعد ذلك بأعوام، وذلك هو أن صاحبنا لم يكد يضع قدميه على طريق الحياة العملية حتى أدرك أنه إنما يمشي في طريق مسدود؛ فمهنة التدريس لم تكن تؤدي إلى منزلة مرموقة في دنيا الفكر والأدب، ولم يكن من سبيل إلى مثل ذلك المركز المرموق إلا أستاذية جامعية. فأما وباب البعثات العلمية إلى أوروبا مغلق في وجه صاحبنا يومئذ لسببين: أولهما ضائقة اقتصادية شملت العالم كله في بداية الثلاثينيات، وثانيهما هو أنه حتى لو لم تكن تلك الضائقة قائمة، فقصر البصر لم يكن ليأذن بنجاح في «الكشف الطبي» الذي كان في تلك الأعوام شرطا مفروضا على كل من تتولى الدولة إرساله في بعثة علمية؛ فلم يبق أمام صاحبنا إلا مخرج واحد ، وهو أن ينتسب إلى جامعة لندن؛ فلقد سمع عن جواز ذلك الانتساب وألم بشروطه، وجمع عزيمته وأخذ في إعداد نفسه، لكنه كان بهذه الإضافة إلى حياته العملية والثقافية أمام عبء دونه زحزحة الجبل، فكان كلما اصطدمت الأهداف بعضها ببعض، أرجأ نشاطه في التحصيل العلمي المطلوب في انتسابه لجامعة لندن.
كانت الثلاثينيات - وما بعدها بقليل - مرحلة لم يشهد الشاب مثلها في حياته، لا من قبل ولا من بعد، من حيث تضارب الميول والاتجاهات العقلية، فلم يكن طوال تلك الفترة على لون ثقافي واحد، وإن تكن «الفلسفة» أبرز من سواها وجودا وأوضح ظهورا، لكننا شهدناه إبان تلك الفترة - إلى جانب نشاطه الفلسفي - صوفيا على الطريقة الهندية مرة، متحمسا للعلم مرة، متشككا في حضارة عصرنا العلمية مرة، باحثا عن صورة جديدة للحياة الاجتماعية مرة ... وهكذا أخذت تقذف به الأمواج هنا وهناك كأنما هو مفقود الإرادة معدوم الهدف، حتى لنراه في آخر تلك المرحلة، وقبيل سفره مبعوثا إلى إنجلترا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة، كما سنروي فيما بعد؛ حتى لنراه يثور على نفسه في مقالة كان عنوانها: «هجرة الروح»، وسنعرض مضمونها بعد حين.
كانت أولى لفتاته الفكرية في أول أعوام الثلاثينيات متجهة نحو صوفية ترى في الوجود كله وحدة لا تعدد فيها ولا تمايز بين أجزائها، اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع، وهو المظهر الذي تدركه الحواس بصرا وسمعا ولمسا، فلقد كان ذات يوم من ربيع عام 1931م يسير وحده بين الحقول في الريف، ووقف طويلا أمام ماشية ألقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فدارت في ذهنه صور متلاحقة: نبات يتغذى من عناصر الأرض، وحيوان يتغذى من النبات، وإنسان يتغذى من لحم الحيوان تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يخرج غذاءه ذاك علما وفلسفة وشعرا ... ملأته هذه الفكرة، فكر راجعا إلى داره ليكتب مقالا مستفيضا فيها بعنوان «وحدة الوجود»، ويرسلها فتنشر في مجلة كان يصدرها سلامة موسى، وربما كان اسمها «المجلة الجديدة» أو ما يقرب من هذا المعنى.
وسارت به الأيام بعد ذلك متقلبة به بين سبل الفكر، لكن فكرة وحدة الوجود كانت تعاوده، وقد يكون أجمل ما كتبه فيها مقالة بعنوان: «درس في التصوف»، نشرت في عدد خاص من مجلة الرسالة (في 3 مارس 1941م)؛ إذ كان صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات يصدر أعدادا خاصة في أعياد الهجرة، عاما بعد عام.
المقالة حوار بين أستاذ متصوف مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي كان في أول الدرس عابسا نافرا مما يقوله الأستاذ؛ إذ يقول ما معناه أن لا فرق في الأعماق بين إنسان ونبات وحيوان، لا بل لا فرق بينه وبين الجماد نفسه. فلما رأى الأستاذ عبوس تلميذه ونفوره، قال له: انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطلق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح، أفينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق، أو ذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار، أو ذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها، أو أن تكون هذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟
صفحه نامشخص