من فوق سفينة القدر التي ألقت مراسيها على الشطآن المهجورة، أسلمت «كليوبطرا» قيادها، وعهدت بحمايتها، إلى ذلك الرجل العظيم، وكأنها ألقت بروحها إلى قوة من قوى الكون الخفية، التي لن يفكر إنسان في تحليل عناصرها، أو تعليل حقائقها، ولئن لم يكن حبه قد أثار في قلبها حبا مثله، لكفى أن يبعث حب قيصر القاهر في روعها شعورا بالفخار والعظمة، وأن يحيي فيها آمالا تفعمها ، فلا تترك في نفسها محلا لأمل آخر تصبو إليه؛ فغرقت في أحلام حملتها على أجنحة الخيال إلى مستقبل رائع عظيم، وطارت في عالم الغيب، حتى خيل إليها فيما يخيل، أن سفينة القدر قد أقلعت بها إلى غاية، إن جهلت ماهيتها، فإنها ولا شك باهرة، ما دام قيصر ربان سفينتها. •••
وبالرغم من أن أصوات المنجنيقات، وصخب العدد الحربية، حوالى أسوار قصر «البروخيوم»، كثيرا ما كانت تصل سمع العاشقين، فقد مرت عليهما الأيام هنية رخية، فلم يعكر صفوهما دخيل، ولم يفكرا في شيء، إلا في أن يكون كل منهما مبعث سعادة لصاحبه، حتى إذا انصرفا عن كل شيء في الدنيا، أقبلا على حديث الحب، وما إلى الحب من أحاديث، ولقد حققا بذلك مثلا أعلى كثيرا ما نشده العاشقون عبثا وتخيله المحبون تخيلا، مثل العزلة الكاملة، تظلل بسلامها العاشقين.
وأخذت الجيوش التي أرسل «قيصر» في طلبها تفد على مصر، فجاء من «قيليقية» ومن «رودس» سفائن مثقلة بالرجال والميرة، وشرعت كفة الأسراء ترجح كفة الآسرين، ولم يلبث العاشقان غير بعيد حتى أصبحا القوة المحتكمة التي تكيف الظرف بحسب ما تشاء، وقد أمدتهما بلاد «الغال» بكتائب من المشاة، ورومية بأثقال من عتاد الحرب، وتمت الأهبة للجلاد، بعد أن قدم «كلڨينوس» على رأس كتائب قوية تامة العدة من الفرسان، وسرعان ما رفع الحصار الذي طال أمده ستة أشهر، وانتقل ميدان الحرب إلى الرحاب.
وكان جيش «أخيلاس» أقوى مما قدر «قيصر»، وأوفر عدة، بل لقد كان لما أبدى قائده من المهارة والدربة في فنون الحرب، أثر كثير ما زج بقيصر في أحرج المواقف، ولكن «قيصر» ومن ورائه رومية كلها، بقوتها ومالها وأنفتها، لا بد من أن يصل إلى النصر؛ وأخذت بداءة المنتهى تظهر بوادرها، لما أن ساق «قيصر» جيوشه عبر الدلتا.
ومن فوق الأرض التي هي هبة النيل، من فوق الدلتا المقدسة، ثارت عجاجة الموقعة الفاصلة، فهزم جيش بطلميوس، كلا، بل ارتد في غير نظام، حتى ارتمى في أحضان النيل، ومزق تمزيقا.
ورأى بطلميوس أن لا مناص له من الموت ، فاقتبل النيل وغمز جواده غمزه قوية، فانطلق كالسهم إلى غمر النهر الفائض، ليكون مركبه إلى عالم الأرواح.
بهذا حكمت الأقدار، ولكن «قيصر» كان أرفق بأعدائه منها، فقد عفى عن «أخيلاس» بعد أن قيد أمامه في الأغلال، لقد اكتفى «قيصر» بهزيمة أعدائه، وارتد عجلان صوب الإسكندرية. •••
هنالك من الطابق السابع في برجها العظيم، ارتقبت «كليوبطرا» عودة قيصر، فلما اكتحلت عيناها بمرأى النسور الرومانية لامعة في وهج الشمس، دق قلبها دقات شديدة قوية، وفقدت كل صبر عن لقائه، فأمرت بهودجها، وقالت لحملته: «أسرعوا».
فانطلق بها اثنا عشر عبدا من عبيدها الأحباش، والعرق يتصبب من جباههم ومن فوق أرجلهم الأبنوسية، وهم يودون لو مكن لهم أن ينهبوا الطريق نهبا.
ولقد أرسل الصقر الذهبي القائم من فوق هودجها وهجا لامعا، وعكست ستائر المخمل الأرجوانية المعلقة بجانبيه لونا شديد الحمرة، جعله مرئيا من بعد، وعند أول إشارة آذنت بأن «كليوبطرا» قد وصلت إلى مكان الزحف المنتصر، ترجل «قيصر» بخفته المعهودة، وعليه مخايل الفروسة التي لا تفارقه، ومضى يحيي حبيبة قلبه وروحه، فقد أمضى أياما بعيدا عنها، وقد شاقه حبها، وتمنى أن يضمها إلى صدره ضمة، يفرغ فيها كل لوعته، ويعبر بها عن جماع صبابته. «إن مصر لك، إني ما غزوتها إلا لألقي بها عند قدميك، فاقبليها.»
صفحه نامشخص