قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)
قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)
ژانرها
ومحور «الفيدانتا»
48
هو أن الله والنفس الإنسانية شيء واحد، فإن خيل للإنسان أنهما شيئان مختلفان، فما ذاك إلا لأن إدراكه أضيق من أن يرى اتحادهما، وإن الإنسان ليظل على ضلاله هذا حتى يحطم من نفسه حدود الذات. وفي هذا الكتاب تشبيهات جميلة لتوضيح ما بين النفس والله من صلة لو أزيلت بينهما الحواجز؛ من أمثلة ذلك قولهم: إن الهواء في قدح مقلوب يظل منفصلا عن الهواء المحيط، حتى إذا ما رفعت القدح زالت الفواصل، واتحدت أجزاء الهواء؛ فالذات الفردية هي بمثابة هذا القدح، فلو رضت نفسك على إنكار ذاتك، حطمت هذا القدح الفاصل بينك وبين الله، وحققت لنفسك السجينة حريتها . إن أشعة الشمس لا تختلف عن الشمس التي منها انبثقت، والموج الصاعد من البحر لا يختلف عن البحر، والشرر المتطاير من النار هو النار نفسها، فكذلك النفس الفائضة عن الله هي الله. (3-2) البوذية
لبثت طبقة الكهان مسيطرة على العقول حتى قامت في الهند «حركة عقلية جديدة» تدعو إلى الإصلاح الديني، وقد تمخضت هذه الحركة عن «الفدانتا» من جهة و«البوذية» من جهة أخرى. أما «الفدانتا» فتقيم تعاليمها على أساس «الفيدا» غير أنها تهتم بروحه لا بألفاظه. وأما «البوذية» فترفض الفيدا من أساسه. ونشب صراع بين البوذية الجديدة والفيدا وما إليها، وظل قائما مدى قرنين كاملين، حتى أقبلت جحافل الإسكندر الأكبر تغزو سهول البنجاب (عام 327ق.م.) فوجدت البرهمية القديمة تغرب شمسها، ونجم البوذية الجديدة يسطع في سماء الشرق، لكن البوذية لم يدم سلطانها في الهند إلا إلى القرن الخامس بعد الميلاد، ثم أفسحت الطريق للبرهمية مرة أخرى.
ولد «بوذا» واسمه «جوتاما» في بلد قريب من «بنارس» بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، وكان من الأسرة الحاكمة، غنيا، جميلا، وقد بدت عليه علائم التفكير والتأمل العميق، وهو ما يزال في مقتبل حياته، فكان يتخير مكانا منعزلا يأوي إليه ساعات ينفقها في التفكير، ولداته من الفتيان يلهون ويلعبون. وأول ما هز قلب الفتى اليافع أن رأى الطبيعة من حوله تتفتح عن ألوان من الجمال الرائع الخلاب، لكن تلك الروائع الفاتنة ما أخرجتها الطبيعة من جوفها إلا لتعيدها إلى قبورها؛ فكل ما تلده الحياة مقضي عليه بالتغير والفناء، فهذا الشباب الملتهب النضير ستلفحه ثلوج الشيخوخة فيجمد؛ فالحياة أمدها قصير، وهو على قصره مليء بأسباب الهم والعناء. ومهد الوليد وسرير الميت كلاهما تحوطه ألوان العذاب والأسى، ولا يحقق الإنسان لنفسه مطمعا حتى يعاني في سبيله الشقاء والألم، وكل محاولة يبذلها الفرد ليثبت ذاته بمثابة كأس من العلقم المر يجرعها، وأشد مسرات الحياة بهجة تشوبها شوائب الحزن. آه لو استطاع الإنسان أن يتخلص من الحياة التي تسبب له هذا الهم والشقاء! لكن الانتحار عبث لا يجدي، لأنه لا يقتلع الشر من جذوره؛ فقطفك الورود الناضجة لا يقتل شجرة الورد، فسرعان ما تزهر وردا يانعا جديدا. إن جذور الحياة، هي الرغبة في الحياة، فإن محوت من نفسك هذه الرغبة فقد طمست مصدر الألم، وأعددت لنفسك الطمأنينة والرضا.
تلك كانت بواكير الفكر التي دارت في رأس بوذا وهو في صدر شبابه، فلما أقبلت رجولته كان عزمه المصمم قد اتجه إلى العزلة، فما كاد يبلغ التاسعة والعشرين حتى غادر قصر أبيه، تاركا وراءه زوجة جميلة وطفلا رضيعا، وكان في صحبته خادم واحد، ولم يمض في رحلته طويلا حتى أعاد هذا الخادم وأعطاه سيفه وجواده، ثم لم يلبث أن صادف في بعض الطريق سائلا فقيرا، فبادله ثيابا جميلة برداء ممزق بال؛ لقد هاجر بوذا وخلف وراءه أبهة القصور وجلال الملك، فلم يطمع أن يكون بين الناس حاكما، إنما أراد أن يكون لهم معلما وصديقا. «إن الحياة في الأسرة مليئة بالعوائق، إنها طريق أفسدته العاطفة. أما ذلك الذي نفض عن نفسه كل رغبة دنيوية فحياته حرة طليقة كهذا الهواء، إنه ليتعذر على رجل يعيش مع أسرته أن يحيا حياة رفيعة بكل ما في الحياة الصحيحة من خصوبة ونقاء وكمال! دعني إذن أزل شعري ولحيتي، دعني أرتدي ثوبا أصفر (ثوب الزاهدين)، وأغادر حياة الأسرة والدار إلى حياة بغير مأوى.»
وقصد الأمير أول أمره إلى البراهمة يتلقى عنهم الدين، ولكنه وجد في تعاليمهم نظرا ضيقا جامدا كان لروحه الوثابة كالشبكة تمسك بالطائر المحلق فلا يطير؛ فازدرى تعاليم الفيدا، بل استخف بكل هيئة تزعم لنفسها سلطانا دينيا، وأيقن أن تجربته الشخصية وتفكيره خير مرشد يهديه في أمور الدين، فها هو ذا الدين القائم إذ ذاك يدعو إلى ذبح الأضاحي قربانا، لكن قلبه يرتعد هلعا إذ يرى الذبائح تنحر إرضاء لله، وتساءل كيف يمكن لهذا الشر أن ينتج خيرا؟!
فشل رجال الدين من البراهمة في بعث الطمأنينة إلى نفسه القلقة، فالتمس الهداية عند مورد آخر، وشاءت له المصادفة أن يلاقي جماعة مترهبة يروضون عقولهم وحواسهم رياضة منظمة تتبع منهاجا معينا؛ فانخرط بوذا في جماعتهم وأخذ يلجم حدة العقل وشدة الحواس كما كانوا يفعلون، لكنه عاد إلى قلقه بعد ستة أعوام؛ إذ لم يفلح ذلك المنهج في إرضاء نفسه، فلا تعذيب الجسد ولا رياضة العقل أتاحت لنفسه السجينة ما ينشد لها من حرية وفكاك.
فبينا هو جالس ذات يوم في ظل شجرة يتأمل، إذا به يحس فيضا من النور يشرق على نفسه، فقد تكشف الحق عندئذ لبوذا، وذابت شكوكه أمام ذلك الإشراق الساطع، كما تنقشع سحب الصيف أمام شمسه الحرور؛ إذ تبين لبوذا ساعتئذ أن خلاص النفس من خطيئتها وشقائها هو في شيء واحد؛ أن يحب الإنسان كل كائن حي حبا لا يرجو من ورائه غاية غير الحب. «إن إنسانا تأخذه الرحمة ويملؤه الحب، ويصفو قلبه ويملك زمام نفسه، لقريب من نعيم النرفانا.»
49
صفحه نامشخص