وبعض الآراء التي أدلى بها في المحاضرة تراءى لي عندئذ كأنه فج لم ينضج، مثال ذلك قوله: «إن نشر الحضارة بين سواد الأمة ليس من المستطاع ولا هو من الضروري». وقوله أيضا: «إن المخترعات قد أخذت مكان المستكشفات».
فإني أعرف أن القرن التاسع عشر والقرن العشرين إنما كان غنيين بالمخترعات لأنهما كانا أعظم العصور وأخصبها في المستكشفات، ثم القول بأن الحضارة غير ضرورية للأمة الروسية وغير ممكنة هو نوع من الهمجية.
وقد أخذت أوضح له رأيي في حذر وحيطة؛ لأن من الصعب أن يناقشه الإنسان في موضوع ما، فإنه يزدري بجميع الناس الذين لا يأنسون إلى عالمه الذهني فينظرون إليه نظرة الاستغراب ويرون أنه غير واضح، وقد كنت أنا أحد هؤلاء، وقد اعتدت أن أجتمع به مرتين في الأسبوع في إدارة الآداب.
وقد تناقشت معه غير مرة عن نقص الترجمة من حيث روح اللغة الروسية، ومثل هذه المناقشات لا تقرب الناس بعضهم من بعض، وكان مثل سائر الموظفين في إدارة الآداب ينظر إلى الأعمال نظرا رسميا فلا يكترث لها.
وقد قال لي إحدى المرات إنه قد سر لأنه رآني قد تخلصت من تلك العادة التي يقع فيها رجال الذهن في روسيا، وهي ميلهم إلى حل المسائل الاجتماعية، وكانت كلماته لي وقتئذ: «لقد كنت على الدوام أشك في حقيقة هذا الميل فيك، وظاهر من قصتك «مدينة أوركوروف» أن المسائل الصبيانية تقلقك وتزعجك، وهي في الواقع أهم االمسائل وأروعها وأعمقها».
وقد كان مخطئا في هذا الزعم ولكني لم أناقشه وقلت في نفسي: «فليعتقد في ما شاء إذا كان هذا الاعتقاد يسره أو إذا كان يضطر إليه اضطرارا».
ولكنه لج في السؤال حتى قال لي: «لماذا لا تكتب عن هذه المسائل؟».
فقلت له: إن مثل هذه المسائل كمعنى الحياة والموت والحب، هي مسائل شخصية تلصق بي أنا وحدي، فلا أحب أن أنشرها على الناس في الأسواق، وإذا اتفق في النادر أنى أفعل ذلك على الرغم مني فإني عندئذ أراني لا أحسن البيان، وكلام الإنسان عن نفسه نوع من الفنون الجميلة لا أزال أجهله.
ثم سرنا إلى بستان الصيف وجلسنا على أحد المقاعد، فكانت عينا بلوك زائغتين، وكانت فيهما لمعة وفي وجهه اختلاجات تنبئ عن حيرة أدركت منها أنه في اشتياق إلى الكلام وإلى السؤال، فحرك قدميه على الأرض، ثم التف إلي وقال بلهجة العتاب: «لماذا تخفي؟ أنت تخفي أفكارك عن الروح وعن الحقيقة، فلماذا تفعل ذلك؟».
وقبلما أجيبه على سؤاله اندفع ينكر على رجال الذهن الروسيين طريقتهم وخطتهم، وينتقدهم بألفاظ لم يعد لها موضع بعد الثورة. فقلت له: إني أعتقد أن الموقف الانتقادي الذي يتخذه ضد رجال الذهن هو في الحقيقة موقف ذهني؛ لأن هذا الموقف الانتقادي لم يكن ليأتي عن طريق الفلاحين الذين لا يعرفون من رجال الذهن سوى الطبيب الذي يبذل نفسه في خدمتهم ومعلم القرية في الأحوال النادرة، وليس هذا موقف عمال المدن الذين لا يعزون فضل رقيهم وتعلمهم إلا إلى رجال الذهن. وهذا الموقف خطأ في ذاته ثم هو قد أزال من رجال الذهن احترامهم لأنفسهم وأتلف عليهم عملهم التاريخي باعتبارهم حفظة الثقافة ووكلاءها؛ فإن مهمتهم في التاريخ وفي المستقبل بل هي الآن تنحصر في القيام بعمل الجواد الذي يجر المركبات، فقد رفعوا العمال بجهودهم التي لا تعرف الكلال إلى مستوى الثورة التي لم يسبق لها مثيل من حيث مدى المسائل التي تحاول حلها الآن وغورها.
صفحه نامشخص