وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.
يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فيرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرآ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل، فيا أيها الداخلون، انفضوا عن أنفسكم عند مدخلي كل رجاء.»
ويدخل الرجلان، فإذا بالجحيم هوة سحيقة، في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض، وقدمه عند حافة البحر، وجوانبه متدرجة درجات عراضا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون ...
وتأخذ المقالة بعد ذلك في وصف رحلة الشاعرين في حلقات الجحيم ليشهدا في كل حلقة من حلقاتها العشر فريقا من الآثمين يلقى من العذاب ما يتناسب مع إثمه في الدنيا، على منوال ما صنع دانتي في الكوميديا الإلهية، لكن مقالتي استخدمت السخرية إلى أقصى مرارتها؛ إذ جعلت الآثمين المعذبين أناسا فعلوا الخير وقالوا الصدق وبذلوا الجهد وأرادوا الإصلاح، فكان هذا كله محسوبا عليهم لا محسوبا لهم، ومن أجله حشروا في الجحيم لينالوا العقاب جزاء ما اقترفوا من حسنات حسبت عند قومهم سيئات.
ففي الحلقة الأولى من حلقات الجحيم شهد الشاعران أولئك الذين تمسكوا بمبادئهم في حياتهم الدنيا، فكان جزاؤهم هنا أن تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم. وفي الحلقة الثانية شهد الشاعران أولئك الذين بلغت بهم الغفلة في دنياهم أن يهتدوا بعقولهم، وألا يلتفتوا إلى أجسادهم ليشبعوا شهواتها، فكان جزاؤهم هنا أن عصفت بهم ريح قوية، حتى أخذتهم راجفة كأنهم الكراكي في العاصفة.
وكان في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، أولئك الذين أخذتهم في حياتهم العفة، فلم يضرعوا لأصحاب السلطان كي ينعموا عليهم بحقوقهم، فكان عقابهم هنا أن يتمرغوا في حمأة من طين تحت وابل من المطر، وأما في الحلقة الرابعة فقد شهد الشاعران أولئك الذين ضجوا في دنياهم طلبا للإصلاح، فأفسدوا على النيام نعاسهم وأحلامهم، فكان جزاؤهم هنا أن يتشعبوا فريقين، كل فريق منهما يدحرج جلاميد الصخر في اتجاه مضاد للفريق الآخرين، حتى يصطدم الفريقان في الطريق، فتعود جلاميد الصخر إلى حيث كانت أول الأمر، وهكذا دواليك.
وحشر في الحلقة الخامسة أولئك الذين أخذتهم في حياتهم دقة الحساب، فلم يتهاونوا في شيء، ولم يؤخروا موعدا عن زمنه المحدد، ولا أرجئوا عمل يومهم إلى غد، فهؤلاء أغرقوا إلى قاع بحيرة من الطين السائل، وكانت أنفاسهم المعذبة تظهر على سطح البحيرة فقاقيع تنتفخ لتنفجر، وحدث لأحدهم أن طفا على السطح لحظة، وكان الشاعران على مسمع منه، فقال لهما: إن جريمتنا هي أننا في حياتنا كنا نحارب الفوضى التي ضربت بجذورها في أرجاء البلاد.
فلما بلغ الشاعران حدود الحلقة السادسة، أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجا وقبابا متوهجة بألسنة اللهب، وقيل لهما: إن ذلك مدخل إلى مدينة الشيطان، ودخل الشاعران فرأيا سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، وفي كل منها ألسنة النار تموج لتحيله إلى رماد، ثم يعود جسدا من جديد لتعود إليه ألسنة النار؛ وذلك لأن هؤلاء الآثمين قد خولت لهم أنفسهم الشريرة أن يشجعوا في الرأي ليكونوا أحرار العقول، فحقت عليهم هذه الفضيحة المنكرة.
وفي الحلقة السابعة رأى الشاعران جماعة غرقى في نهر من دماء، وقيل لهما: إنها جماعة نأت بنفسها عن معارك السياسة لتحيا حياة التفكير الهادئ، على أن هذه الحلقة السابعة كانت ذات شعبتين، وكانت الشعبة الثانية مخصصة لمن كانت أخذتهم في حياتهم غيرة على الضعفاء والمرضى والمعوذين، فهؤلاء انقلبوا هنا أشجارا جافة قصيرة، وإذا انكسر من تلك الأشجار اليابسة فرع؛ سالت منه دماء كدرة، وحتى إذا ما أثمرت الأشجار جاءت ثمارها مسمومة.
وخصصت الحلقة الثامنة لمن كانوا في حياتهم لا يراءون ولا ينافقون، فغمسوا هنا في حفرة مليئة بقار يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف! فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها لا يبدو فوق الماء منها إلا خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت لجة الموج.
صفحه نامشخص