وبعد أسابيع عدت إلى البيت فلم أجدها، فخرجت أضرب في الطرقات مما حولنا، في انتظار عودتها. وإنني لأمر بدكان جزار قريب منا، إذ رأيتها داخلة، ورأيت الجزار يرتدي الصديرية التي كانت تطرزها، فدخلت أسألها: ما الذي جاء بها إلى هناك؟ فأجابت: جئت أشتري لحما اشتهته نفسي!
قلت: «ولكن الخادم تشتري لنا كل صباح ما نحتاج إليه!»
قالت مغضبة: «وهل هناك ما يمنعني إذا لم يعجبني ما اشترته الخادم أن أخرج إلى السوق وأن أبتاع ما يعجبني؟»
وخرجت على أثر هذه العبارة وقد صبغ الغضب وجناتها فزادها جمالا، ووقفت أنظر إلى الجزار وإلى الصديرية التي يلبسها، ثم سألته: بكم ابتعت هذه الصديرية!
قال: «إنني لم أبتعها، بل صنعتها لي أختي.»
كان هذا الجزار شابا فارها، جميل الصورة، مفتول العضل، لا تزيد سنه على الخامسة والعشرين، وقد خيل إلي حين رأيت عليه الصديرية أن زوجي هي التي أعطته إياها، ثم راجعت نفسي، ولمتها على شبهة لا أستطيع تصديقها. فقد يكون حقا أن أخته هي التي صنعتها له، فالصوف من هذا اللون كثير في السوق ولن تتعلق زوجي بشاب جزار، تكبره بعشر سنوات أو نحوها. لذلك صرفت الوهم عني، وعدت إلى منزلي، فألفيت زوجي متجهمة، فأردت ملاطفتها كشأني معها، فقالت في حدة: اسمع. أنا لم أعد أطيق الحياة معك، لم أعد أستطيع أن أراك، ولم تعد أعصابي تحتمل نظرتك إلي، ولم يعد جسمي يحتمل مسك إياه، وقبلاتك تثير انزعاجي، وقد يكون هذا كله طارئا يزيله الزمن، وعلاجه عندي أن تطلقني فأشعر بأنني حرة في نفسي، وفي جسدي وفي وجودي ... ولعلي بعد زمن، أشعر بأننا نستطيع أن نعيد سابق مودتنا، بل سابق حبنا. فادع المأذون وطلقني، فلا أرى علاجا لموقفنا غير الطلاق!
طاش صوابي حين سمعت هذه الكلمات: أنا أطلقها؟! وماذا يبقى لي في الحياة! بل لماذا أبقى أنا في الحياة؟
وعبثا حاولت صرفها عن هذه الفكرة، فقد تشبثت بها كل التشبث: استعطفت، بكيت، ألقيت بنفسي على قدميها، جثوت أمامها، ونظرت إليها بعينين ملأهما الدمع، وفيهما كل معاني العبادة. لم يقنعها شيء من ذلك كله، بل كان آخر ما قالته: خير لك ولسمعة بناتنا أن تطلقني ... وأن تطلقني الساعة، وإلا هجرت بيتك وخرجت هائمة على وجهي!
لم يكن لي بد من النزول على إرادتها، فلم أتعود طيلة السنوات التي عشناها معا أن أعترض هذه الإرادة. وخرجت لساعتي، فجئت بالمأذون، ورجوته ونحن في الطريق أن يحاول تسكين غضبها، وردها عن عزمها ... وحاول الرجل، ولكنه لم ينجح، فطلقتها طلاقا بائنا!
وكنت أطمع في أن نتفاهم في أثناء عدتها، وأن تتراجع. لكنها تركت منزلي، وذهبت إلى أمها وحرمت علي أن أزورها.
صفحه نامشخص