وكان الراهب «مريود» هو الآخر من أكثر أبناء مريم رقة عاطفة، وكان ينقش تماثيل حجرية بلا انقطاع حتى ابيضت لحيته وحاجباه وشعره من التراب، وأصبحت عيناه دائمتي الانتفاخ والانهمار، ولكنه كان ممتلئا قوة وفرحا وهو في ذلك السن الهرم.
ولا ريب أن «ملكة الجنة» كانت تبارك لطفلها سنينه التي تكر إلى عالم الفناء، وكان مريود يمثلها وهي جالسة على منبر وحول جبهتها هالة كلها من اللؤلؤ، وكان يحرص على أن يجعل ثنيات الرداء الذي تلبسه يغطي أقدام تلك التي قال عنها الرسول: «إن حبيبتي مثل حديقة مغلقة.»
وكان يمثلها أيضا في شكل طفل ملؤه الرشاقة وكأنها تقول: «إلهي أنت إلهي ...»
وكان في الدير غير هؤلاء شعراء ينظمون أناشيد لاتينية تكريما للعذراء مريم، وكان هناك أحد البيكارديين يروي عجائب سيدتنا نثرا وشعرا.
3
ولما رأى برنابا تلك المباراة في المدائح وذلك المحصول العملي؛ تحسر وندم على جهله وبساطته، وكان يتأوه وهو يتنزه منفردا في حديقة الدير: «وا أسفاه! لكم أنا سيئ الحظ لا يمكنني مثل إخوتي أن أمدح أم الإله؛ تلك التي قدمت لها قلبي مديحا يستحق تقديرا ما، وا أسفاه! وا أسفاه! لست إلا رجلا فظا لا صنعة بيدي ولا فن، وليس في يدي يا سيدتي العذراء لا مواعظ مهذبة أفيد بها الناس، ولا رسائل منمقة مقسمة بالنسبة إلى القوانين، ولا صور رائعة الجمال، ولا تماثيل صحيحة النحت، ولا أبيات من الشعر مستقيمة الوزن. ليس لدي شيء، وا أسفاه!»
وهكذا كان لا يني عن الشكوى، وترك نفسه للحزن ينتهبها كما يشاء.
وفي ليلة ما، سمع أحد الرهبان يقص قصة راهب آخر كان لا يعرف صلاة غير «السلام لك يا ماريا»؛ ولذا كان محتقرا لجهله وسذاجته، ولكنه لما مات صعدت من فمه خمس زهرات تمجيدا لكل حرف من حروف «ماريا»، وبذلك ظهرت قداسته.
ولما سمع برنابا هذه القصة بارك وأعجب مرة أخرى بطيبة العذراء، ولكنه لم يغتر بمثل ذلك الموت؛ فقد كان ممتلئ القلب بالغيرة والحماسة، وكان يود من كل قلبه أن يخدم مجد ملكته السمائية.
وفكر في الوسائل التي يمكن أن يستخدمها لإدراك ذلك الغرض، ولكنه لم ينته إلى شيء، فكانت آلامه تزداد يوما بعد يوم. وحدث في صباح يوم من الأيام أن استيقظ مسرورا وجرى مسرعا إلى الكنيسة، ومكث هناك منفردا أكثر من ساعة، ولم يرجع إلا بعد انتهاء زمن تناول الطعام.
صفحه نامشخص