وابتسم عباس لهذه العبارة، ثم قال: إن لله في خلقه شئونا، وهو وحده الذي يعلم الغيب، وهو أعدل العادلين وأرحم الراحمين!
وبعد هنيهة، التقت شفاههما على يد الغلام البريء الطفل تقبلانه، وقد أضاء قلبيهما نور البشر والسعادة!
الحب أعمى
كان عارف مرحا بطبعه، لا تفارق الابتسامة ثغره، ولا تفوته فرصة مسرة إلا ألقى بنفسه بين أحضانها. كذلك عرفه أصحابه قبل زواجه، وكذلك عرفوه منذ تزوج. وكان جيرانه أكثر اغتباطا بمرحه؛ فقد كان إذا دخل عليهم بيتهم ملأه حبورا وبهجة، فكانوا يقضون الساعات معه يضحكون ملء أشداقهم، فإذا آن له أن يتركهم تعلقوا به يستبقونه، إبقاء على متاعهم بالمسرة التي يفيضها وجوده على كل من حوله!
وكثيرا ما كان يبقى في مجالسه هذه إلى منتصف الليل وما بعده، فإذا غادرها قام الحاضرون جميعا يودعونه إلى باب المنزل، ثم لا تغيب الابتسامة عن ثغورهم حتى يغيب هو عن أنظارهم!
لكنه انقلب منذ أسابيع شخصا غير الذي ألفوا، علته سحابة من الكآبة، فلم يعد ثغره يعرف الابتسام، ولم تعد ضحكته تجلجل في المجالس فتعدي سامعيها فلا يملك أحدهم أن يمسك نفسه فلا يضحك. وفي أثناء هذه الأسابيع انقطع عن زيارة جيرانه حتى حسبوه أول الأمر مريضا، فلما سألوا عنه وقيل لهم إن به هما يشجيه، أشفقوا لما أصابه، وتمنوا لو استطاعوا تسلية همه!
وفيما هم جلوس يوما، وعندهم صديقتهم «طيبة» إذ دخل عارف عليهم ساهما، تكاد الكآبة تقتله . فلما جلس إليهم سألوه عما به في رفق وتلطف. وكأنما كان الشاب يريد أن ينفض ما في نفسه، لعله يتخفف منه، فأخذ يقص عليهم قصته، وفيما هو يروي وقائع هذه القصة، كانت «طيبة» تلقي إليه بكل سمعها، بل بكل وجودها، وكان وجهها الباش تغادره بشاشته شيئا فشيئا. فلما أتم عارف قصته انفجرت باكية، وكأنما طعنها حديثه بخنجر في قلبها!
أشفق الحاضرون لبكائها، وأشفق عارف معهم، وأخذ يعتذر لطيبة أن أثارت قصته أساها إلى هذا الحد.
قالت طيبة: «لا تعجب يا سيدي، فقصتك قصتي، وما أشبه ما أصابك بما أصابني. وأنا لست مرحة بطبعي كما كنت أنت مرحا، لذلك أثارت قصتك شجوني، وجسمت أمامي فجيعتي، فلم أملك دموعي، فاعذرني يا سيدي، وليعذرني أصحابنا جميعا!»
والواقع أن قصة عارف كانت تثير العجب بقدر ما تثير الشجن. وروايته لها كانت أشد فعلا في نفوس سامعيها، وأعمق أثرا عندهم مما لو قصها إنسان سواه.
صفحه نامشخص