فأبعده بيلاييف عنه بيده وأخذ يمشي في الغرفة، وكان قد تملكه الغضب حتى أنساه وجود الطفل كما كانت عادته قبلا فقد كان يعتبر نفسه رجلا كبيرا ذا خطر، فلم يكن في أفكاره ما يتسع للانتباه للأطفال وجلس اليوشا مع سونية في إحدى زوايا الغرفة، وجعل يقص عليها كيف خدعه بيلاييف، وكان طول الوقت يرتعش ويتلعثم ويبكي، وكانت هذه هي أول مرة في حياته واجه فيها الكذب مواجهة خشنة، ولم يكن يعرف قبل هذا الوقت أنه يوجد في هذا العالم بجانب الكمثرى الحلوة والفطائر والساعات الغالية أشياء أخرى عديدة لا تستطيع لغة الأطفال أن تعبر عنها.
كيف صار المالك أجيرا
كنت أعرف الشيخ حسين ولي جارا لنا يسكن في قرية قريبة من كفرنا في الشرقية، وكان له ما يقرب من الفدان يزرعه ويعيش منه، فكنت وأنا صغير أخرج مع أخي أو ابن عمي فنسير في الحقول حتى نبلغ أرض هذا الجار فنقعد عند ساقية كان يسقي منها زرعه ونتحادث معه في شئون شتى. وكان حول الساقية حرجة من الأشجار المتكاثفة من السنط والجميز، وكان لها ظل سابغ إذا بلغناه قعدنا فيه وارتوينا بجرعات الماء نحمله بأيدينا من قناة الساقية إلى أفواهنا.
وكان الشيخ حسين فوق الخمسين معروق الوجه قليل شعر اللحية آدم اللون، وكان يقعد أحيانا معنا يحدثنا عن كل شيء يخطر في باله، وكان إذا تكلم نكت الأرض بعصاه وابتسم وأبرقت أساريره، فنرى في وجهه بشاشة حلوة نأنس بها.
ولم يكن حديثه يلذ لنا كثيرا لأنه كان يتكلم على الدوام عن الزراعة والغلات، وهذه كلها لم نكن في سننا تلك نأبه لها، وإنما كنا نحب منه تلك الأنسة التي كان يلقانا بها وأيضا ذلك الخيار أو القثاء الطازجة يقطعها من أرضه ويقدمها لنا.
وكانت هذه الساقية وما حولها من الأشجار والشيخ حسين وأولاده وما انطبع على وجوههم من هناء العيش وطمأنينة الحياة كلها كانت تجذبنا، فلا يكاد يمر علينا يوم بالكفر إلا ونزورها.
وشببنا ودخلنا المدارس واغتربنا بعضنا في القاهرة وبعضنا في المدن الأخرى، فكنت لا أذكر أيام صباي وحلاوتها إلا مقرونة بساقية الشيخ حسين وتلك الساعات التي قضيناها في ظلال أشجارها، وما كنت أنسى وأنا أزور الكفر زيارة الشيخ حسين فأقعد معه وأحاوره في الزراعة التي صرت أفهم فيه شيئا، وإن كانت «الدورة الزراعية» لم تكن قد وضحت بعد في ذهني مع أني كنت قد جزت الخامسة عشرة. فكنت أحرص على ألا يظهر جهلي بها أمام أحد الفلاحين.
وحدث وأنا حول العشرين أني زرت الشيخ حسين فألفيت الأحوال قد حالت، وما كنت أراه من طمأنينة في وجوه العائلة وانبساط وأنسة في كلا الشيخ حسين قد تبدل كله شيئا من الكآبة والصمت والشكوى.
فاستوضحته عن حقيقة شكواه فأخبرني، وهو يحيل كل شيء إلى إرادة الله: أن أرضه مرهونة وأن قيمة الرهن كبيرة تبلغ نحو 80 جنيها، وأنه يلقى صعوبات كثيرة في دفع القسط، ولكنه يعتمد على الله في وفاء الدين وتخليص الأرض، وكان يروى لي قصة الدين وهو ينظر إلى الأرض ينكتها بعصاه على عادته، وتبين لي من هذه القصة أن أرض الشيخ حسين كانت في الأصل غير مربعة تستطيل قليلا ثم يدخل طرفها في أرض الجار، وكان يحلم على الدوام بادخار شيء من المال لكي يشتري بضعة قراريط ويدفع عوضا للجار فتصير العشرين القيراط التي معه نحو ثمانية وعشرين قيراطا مربعة. وادخر بالفعل مقدارا من المال وشرع في مفاوضة جاره في شراء ثمانية قراريط منه وفي عمل الاستبدالات اللازمة لكى تصير القطعة مربعة. ولكن الثمن لم يكن كله حاضرا فاحتاج إلى الاقتراض من بنك فريد أحد المرابين في المدينة.
وكان فريد هذا مرابيا معروفا في المدينة، فلما ذكر اسمه التفت إلي ابن الشيخ حسين وكان يدعى محمودا وكان في سني تقريبا وقال: «أنا حذرته منه يا أفندي، والله العظيم أنا حذرته منه» قال هذا وزفر زفرة تشبه التأوه.
صفحه نامشخص