وأثبت الطب أن عباسا لا عيب من جانبه، وأن هندا تحتاج إلى طويل الأمد. وأذعنت هند لهذا القضاء، وأخذت تتردد على الطبيب فإذا انقضى شهر بعد شهر ولم تحمل، تولاها الضيق، وكاد يتولاها اليأس، برغم ما كان عباس يبذله من لطف بها، وتهوين للأمر على نفسها!
وكان عباس من جانبه يرجو أن ينجح العلاج، وأن يرزقه الله من يرثه، بعد أن أثبت الطب أن لا عيب من جانبه. وانقضى عامان كان تعاقب شهورهما يزيد عباسا شعورا بعبء ما ينفق في هذا السبيل، فكانت نفسه تهفو إلى نهاية هذه النفقة نهاية سعيدة، بحمل يطمئنه ويطمئن هندا معه. فلما لم يحقق الطب رجاءه، بعد أن تولاه الحرص على عقب يخلفه، دعا إليه حماه وقال له وهند حاضرة: أنت تذكر يا عماه حديثنا منذ أكثر من عامين في أمر الخلف، وتذكر ما قلته وما قالته هند، ومن يومئذ نزلت على إرادتها، وبذلت كل ما وسعته طاقتي لتحقيق رجائها، لكن الطب عجز؛ لأن الله لم يشأ أن يكون لي عقب منها، ونحن الآن متزوجان من أكثر من عشر سنين، وأنا أحس - مع تقدم السن - بشدة الحاجة إلى من يعينني في شيخوختي، ومن يرثني يوم يختارني الله إليه ... وأنا ما أزال أحب هندا من أعماق نفسي، وقد صبرت هذه السنين الأخيرة ، وأنفقت ما أنفقت، طمعا في أن يكون لي منها غلام، تقر به عينها، وتقر به عيني، أما ولم يحقق الله رجائي، فقد رأيت أن تشير علي في هذا الأمر بحضرة هند!
ولم تنتظر هند جواب أبيها، بل قالت في صوت تخنقه عبرة تحاول المسكينة التغلب عليها: ألم أقل لك منذ سنتين إنه لا تثريب عليك إن هفت نفسك إلى من يخلد به اسمك؟ لقد كنت أطمع أن أكون أما لهذا الغلام، أما وقد أبت مشيئة الله علي هذه السعادة فأنت وما بدا لك! ولن أتحول من التفاني في محبتك، والعيش ما حييت في كنف عطفك وحمايتك، والآن أدعك مع أبي، والرأي ما تريان!
وانصرفت الشابة إلى مخدعها، كي تترك العنان لدموعها تخفف عنها هم يأسها، وأي يأس وأي حزن؟ فهذا زوجها يريد أن يتزوج فتكون لها ضرة مرجوة الخلف، إذ هي عاقر عقيم! هذا هو الستار الأسود الذي يحجب عن ناظرها، وعن أملها، كل رجاء في النعيم!
وماذا يريد عباس أن يقول لأبيها؟ أبلغ من أمره أنه يريد تطليقها؟! تلك إذن الطامة الكبرى، والنازلة القاضية على حياتها قضاء مبرما، أوليس معنى هذا أن تعود إلى بيت أبيها أمة رق لزوجته، تسومها الخسف، وتذيقها الهوان ألوانا؟
ذلك أمر لا شبهة عندها فيه، أما إن بقيت مع زوجها على ضرة فقد تكون ضرتها عاقرا مثلها، فيجمع الهم المشترك بينهما، وقد لا تستطيع - وإن ولدت - أن تكسب قلب عباس كما كسبته هي، فيظل لها من المكانة عنده ما يقيها السعير المحتوم في بيت أبيها.
ألم تدر زوجة أبيها البخور على رأس أبنائها لتفسد حسد هند إياهم؟! فإن يكن ذلك رأيها فيها، ولها زوج يحميها وبيت يقيها المذلة، أفتتحرج عن اتهامها بكل منقصة يوم لا يكون لها رجاء إلا في عطف أبيها، وقد أخذت هذه الزوج عليه مسالك قلبه وأمسكت بيدها خلجات فؤاده؟!
وإن ذلك كله ليدور بخاطرها، إذ ناداها أبوها وقال لها: لقد أقررت عباسا على أن يتزوج، وقد ترك لك الخيار، إن شئت بقيت على ذمته، أو شئت سرحك سراحا جميلا!
وقالت هند في غير تردد: الأمر في ذلك له، فإن سرحني بقيت على الوفاء له ما حييت، ولن أحب رجلا غيره، وإن أمسكني شكرت له نبيل عاطفته وسمو نفسه، فهو يعلم أن الذنب ليس ذنبي، وأن عواطفي معه من كل قلبي!
قال عباس: «وأنت يا هند على عيني ورأسي! وعصمتك من اليوم في يدك وليست في يدي ... ولن أنسى ما حييت أنك سبب هنائي ومفتاح فضل الله علي وعنايته بي!»
صفحه نامشخص