تمهيد‏

القيصر الأصفر‏

الطفل والفراشة‏

السيد والعبد‏

رؤيا ننجال‏

تمهيد‏

القيصر الأصفر‏

الطفل والفراشة‏

السيد والعبد‏

رؤيا ننجال‏

القيصر الأصفر

القيصر الأصفر

ومسرحيات أخرى شرقية

تأليف

عبد الغفار مكاوي

تمهيد

من الشرق يطلع النور، وإليه اتجه الغرب - على حد قول الشاعر والمترجم العبقري و«عاشق الأدب العربي» فريدريش ريكرت (1788-1866م) - كما يتجه القمر الشاحب لضياء الشمس كي يتجلى بنورها ويحدق فيها وجها لوجه. وإذا كان بعض أدباء الغرب قد رجعوا إلى الشرق لينهلوا من منابعه الروحية، ويلقوا بأنفسهم في أحضان «الأم الأولى» للغة والشعر والحضارة، ويحاكوا مواده وأساليبه الفنية والأدبية محاكاة إبداعية؛ فقد آن الأوان لكي يتوجه الشرقي صوب الشرق؛ لعله أن يتعرف على كنوزه، ويحقق يوما ذلك الأمل العسير الذي تلخصه حكمة سقراط ومعبد دلفي: «اعرف نفسك»؛ يتساوى في ذلك الشرق الأدنى الذي لم نقترب بعد من جوهره، ولم نتمثل حقيقته التي تكشف عنها آثاره الفنية والأدبية والفكرية في مصر القديمة وأرض الرافدين، أو الشرق الأقصى الذي لم يزد اهتمامنا بتراثه الضخم عن عدد جد قليل من الترجمات والتعريفات المبتسرة، ناهيك عن تقصيرنا حتى اليوم في دراسة لغاته وآدابه ومدارسه الفكرية دراسة علمية دقيقة، كما تفعل كل البلاد المتقدمة.

وليست المسرحيات التي تلتقي بها في هذا الكتاب مجرد «مسرحة» لمجموعة من الحكايات والنصوص التي اطلعت عليها عن اختيار أو اضطرار - بحكم عملي في تدريس الفلسفة الشرقية - ولا هي محاكاة لأشكال ونماذج من الشعر والحكمة المأثورة عن عالم غامض بعيد (على طريقة ريكرت وبلاتين مثلا في الأدب الألماني)، وإنما هي أحاسيس وأفكار وقيم ومواقف جربتها وعايشتها خلال سباحتي المتواضعة في بحر الشرق، ثم ألبستها ثيابا صينية وبابلية، آملا أن تشف لعين القارئ المتعاطف عن هموم مصرية وعربية تجيش بها نفوسنا. ويكفي أن نتذكر أن «جوته» (1749-1832م) صاحب الديوان الشرقي

1 (1819م) وأول من بدأ حركة الاستلهام الأدبي للكنوز الشرقية بصورة جادة ومبدعة؛ قد عكف على كتابة ديوانه أثناء حرب التحرير الألمانية من طغيان نابليون، وأن الكاتب العربي الذي يحج اليوم إلى حكمة النفس الشرقية يريد كذلك أن يتحرر ويساعد غيره على التحرر من أمراض أصابت النفس العربية بالتشوه ومرغتها في حضيض «الأنا وحدية» والتسلط والانتهازية وسائر «اللاقيم» التي تجتاح ذواتنا الفردية والجماعية، وتدفعها لتدمير نفسها بنفسها؛ ولذلك فإن الاتجاه إلى حكمة الشرق القديم ليست هروبا من محنة حاضر تهدده الكوارث، وإنما هو محاولة للتزود بزاد روحي يمكن - بجانب الإصرار على الحرية والفكر العلمي المستنير - أن يعين على الخلاص منها. •••

والمسرحية الأولى في هذا الكتاب، وهي القيصر الأصفر، ثمرة انشغال طويل بالفلسفة الصينية القديمة المعروفة باسم «الطاوية» أو فلسفة «الطاو» (الطريق) التي تقول بالعودة إلى الطبيعة والحياة في ظل البساطة والبراءة والسكينة والاستغناء، بعيدا عن كل رغبة أو فعل يمكن أن يفسد مجرى الطبيعة ويعوق التوافق والتجانس معها، بذلك يتحد الإنسان ب «الطاو» أو بالأحرى يصبح هو «الطاو»؛ لأنه هو الطريق والمعنى، وهو الحقيقة والأصل والقوة التي تسير الكون، وهو الواحد الأزلي الأبدي الذي لا يوصف ولا يسمى. وقد اقترنت الطاوية باسم الحكيم المؤسس لها وهو لاو-تزو (من حوالي 570 إلى حوالي 517ق.م.). كما ارتبطت باسم الحكيم الذي بعث في أفكارها المجردة أنفاس الحياة، وأضفى عليها من شاعريته المبدعة ومثاليته الحالمة، وهو تشوانج-تزو (من حوالي 369 إلى 286ق.م.).

يختلف العلماء حول اسم لاو-تزو نفسه: هل هو عنوان مذهب ومدرسة أخلاقية وصوفية دونت تعاليمها في واحدة وثمانين حكمة شاعرية تحمل اسم «اللاو-تزو» وتعرف بكتاب «تاو-تي-كنج» (الطريق والفضيلة)،

2

أم أنه - حسب معناه في اللغة الصينية - هو المعلم الهرم والفيلسوف العجوز، أو الكامل بين القدماء (أو-ثان) الذي اعتزل الناس وذهب إلى محو الذات والاتضاع، واجتناب الشهوة، والحرص على رغبة واحدة هي عدم الرغبة في شيء؟

وتختلف الروايات المأثورة كذلك حول هذا الحكيم الصيني؛ فبعضها يجعل تاريخ مولده في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث عشر والسادس قبل الميلاد، وبعضها الآخر يؤكد أنه عاصر حكيم الصين الأكبر كونج-فو-تسو أو كونفوشيوس (من 551-479ق.م.) الذي كان يصغره في العمر ، وأن الأخير سعى للقائه حوالي سنة 517ق.م. فعنفه المعلم العجوز على غروره وادعائه وكثرة تعليماته وقواعده الأخلاقية والاجتماعية، ونصحه بالعودة إلى طريق الحكماء القدماء. ومن هذه الروايات ما يزعم أنه عاش مائة سنة، ومنها ما يدعي أنه لم يمت أبدا، حتى إن كاتبا طاويا من القرن الرابع بعد الميلاد يقرر أن لاو-تزو قد ظهر عدة مرات خلال التاريخ، وأنه في إحدى جولاته إلى الغرب من جزيرة سيلان قد ولد ولادة جديدة على هيئة بوذا. غير أن أرجح المعلومات التاريخية تقول إنه ولد في مزرعة بمقاطعة هو-نان (إلى الجنوب من بكين) وعمل أمينا للوثائق والمحفوظات في بلاط مملكة تشو، في فترة من أشد فترات التاريخ الصيني اضطرابا وأكثرها حروبا. ويبدو أنه اقتنع بعد خدمته الطويلة في «تشو» بأن الدولة في طريقها إلى الخراب، فاعتزل العمل، ووضع متاعه القليل على عربة يجرها ثوران أسودان، واصطحب معه صبيا صغيرا كان هو تابعه الأمين في رحلته. وعند حدود الإمبراطورية وأمام بوابتها الأخيرة تعرف عليه موظف الجمرك أو حارس الحدود، ورجاه أن يقيم في كوخه الفقير ويدون فلسفته، فاستجاب لرجائه وأملاه أكثر من خمسة آلاف كلمة يتألف منها ذلك الكتاب العجيب الذي ذكرناه. ثم رجع إلى عربته ومعه الصبي الصغير، وعبر الجبل في طريقه إلى الغربة، فلم يظهر بعد ذلك أبدا ولم يعرف المكان الذي مات فيه، وإن كان البعض يرجح أنه مات في التييت.

وتعتمد المادة التي نسجت منها «القيصر الأصفر» على شخصية هذا المعلم الحكيم والكثير من أقواله وأشعاره التي وردت في الكتاب الشهير المنسوب إليه، كما تعتمد على عدد من الحكايات والأمثولات التي جاءت في كتابات حكيم الطاوية الآخر تشوانج تزو. وإذا كان لاو-تزو يقوم بدور ثانوي في المسرحية، فإن «بطلها» - إذا صح الحديث هنا عن بطولة! - هو تلميذه الناسك الشاب الذي أعطيته اسم «مين-كين-وو». وهو قديس ثائر أو ثائر قديس يحمل بين جنبيه ذلك الطموح الذي يعذب المصلحين ويتعذبون به، ألا وهو الطموح إلى تغيير العالم. بيد أن الناسك الشاب يتعجل تغيير العالم قبل أن يغير نفسه، ويحاول معلمه أن يرده عن تهوره فلا ينتصح، وينطلق لمواجهة الظلم والقهر والتسلط المجسد في شخصية القيصر الأصفر، فيلقى الأهوال ولا يتخلى عن حلمه بإقامة العدل. وينزوي بعيدا في قرية منسية على حدود الصين يحقق فيها نوعا من «اليوتوبيا» الصوفية التي تصورها حكماء الطاوية في صورة الجماعة الإنسانية المثالية التي تعيش تحت ظلال المحبة والتراحم، والوداعة والنقاء. ولكن هل تصمد مثل هذه «اليوتوبيا» لقوى الظلم والردع والعقاب التي اشتهرت بها الصين القديمة؟ وهل يمكن في ظروف عالمنا المعقد أن نفكر فيها لحظة واحدة، أم هي شطحة من شطحات الحكماء والأدباء لا تستحق منا اليوم أكثر من ابتسامة الإشفاق والرثاء؟ ليس مهما أن نجيب عن هذه الأسئلة؛ فالأهم من ذلك أن «اليوتوبيا»، حتى على هذا المستوى البسيط المتواضع، تظل حلما لا نستطيع أن نتخلى عنه بسهولة. وأكثر من ذلك أهمية أنها تعبر عن ضرورة خالدة لا يمكن التنازل عنها، وهي ضرورة تحدي التسلط الذي يسحق كل أحلام الإنسان، لا في حياة حرة وعادلة ومبدعة فحسب، بل في مجرد أن يحيا حياة سوية. ولا يخفى على القارئ أن التسلط مرضنا العربي المزمن الذي لا أمل في شيء على الإطلاق قبل القضاء عليه. ولولا ضيق المجال لطال بي الحديث عن هذا الموضوع الشائك الذي يمد جذوره في تراثنا ونظم حياتنا وتعليمنا وسلوكنا، والذي ترك في نفسي جراحا ستلازمني إلى آخر عمري وتدخل معي في قبري! •••

والمسرحية الثانية وهي «الطفل والفراشة» أثارتها في نفسي إحدى حكايات «تشوانج-تزو» البديعة التي تقوم على المفارقة الذكية المحيرة، والنزعة المثالية المتطرفة إلى الحد الذي تطمس معه الحواجز الفارقة بين الحقيقة والوهم. ولعل هذه النزعة الذاتية المسرفة - التي تظل تهدد الشعراء والأدباء والفلاسفة أن لم يحترزوا منها بالبدء من الواقع الحي وموضوعية البناء الفني والفكري! - قد كانت وراء تشدد تشوانج-تزو في تأكيد الجوانب السلبية في الفلسفة الطاوية، وخصوصا عدم الفعل «الوو = وي» الذي سبق الحديث عنه، بحيث صورها في صورة الفلسفة الرافضة للقيام بأي دور اجتماعي وإصلاحي أو العاجزة عنه؛ وذلك خلافا لما أراده مؤسسها الأول الذي ضمنها آراء ومواقف تعد ثورية بكل المقاييس إلى اليوم. ولعل ذلك أيضا كان من أسباب معارضة علماء الكونفوشية لتفكير تشوانج-تزو، واتهامهم له بمعاداة الإنسان والتقاليد والمجتمع، ومعاشرة الأشباح والظلال والرياح الشمالية وجماجم الموتى.

ونص الحكاية التي أشرت إليها لا يزيد عن سطور قليلة يقول فيها الحكيم الحائر المحير: «حلمت ذات ليلة، أنا تشوانج-تزو، بأنني فراشة ترف هنا وهناك، وإنني أشبه الفراشة من كل ناحية. لم أدر إلا أنني أتابع أهوائي كما تفعل الفراشة، وغاب عني الوعي بأنني إنسان. وفجأة صحوت مستيقظا من نومي، ووجدتني «أنا نفسي» مرة أخرى راقدا في فراشي. والآن لا أعرف هل كنت إنسانا رأى في الحلم أنه فراشة، أم أني الآن فراشة تحلم بأنها إنسان؟! - بين الإنسان والفراشة حاجز، وتخطي هذا الحاجز هو الذي يسمى بالتحول.»

3

وبجانب هذه الحكاية الشهيرة نسج الخيال حكاية أو أمثولة أخرى عن حكيم دعوته «هوي-تسو» وجعلته يرى في المنام أنه سمكة. والحق إنني عندما بدأت في كتابة هذه المسرحية القصيرة لم أكن أتصور أنها ستصبح سخرية من نوع «الفارس»، أو أنها ستكون نوعا من النقد الذاتي! وربما كان أهم ما يستحق الالتفات فيها هو «التحول» الذي أكده حكماء الطاوية نحو الذات الحقيقية التي تتحد مع السماء والأرض والأبدية والكل، وتتخطى حدود التراب. وتحول الفلاسفة إلى الاتحاد بمعاناة الفقراء المتعبين من أمثال المرأة الشابة التي تشقى لإطعام نفسها وولدها هو في النهاية نوع من التصحيح لأحلام الفلاسفة!

والمسرحية الثالثة «السيد والعبد» تقوم على نص مشهور من نصوص أدب الحكمة البابلية وهو «حوار السيد والعبد». وقد التقيت بهذا النص لأول مرة في الفصل الذي كتبه عالم السومريات الأستاذ توركيلد جاكوبسن في الكتاب القيم «ما قبل الفلسفة» من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا،

4

ثم قرأته بعد ذلك في عدة ترجمات كانت أهمها وأدقها هي ترجمة الأستاذ و. ج. لامبرت في كتابه عن «أدب الحكمة البابلية».

5

ومن المعروف أنه وجد مع آلاف الألواح الطينية الأخرى في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال (حكم بين سنتي 668 و627ق.م.) وإنه قد دون على أرجح الآراء خلال الألف الأولى قبل الميلاد وفي العصر الكاسي أو الكاشي الذي استمر قرابة أربعة قرون (من حوالي 1795 إلى حوالي 1162ق.م.) وكان على وجه الإجمال عصر انحطاط سياسي واقتصادي في ظل حكام أجانب لا حظ لهم من مجد حمورابي (من 1792 إلى 1720ق.م.) الذي بلغت الحضارة البابلية في عهده ذروة عظمتها وقوتها.

كان أول ما جذبني إلى هذا النص هو الحس الدرامي الذي أجرى به الكاتب أو الشاعر المجهول حواره الذكي الساخر بين السيد البابلي الملول وعبده الصابر الذي تصورت أن الابتسامة لم تفارق شفتيه، ولا شك أن الحوار يمكن أن يوحي بالتشاؤم القاتم والعدمية المطلقة، وربما أشار من بعيد إلى خلفية حضارية أصبح فيها الكل باطلا، وتساوى الفعل وعدم الفعل، وفقد كل شيء قيمته مع انهيار القيم جميعا. ومع ذلك فقد ثرت بطبعي على هذا التفسير المتشائم، وعبرت في ختام المسرحية التي استندت فيها إلى ذلك الحوار عن استحالة الحياة بغير أمل ولا عمل. ولم يمنع هذا من استغلال النص إلى آخر مدى، على الرغم من التصرف في ترتيب أجزائه واللجوء إلى الحق المشروع لأي كاتب في تشكيل مادته بما لا يخرج بها عن هدفها وهيكلها الأصلي.

والمسرحية الأخيرة وهي «رؤيا ننجال» ليست مسرحية بالمعنى التقليدي ولا غير التقليدي. ولا يرجع هذا لكونها «مناجاة» (مونولوج) تدور في صدر ملكة «أور» التي تجتر رؤيا كابوسية أرقت نومها وملأت نفسها رعبا من مصير مدينتها السومرية التي دمرت بالفعل على يد قبائل «الجوتيين» من البدو الغزاة، وإنما يرجع قبل كل شيء إلى أنها ضراعة أو ترتيلة طويلة لمجمع الآلهة السومريين وإلههم الأكبر «إنليل» تنتهي بانتفاضة الشعب المطحون والملكة المترددة المذعورة، وعزمها على إنقاذ «أور» من السقوط؛ صحيح أننا نلتقي خلالها بألوان من الحوار ومشاهد تصور خراب المدينة على يد الشطار والانتهازيين والمتسلطين القدامى في أرض سومر، ولكنها تظل في النهاية ضراعة ومناجاة وترتيلة تردد لحن البكاء على تلك المدينة الماضية الحاضرة، وهو لحن يختتم بالثورة على الفساد والمفسدين فيما يشبه انتفاضة الأطفال الأبرياء والعزل المحاصرين اليوم في فلسطين، بعد أن فاض بهم اليأس من كل شيء، وأوشك بعضهم على انتظار برابرة العصر كما فعلت ننجال وبعض سكان أور في لحظة من لحظات الضعف التي لم تلبث أن تحولت إلى زلزلة وإعصار وطوفان.

ولا بد من القول باختصار إن أدب رثاء المدن المنكوبة قد عرف في حضارة وادي الرافدين، وسجل الشعراء والكتاب والمفكرون السومريون بكاءهم على المدن المدمرة مثل «أور» «ونيبور» (نفر)، وأكد (أجادة) في أوقات المحن والهزائم والخراب. وأقدم نموذج له وجد مدونا على لوح طيني من مدينة «لجش» ويصف دمارها الفظيع على يد عدوتها القاسية مدينة (أوما) التي طالما اشتبك الصراع بينهما على الحدود.

6

وقد التزمت بالنصوص السومرية التي اطلعت عليها في مصادر عديدة سبق أن ذكرت بعضها ولم أجد داعيا للخوض في تفصيلات تاريخية وأثرية يمكن أن يرجع إليها القارئ بنفسه؛ ولذلك أكتفي في هذا التمهيد بالإشارة إلى استفادتي في هذه الترتيلة المسرحية من نصوص أخرى مشهورة في الأدبين السومري والبابلي تؤكد كلها أن مشكلة الشرقي كانت ولم تزل هي مشكلة العدل، وذلك مثل النص المعروف باسم أيوب البابلي «لدلول بيل نيميقي أو سأمجد رب الحكمة» ونص الحوار بين المعذب والصديق (وقد نقلتها للعربية ودرستها في كتاب آخر أرجو أن يرى النور عن قريب)، وذلك بجانب الاستفادة غير المباشرة من قصيدة الشاعر السكندري اليوناني الأصل قسطنطينوس كفافيس (1863-1933م) في انتظار البرابرة.

7 •••

وأخيرا يبقى أن أدفع عن نفسي شبهات قد يقع فيها القارئ الذي أفسد فطرته «شبه النقد وأشباه النقاد» الذين استفحل شرهم وزاد إزعاجهم في السنوات الأخيرة. وأول هذه الشبهات أن يتصور أحد أن هذه المسرحيات - كما سبق أن ذكرت - ليست سوى نسيج مصطنع من قراءات ونصوص متفرقة. وأعتقد أن القارئ المتعاطف النقي الفطرة والإحساس سيرد بنفسه على أمثال هذه التصورات عندما يجرب النص ويلمس صدقه. وعلى هذا القارئ أعتمد على الدوام؛ به أثق، وإليه ألجأ من تجاهل النقد الزائف وجهله. ولست في حاجة إلى القول بأن عددا كبيرا من الحكايات والمواقف والشخصيات في «القيصر الأصفر» وغيرها ليس لها أصل بالمرة فيما قرأت من نصوص، وأن أصلها ومنبعها في خيالي وقلبي المهموم بواقعه المصري والعربي الذي لم تعد أزماته خافية على أحد.

والشبهة الثانية التي يمكن أن يقع فيها الظن الحسن أو السيئ هي أن هذه النصوص - وخصوصا القيصر الأصفر - يمكن أن توحي بالحنين إلى القديم أو برغبة المؤلف في «الرجوع إلى الماضي»، ولأن المجال يضيق عن دفع هذا الاتهام، ولأن هذا التعبير الأخير يحمل تناقضه في ذاته؛ فإنني أكتفي باقتباس حكاية قصيرة مأثورة عن حكيم صيني هو هان-في- تزو (من 280-233ق.م.) الذي يعد أعظم حكماء مدرسة المشرعين في الصين القديمة؛

8

فهو يقول صراحة إن الحكيم لا يصح أن يسعى لتقليد القدماء أو السير على طريقهم، أو إقامة أي نموذج أو معيار ثابت يصلح لكل زمان؛ لأن الحكيم الحقيقي هو الذي يعيش عصره ويعرفه، ويصارع مشكلاته. ثم يروي هان-في-تزو هذه الحكاية القصيرة التي تغنيني عن مناقشة المتشنجين من أبناء أمتنا، كما تغنيني عن ترديد كلام المستنيرين من أبناء أمتنا كذلك الذين يقاومون تثبيت مطلق الماضي والقديم في زمن يطالبنا بالتطور والتقدم إلى المستقبل. «كان فلاح من منطقة سونج» «يحرث حقلا يقوم في منتصفه جذع شجرة. وفي يوم من الأيام اندفع أرنب بري عبر الحقل واصطدم بجذع الشجرة، فانكسر عنقه ومات. وترك الفلاح محراثه ووقف بالقرب من الشجرة؛ على أن يتمكن من الإمساك بأرنب آخر بنفس الطريقة. غير أنه لم يحصل على هذا الأرنب أبدا، ولم يجن من ذلك إلا سخرية أهل سونج وضحكهم عليه.» ويعلق الحكيم على هذه الحكاية بقوله: لو أراد أحد اليوم أن يحكم الشعب بنفس السياسة التي اتبعها الملوك القدماء لكان شأنه في تصرفه هذا شأن الفلاح الذي راح ينتظر الأرنب البري بجوار جذع الشجرة.

وأخيرا فليست هذه المسرحيات آخر الأمر سوى محاولات وتجارب أضيفها - ورزقي على الله! - إلى تجارب ومحاولات سابقة، وأقدمها إلى القارئ المتعاطف البصير الذي لن يخذل الإخلاص والصدق أبدا.

القاهرة في شهر شوال 1408ه/يوليو 1988م.

القيصر الأصفر

الشخصيات

المعلم العجوز (لاو-تزو).

الناسك الشاب (مين-كيي-وو).

القيصر الأصفر.

الحارس الأول.

الحارس الثاني.

التابع (لو-شون-وانج).

الرجل (موظف الجمرك وحارس الحدود).

صبي.

نساء ورجال وشيوخ من أهل البلدة الصغيرة على حدود الصين.

1 (قاعة يجلس فيها المعلم الصيني العجوز. المعلم مستغرق في تأملاته التي يوقظه منها الناسك الشاب.)

الناسك (بعد أن ينحني ويركع على ركبتيه ويضع جرابه على الأرض) :

معلمي. (المعلم يرفع عينيه إليه ولا يتكلم.)

الناسك :

معلمي، لقد أردت أن أودعك.

المعلم (يتطلع إليه وإلى جرابه الملقى بجواره) :

أنت؟ حقا حقا، هذا ما أراه.

الناسك (يرفع صوته قليلا) :

جئت لأستأذنك قبل السفر.

المعلم :

تودع، وتستأذن قبل السفر! وإلى أين عزمت يا ولدي؟

الناسك :

عزمت، رعتك السماء يا معلمي، هذه هي الكلمة الصحيحة؛ لقد توقعت أن تقولها بنفسك.

المعلم :

قلت إلى أين عزمت؟

الناسك :

إلى العالم يا معلمي، بعد شهور من السهر والتفكير قررت أن أخرج إلى العالم.

المعلم :

العالم؟ هو في كل مكان نفس العالم؛ يمكنك أن تعرفه دون أن تغادر عتبة دارك، يمكنك أن تراه دون أن تتخطى حدود قريتك. (يمد الكلمات فيما يشبه الغناء):

العالم في كل مكان نفس العالم،

وقديما عرف العالم،

من لم يفتح بابه،

ورأى الأرض.

وسلك دروب الفلك الأعلى،

من لم ينظر من نافذته!

فالعالم في كل مكان هو نفس العالم.

الناسك :

كان هذا قديما يا معلمي؛ اليوم تغير الزمن وتغير البشر.

المعلم :

الزمن تغير؟ والبشر تغيروا؟ هل أسمع هذا من تلميذي؟!

الناسك (مندفعا) :

نعم يا سيدي. نعم. لا بد أن أقوله، ولا بد أن تسمعه.

المعلم (في يأس) :

تكلم؛ فأنا منصت لك.

الناسك :

إن ما قلته هو كلام الحكماء القدماء. وما اخترت أن أخرج إلى العالم إلا لكي أسير على طريقهم.

المعلم :

ليتك تفعل هذا يا بني؛ فطريق الحكماء القدماء هو طريق الحقيقة.

الناسك :

وهو الطريق الذي علمتني أن أسير عليه.

المعلم :

أنا يا ولدي؟

الناسك :

أجل، أجل؛ هل تذكر يوم قلت لي: عندما تحكم الدولة حكما عادلا، فمن حقنا أن لا نشغل أنفسنا بها، أما إذا حكمت حكما ظالما، فمن الواجب أن نزورها.

المعلم :

وهل فكرت في عواقب الزيارة؟

الناسك (أشد اندفاعا) :

نعم يا معلمي. وعلى استعداد أن أتحملها. إن المرضى يتزاحمون على باب الطبيب. والأنين يصم آذان القادرين على السماع. أريد أن أضع حكمتي موضع الاختبار. أريد أن أجرب فائدتها إن كان فيها فائدة.

المعلم :

هل قالت لك حكمتك أن تناطح الثور الهائج؟ هل علمتك أن تلقي بنفسك في فوهة البركان؟

الناسك :

لقد صممت أن أرى كل شيء بنفسي، أن ألمس الجروح بيدي، صممت أن أذهب إلى هناك.

المعلم :

إلى هناك! إلى أين تقصد يا بني؟

الناسك :

إلى مملكة «تسي».

المعلم :

أهي التي استشرت فيها نار الظلم؟

الناسك :

وتأكد لي مما سمعت أن القيصر الأصفر الذي يحكمها ظالم مستبد. إنه يتصرف وكأن الدولة لا قيمة لها، ويفعل ما يشاء كأن الشعب لا وجود له؛ لهذا يتهاوى الناس كالأشجار الخاوية التي تضربها العاصفة، وتلقى الجثث في كل مكان كأكوام الرماد المتبقي من الحريق، كالهشيم الذي تتزاحم عليه الطيور الجائعة. إن الشعب قد ضاقت به الحياة، والمملكة كأطلال بيت قديم عشش فيه العنكبوت، وحطت عليه البوم والغربان.

المعلم :

وتريد أن تواجه المملكة والملك!

الناسك :

وأعيدها إلى الطريق.

المعلم :

تريد أن تعيدهما إليه قبل أن تعود أنت إليه؟ تريد أن تحققه فيهم قبل أن تتحقق به؟ تريد أن تغير العالم قبل أن تتغير؟!

الناسك :

هذا هو الطريق إلى التحقق والتغيير، هذا هو الطريق إلى الطريق!

المعلم :

الطريق الذي لم تجربه في نفسك قبل أن تجربه في غيرك؟ الذي لم يغيرك قبل أن تسعى لتغيير سواك؟ قل لي يا بني!

الناسك :

تفضل يا سيدي، أسمعني نصائحك قبل الوداع.

المعلم :

أخشى أن تسمعها لآخر مرة؛ كيف ستواجه ذلك الحاكم الطائش الطاغية؟

الناسك :

كما واجه الحكماء القدماء أمثاله.

المعلم :

وكيف واجهوهم؟

الناسك :

بالحكمة والفضيلة، بالفطنة وحب البشرية، بالصدق والأمانة والتواضع.

المعلم :

لن تجني من هذا الزرع حبة واحدة!

الناسك :

كيف يا معلمي؟

المعلم :

سيكرهك الناس بسبب فضيلتك، وسيتهمونك بالجنون بسبب حكمتك، سيحملونك ذنب الشر الذي جلبته عليهم طيبتك. آه يا ولدي! وسيظلمونك ويعذبونك ويجلدونك.

الناسك (مقاطعا) :

الناس تفعل هذا؟ الشعب؟ لا، لا، لا يمكن أن يفعل الشعب هذا.

المعلم :

يفعله أصحاب النفوس الصغيرة لأنهم يحسدونك على كبريائك. يفعله المتصارعون على الشهرة والمجد لأنك تحتقر الشهرة والمجد، يفعله الجلادون الذين يجدونك أمامهم بلا سوط في يدك. وعندما تقف أمام الناس لتعظهم وتهديهم سينفضون عنك قائلين: هذه طبلة جوفاء جديدة، كالطبول التي طالما دقت آذاننا! نعم يا ولدي، لن تصل بهذه الطريقة إلى قلوبهم. وإذا سمعت نصيحتي قلت لك: لن تصل إلا إلى نهايتك!

الناسك :

إني أسمعك يا معلمي، أرجوك، أكمل نصائحك.

المعلم :

نصائحي؟ إني أحوج إليها منك؛ إنما هي أسئلة أتمنى أن تفكر فيها قبل أن تعزم على سفرك.

الناسك :

لقد عزمت يا سيدي. لكني لن أتحرك من مكاني قبل أن تطرحها علي.

المعلم :

وهل ستفكر فيها؟ هل تتذكرها يوما؟ آه من تهور الشباب! آه من اغتراره بخلود الربيع والقوة! ها أنا ذا أسألك يا ولدي.

الناسك :

تفضل يا معلمي. إنني أسمعك.

المعلم :

قلت إنك ستحاول أن تعيد ذلك القيصر الظالم إلى الطريق.

الناسك :

نعم نعم، كما أعاد الحكماء القدماء أمثاله إليه.

المعلم :

وكيف تأكدت من ظلمه؟

الناسك :

تأكدت يا معلمي. لا يمكن أن يكون كل من قابلتهم كاذبين. لقيت أفواجا من اللاجئين من مملكة تسي. تكلمت مع الفلاحين وقاطعي الأخشاب وصيادي السمك الفقراء. عرفت من الأطفال والنساء والعجائز ما لحق بالآباء والأزواج والأبناء. حتى الأرض والسماء غاضبان عليه.

المعلم :

الأرض والسماء؟ وكيف هذا؟

الناسك (يتمشى جيئة وذهابا) :

منذ أن تولى القيصر الأصفر حكم المملكة والسحب تمر عليها دون أن تمطر. منذ أن جلس على عرش المملكة وأوراق الشجر تسقط قبل أن تذبل وتجف. منذ أن تسلط على المملكة وبريق الشمس يخفت، وضوء القمر يزداد صفرة وشحوبا. إن مظهره يحارب مخبره. ووجدانه يلعن سلوكه ويتبرأ منه. كل شيء في المملكة صار أصفر أصفر!

المعلم :

وكيف تطمع في أن تهديه للطريق؟ كيف تنتظر أن يستمع منك للحقيقة؟

الناسك :

كما قلت يا سيدي، سأقف أمامه كما وقف الحكماء القدماء، سأهتف به في ثبات واتزان: أيها القيصر، لقد اضطرب نظام العالم. اختلت أسس الحياة واهتزت قواعد المملكة. وإرادة السماء لا تنفذ، حيوانات الحقل تهرب مذعورة، تطاردها الذئاب في غيبة الراعي. الطيور تصرخ في الليل، تحوم مولولة فوق الأراضي المتشققة والوديان الذابلة، فوق الحدائق الخاوية من الكروم والعشاق. أما أسراب الجراد فتزحف كالسحب السوداء. والجراد يلتهم ما كان من قبل يسمى شجرا أو عشبا أو خضرة، ينشر الخراب على الأرض، على كل ما يزحف فوقها أو يحلق أو يمشي.

المعلم (مبتسما) :

وستهتف بصوت عال: هذا هو ذنب الحكم، هذا هو ذنب الحاكم!

الناسك (في حماس) :

كما فعل الأجداد من الحكماء؛ الحكماء الذين أتبع طريقهم وأعتقد أنني خادم لهم.

المعلم :

جميل، رائع!

الناسك :

والفضل فيه لكم. لقد تعلمته منكم.

المعلم :

وتعلمت أيضا أن تكون خادما للأرض والسماء.

الناسك :

بالطبع، وللطريق الحق، والأبدية والوحدة والواحد يسري في الكل؛ هل هناك اختلاف بين خدمة الأسلاف وخدمة الأرض والسماء؟

المعلم :

في الأصل لا. ولكن في هذه الحالة نعم!

الناسك :

أرجوك، فسر كلامك.

المعلم :

استمع إلي؛ سأفسره من ناحية الحاكم.

الناسك :

القيصر الأصفر؟

المعلم :

نعم نعم. هذا الذي تقول إنه صبغ كل شيء بلونه البغيض. ثم من ناحيتك أنت أيضا يا ولدي.

الناسك :

كل كلمة تقولها تزيد من تصميمي وعزمي.

المعلم :

تزيد من عزمك؟! لا أدري. إن هذا الحاكم الأصفر يستعرض الكمال أمام الناس ويملؤه الغرور كما يملأ القش كيسا منفوخا. هل نقول إنه يخفي نقصه وضعفه وراء أبهته وقوته؟ من الصعب أن نحكم على حقيقة أمثاله من مظهرهم؛ فهو يرفض أن يعارضه أحد. ولذلك يستمتع بإحناء ظهور الآخرين. وهو يعلم أنه فراغ وخواء من الداخل ؛ ولذلك يلذ له أن يفرغ من حوله ويجعلهم خواء لكي يطمئن. وقد لا يطمئن يا بني حتى يرى أمثالك تمزقهم الأغلال، أو تتدلى رءوسهم وألسنتهم من فوق المشانق!

الناسك :

أكرر ما سبق أن قلت يا معلمي: إنني على استعداد للتضحية.

المعلم (ضاحكا) :

ولكنها تضحية بلا ثمن! لقد اصطدمت بمظهره ولم تنفذ إلى باطنه.

الناسك :

ماذا تقصد؟

المعلم :

هل تعرف السائس الذي يمد يديه إلى ظهور الخيل ليخلصها من الذباب والحشرات اللاسعة التي تلتصق بجلدها؟ ربما يفزعها فجأة فتثور ثورة عنيفة وتجرح نفسها وتجرحه، وربما ترفسه رفسة مميتة.

الناسك :

ما زلت على استعداد للموت؛ المهم أن ينتبه الشعب.

المعلم :

الشعب؟! هذا الوجه الهائل الغامض أبدا؟ هل تظن أنه سيشعر بك؟ وإذا شعر بك فهل تظن أنه سيصدقك؟

الناسك :

ولم لا؟ ما دمت أواجهه كما واجهه الحكماء القدماء. إنني أخدمهم وأسير على طريقهم.

المعلم :

ليتك تخدم الأرض والسماء قبل أن تخدمهم؛ فقد ساروا على طريق الأرض والسماء.

الناسك :

وواجهوا الشعب وغيروه.

المعلم :

لم يواجهوه بالمواعظ وحدها، لم يغيروه قبل أن يتغيروا.

الناسك :

ولكنني سأواجه الشعب كما واجهوه؛ بالفضيلة وحب البشرية، بالثبات والاتزان.

المعلم :

هذا ما قلته من قبل. ولكنه لن يسمع إلا كلمات. وسينفض عنك في النهاية وهو يقول: مهرج جديد يبحث عن الشهرة والمجد!

الناسك :

سأحاول أن أغيرهم فيغيروا ما حولهم. آه يا معلمي! كل هذا الخراب والذبول والفساد.

المعلم :

هل تملك الطبول العالية الصوت أن تعيد للأرض خصبها، وللقلوب والأشجار ربيعها، وللحياة.

الناسك :

لن أتردد عما عزمت عليه.

المعلم :

أنت مصمم إذن.

الناسك :

وما سمعته منك يزيدني تصميما.

المعلم :

افعل يا ولدي ما تشاء. لكنك ستكون مثل تلك الجرادة التي أرادت أن توقف العربة الكبيرة التي تزعجها وتزعج الناس في الطريق. فردت أجنحتها واستلقت على أرض الشارع كي توقفها عن الحركة، لكنها عجزت عن تحقيق هدفها لأنها أخطأت التقدير؛ ولهذا سحقتها العربة والخيل والسائق دون أن تغير شيئا!

الناسك :

سيدي، لا يمكن أن أقف ساكنا والشعب هناك يتألم، لا يمكن أن أعكف على تعلم الحكمة والناس في مملكة «تسي» يجوعون ويعذبون ويهانون، لا يمكن أن أصبر والضحايا المظلومون تتدلى جثثهم في الساحات والميادين بحجة إقامة العدل والقوانين. اختل نظام الكون. اضطربت قواعد الدولة. كيف أنتظر ولا أحاول التغيير؟

المعلم :

قبل أن تغير نفسك؟!

الناسك :

لقد جمعت من حكمة القدماء ما يكفي.

المعلم :

وهل تأكدت من أنك أصبحت حكيما؟ هل تتوقع أن يربي غيره من لم يرب نفسه؟

الناسك (يحمل جرابه على ظهره) :

سأذهب يا معلمي.

المعلم :

لا أستطيع أن أمنعك.

الناسك :

أعلم أنك تخشى علي، لكنني تعلمت منك ما يعينني على السير على الطريق؛ تعلمت منك ما يساعدني على الحياة أكثر من هذا الزاد في جرابي لا بد يا معلمي. لا بد.

المعلم :

الوداع يا ولدي، تذكر ما قلته لك اليوم.

الناسك :

وما تعلمته منك بالأمس وقبل الأمس. (يتقدم منه، يعانقه ويبكي.)

المعلم :

لا تبك يا ولدي. إنما أردت أن أحذرك.

الناسك :

وهل كنت تتردد عن محاولة تغيير العالم والناس؟

المعلم (مبتسما يربت على كتفيه) :

تغيير العالم والناس؟! مثلنا يغير نفسه أولا. يحاول أن يكون كاملا قبل أن يدعو غيره إلى الكمال. وإذا أضاء مصباحه فربما يستنير به العالم، ربما يستنير الشعب.

الناسك :

أن أغير نفسي أولا، أن أصبح كاملا قبل دعوة غيري للكمال، ولكن هذا هو الذي أريد.

المعلم :

لا تتعجل يا ولدي.

الناسك (في حماس) :

وهذه هي معالم الطريق؛ لهذا أسير على الطريق.

المعلم :

المهم أن تكون أنت الطريق!

الناسك :

وهل يمكن أن أكونه بغير أن أسير عليه؟! هل يمكن أن أتغير بغير أن أغير؟! الوداع يا معلمي، سأذهب إلى الشعب، سأواجه القيصر الأصفر. الوداع، الوداع، الوداع (يسرع خارجا) .

المعلم :

الوداع. (ثم لنفسه بعد أن يذهب)

كم أخاف عليك يا ولدي!

2 (ساحة واسعة تبدو، وأعواد المشانق من بعيد، تتدلى منها جثث المحكوم عليهم بالإعدام. حارسان ليليان يغفوان بالقرب منها. يدخل الناسك الشاب من جانب المسرح، يرى المشانق فيهتف.)

الناسك :

لا بد أنني وصلت إلى مملكة القيصر الأصفر، وصلت بعد البحث الطويل وعناء الصعود على قمم الجبال، والهبوط في السهول والوديان، وهذه جثث المظلومين توجهني. والغروب يؤذن بالليل الموحش البارد. ترى كم من الجثث يتمدد الآن في الأكواخ والبيوت وفوق الحقول الخربة؟! كم من الأشباح الجائعة يهيم في الطرقات، أو يستريح تحت الشجر الذابل، أو يقع تحت جدار متهدم؟!

هذه هي المملكة التي مرت عليها السحب دون أن تمطر، وسقطت فيها أوراق الشجر قبل أن تجف، وشحب وجه الشمس والقمر من الحزن والاكتئاب. أيتها الجثث المسكينة! ها أنت تتدلين من الحبال ولا تعرفين. لا تعرفين أن قوة السماء قد اختلت نواميسها، وأن قوة الأرض قد قيدت في الأغلال، لا تعرفين أن عجلة الحياة قد خرجت عن محورها، أن الفصول الأربعة قد اضطربت دورتها، أن عناصر العالم الستة تتصادم وتتصارع كالثيران المعصوبة الأعين، أو قطعان الماشية العمياء. واها لي! ماذا أفعل؟ هل أستطيع أن أصلح نواميس الأرض والسماء، أن أواجه جيوش الدود والأفاعي والغربان التي تنهش جسد المملكة؟ أن أوقف زحف النمل والسوس والعقارب والعناكب؟ أن أعيد البلابل إلى الأشجار، والقطيع إلى الحظيرة، والراعي. أين هو هذا الراعي المسئول عن كل شيء؟ أين هو الراعي! أين الراعي غير المسئول! (تفلت منه صيحة تجعل أحد الحارسين يهز رأسه ويفرك عينيه. الناسك لا يراهما ويحث خطاه نحو الجثث المعلقة)

أيها الأبرياء المساكين! إنني أصرخ للسماء وأشكو إليها حظكم. أريد أن أصيح بملء صوتي: أيها الرجال! أيها الرجال! انتشر الخراب في الأرض، فكنتم أول ضحاياه. شاعت حفر الاضطراب في المملكة فكنتم أول من سقط فيها. أريد أن أنزلكم من على المشانق، أن أوقفكم على أقدامكم، أن أخلع ملابس النساك وأغطي بها عريكم. أريد أن أجركم معي على الطريق، وأزحف بكم إلى القرى والبلاد، وأقف معكم على بوابات المدن، وأطرق أبواب البيوت وأنا أصرخ: انتبهوا أيها النائمون! اسمعوا أيها الصم! هل كان هؤلاء الرجال مذنبين؟ هل كانوا هم اللصوص الحقيقيين ؟ هل كانوا هم القتلة الحقيقيين؟ (يتقدم منه الحارس في خوف ويشد ثوبه فلا ينتبه إليه.)

الحارس :

أنت، أنت!

الناسك :

هل أنتم اللصوص الحقيقيون؟ هل أنتم القتلة الحقيقيون؟

الحارس :

إذا لم يكونوا هم اللصوص والقتلة فمن هم؟

الناسك (مواصلا هتافه) :

لا، لا، لا يمكن أن يكونوا كذلك. انطقوا، تكلموا!

الحارس :

أنا الذي أتكلم، ألا تسمعني؟

الناسك (مستمرا في انفعاله) :

تكلموا وقولوا للجميع: لقد تركوا اللصوص الكبار وشنقونا، انحنوا للقتلة احتراما وأعدموا المقتولين!

الحارس (يشده من يده) :

حاذر مما تقول!

الناسك (ينفض يده منه) :

دعني، دعني.

الحارس :

لكي تشنق بجانبهم يا مجنون؟ ثم إن صوتك مرتفع وسينبه زميلي هناك.

الناسك :

زميلك، وأنت، من أنتما؟

الحارس :

قل لي أولا من أنت؟

الناسك :

أنا الذي سمع بما يحدث في مملكة تسي، فجاء على الفور.

الحارس :

لتتدلى رأسك بجوار هؤلاء؟

الناسك (صائحا) :

لأرفع صوتي للسماء. لأعلن للشعب كله؛ ليس هؤلاء هم القتلة الحقيقيين! ليس هؤلاء هم اللصوص الحقيقيين!

الحارس :

أيا كان رأيك فهم الآن مشنوقون.

الناسك :

ولهذا سأرفع صوتي للسماء، سأعلن للشعب، سأقول لكل عابر سبيل.

الحارس :

أعلن وقل ما تشاء، لكن أرجوك، لا ترفع صوتك.

الحارس الثاني (يتجه نحوهما وهو يغالب النوم) :

ما هذا! من هذا؟

حارس أول :

أرأيت؟ لقد جنيت عليهم وعلي وعلى نفسك.

الناسك (مستمرا كأن عينيه لم تقع عليهما) :

سأقول بأعلى صوتي: هؤلاء هم الضحايا!

حارس ثان :

هؤلاء ... ضحايا؟! (ينظر لزميله ويشير إلى رأسه بإصبعه.)

حارس أول :

ونحن، ماذا يسمينا؟

الناسك :

أنتم أيضا ضحايا!

الحارسان (معا) :

نحن ... ضحايا؟

الناسك :

أجل، أجل؛ سنوا القواعد والقوانين، فكثر عدد المجرمين. وضعوا الأوامر والنواهي، فكثر عدد السجون والحراس. لهجت ألسنتهم بالشرف والعار، فنشأ الثأر والغدر. فتحوا الأعين على التملك والثراء، فبدأ الشجار والنزاع. أغروا الناس بالترف والرخاء، فسلبوهم الراحة والأمن. ثرثروا عن الخير والصدق والفضيلة، فامتلأت الشوارع والأسواق والبيوت بالرذيلة والكذب والفجر والغدر.

حارس أول :

وهؤلاء؟

الناسك :

ضحايا، ضحايا!

حارس ثان :

ونحن؟

الناسك :

قلت لك: ضحايا، ضحايا (يبكي بصوت عال. يلتفت الحارسان لبعضهما البعض. يقتربان منه ويربتان على ظهره وكتفيه. ينهض فجأة وينطلق إلى المشنوقين) .

الناسك :

ألا تصدقان؟ ألم يقولوا الحقيقة لكما؟ ألم يصرخوا في سمعكم: نحن ضحايا مظلومون. نحن ضحايا مظلومون؟! (يقترب من الجثث واحدة بعد الأخرى)

أنت أيها الشيخ! كلفوك أن تحمل حملا ثقيلا. وعندما عجزت علقوك من رقبتك. وأنت أيها الشاب النحيل. أعطوك سيفا صدئا وطالبوك بأن تبارز العدو، وعندما انهزمت شدوا الحبل على عنقك. وأنت أيها السقيم العليل، طالبوك بالمحصول الوفير، وعندما بخلت الأرض حاكموك وأدانوك ولفوا رأسك في العصابة السوداء. وأنت ... وأنت ...

الحارسان (معا) :

وأنت؟ ألا تخاف؟

الناسك :

أنا الذي لا يخاف أن يقول: هذا هو ذنب الحكم.

الحارسان (معا) :

الحكم؟

الناسك :

والحاكم أيضا، كان الحكام القدماء يرجعون الخير للشعب. أما الشر فيحاسبون أنفسهم عليه. كانوا ينسبون النجاح للشعب، أما الفشل فيحملون وزره على أكتافهم، كانوا يقولون على الدوام: العدل والنفع منه، والظلم والضرر منا، ونحن المسئولون عن إصلاحه، لكن حكام هذه الأيام.

حارس أول :

حكام هذه الأيام؟ (يتلفت حوله.)

حارس ثان (لزميله) :

هل قال شيئا عن الحكام؟

الناسك :

نعم، حكام هذه الأيام.

الحارسان (معا) :

نتوسل إليك، الأسلم أن تتكلم عن المحكومين.

الناسك :

نعم، نعم، سأتكلم عن المحكومين عندما يحسون أن الأعباء فوق طاقتهم يلجئون إلى الغش. عندما تخونهم قواهم يلجئون إلى التحايل، وعندما يقصر علمهم يلجئون إلى الخداع، وعندما تعجز أموالهم وأملاكهم عن الوفاء بالضرائب والديون يلجئون إلى السرقة. كيف يمكن أن يكونوا صادقين حيث تنتشر الكذبة الكبيرة؟ وكيف يتعلمون الأمانة ومعلمهم خائن؟

الحارسان (معا) :

معلمهم خائن؟!

الناسك :

ألم تسمعا من يقول:

كلما زاد عدد القيود والحدود في المملكة زاد فقر الشعب.

وكلما زاد عدد الأسلحة،

عم الاضطراب في البلاد.

وكلما كثرت القوانين والتعليمات،

كثر عدد اللصوص وقطاع الطرق!

حارس (يتسلل خفية) :

يا للفظاعة! ومن المسئول عن هذا؟!

الناسك :

اسمعوا زميلكم الذي يسأل: من المسئول عن هذا؟ (الحارسان ينظران إلى الحارس الجديد. يلتفتان لبعضهما ويسكتان.)

الناسك :

ألم تعرف أنت أيضا؟

الحارس 3 :

ليتك تنير ظلامي!

الناسك (مندفعا) :

إذا كان الشعب يجوع؛

فلأن حكامه يلتهمون الضرائب التي تفوق طاقته،

لهذا يجوع الشعب.

إذا كان الشعب لا يحترم الموت احتراما كافيا،

فلأنه ينساق وراء البذخ والترف؛

ولهذا لا يحترم الموت احتراما كافيا.

الحارس 3 :

الحكام يفعلون كل هذا؟!

الناسك :

بل يفعله الحاكم وحده!

الحارس 3 :

الحاكم أم الملك أم القيصر؟

الناسك :

وما الفرق؟ لقد تكلمت عن ظلمه، وهاك ما أقوله عن كذبه:

إن الحاكم ينافق الناس،

يوافقهم على كل شيء،

يسير كالأعمى وراءهم،

هذا ما أسميه سرقة الشعب.

إنه يتظاهر بالثناء عليهم؛

لكي يخفي احتقاره لهم،

يتملقهم لكي يسهل عليه أن يقودهم إلى الهاوية، ويغرقهم في بحار الكوارث؛

لهذا فسد الحكم وفسد الحاكم.

الحارس 3 :

وفسد الملك والمملكة؟! وفسد القيصر!

الناسك :

من يسرق حافظة نقود يعاقب ويشنق، ومن يسرق دولة وشعبا يتوج على العرش.

الحارس 3 :

يتوج عليه أم يسرقه؟

الناسك :

وليته يكتفي بهذا؟

الحارس 3 :

هل يسرق شيئا آخر؟

الناسك :

بل يفسد كل شيء؛ الشعب والأرض والسماء. والذي كان ينتظر منه أن يعيد الناس إلى الطريق أصبح يبعدهم عنه. الذي يفترض أن يفتح لهم باب الأبدية صار يدفعهم إلى باب الموت. الذي كانت مهمته أن يردهم إلى البراءة الأصلية حولهم إلى لصوص وقتلة.

الحارس 3 :

ثم عاقبهم وعلقهم على المشانق؟!

الناسك :

لو كان هو الحاكم العادل ما حدث شيء من هذا. ولو كان هو الملك الكامل الذي اتحد مع الأرض والسماء ما تمت هذه الجريمة.

الحارس 3 :

اتحد مع الأرض والسماء؟

الناسك :

والتف حوله الشعب كما يلتف الأطفال حول أمهم التي ترضعهم.

الحارس 3 :

وهؤلاء المشنوقون؛ من هم في رأيك؟

الناسك :

رأيي؟ ألا تستطيع أن ترى بنفسك؟ ألست أحد الحراس عليهم؟ ألم تعلم أنهم ضحايا بؤساء؟!

الحارس 3 :

ضحايا الحاكم الظالم والملك الفاسد والقيصر الأصفر؟

الناسك :

ومن غيره؟

الحارس 3 (وهو يرفع القناع عن وجهه) :

تقصد أنهم ضحاياي؟

الحارسان (معا) :

القيصر الأصفر! القيصر الأصفر!

القيصر :

هل جئت إلى هنا لتضع رأسي في حبل المشنقة؟

الحارسان (معا) :

مولانا القيصر! (ينحنيان أمامه بشدة.)

الناسك (يتقدم منه ويواجهه) :

بل لأردك إلى الوحدة مع السماء والأرض؛ مع الأبدية، مع الكل؛ لأردك إلى الطريق، لأجعل منك أو من غيرك الحاكم الكامل.

القيصر :

مني أو من غيري؟ سمعتم يا حراس؟

الحارسان :

مولانا القيصر (ينحنيان) .

القيصر :

سمعتم؟ يريد أن يجعل مني الحاكم الكامل.

الناسك :

حقا؛ هذا هو ما أريد.

القيصر :

هلا جعلتما منه أولا المواطن الكامل؟! (الحارسان يترددان.)

القيصر (صارخا) :

خذاه؛ تعرفان الطريق إلى هناك، ثم عودا به إلي؛ لأتعلم منه الكمال! هيا، هيا، هيا (يفهمان. يأخذانه وينصرفان) .

3 (القيصر الأصفر يقطع المكان ذهابا وجيئة - يبدو الغضب على ملامح وجهه، ويثور الشرر من عينيه، ويخيل لمن يراه أنه وحش لا زالت دماء فريسته تصبغ شفتيه. تصدر عنه إيماءات وحركات تدل على الهياج واليأس في آن واحد. يكلم نفسه قائلا):

القيصر الأصفر :

شيء غريب، شيء نادر؛ إنسان لم أر مثله أبدا، لم أعرف مثله أبدا. هل يمكن أن يتحمل هذا التعذيب ولا يشكو؟ هل يمكن أن تقطع السيوف والنصال أصابع قدميه ولا يتأوه؟ هل يمكن أن يسلخ جلد وجهه ولا يتوجع؟ لقد كان يبتسم. نعم رأيته بنفسي من وراء ستار هذا الغريب الذي يكاد أن يصيبني بالجنون. لو كان صخرة لتألم. ولو كان جثة أو حشرة لتحركت ودافعت عن نفسها. أريد أن أعرف حقيقته؛ لا بد أنه رجل خطر، لا بد أن أعرف حقيقته! (يدخل الناسك الشاب مغطى الوجه، قدماه ملفوفتان في قماش أبيض، تتحركان بصعوبة كطائر عجوز قيدت أطرافه بالأغلال، يصدر عنهما صليل مع كل خطوة. يتبعه حارسان ويسوقه حارس ثالث.)

أحد الحراس :

هذا هو المجرم يا مولاي.

القيصر الأصفر (ينظر إليه من بعيد ويقول لنفسه) :

أيتها السماء! صار وجهه كالفحمة. قطعت أصابع قدميه فصار أعجز من رضيع. ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول؟ كيف واتته القدرة؟ (ثم فجأة)

انصرفوا. لقد كسبتم رضاء الدولة والقانون والأجداد. انصرفوا. (ينصرف الحارسان ويتردد الثالث الذي يقود السجين)

لا، لا، انتظر أنت وساعده على الجلوس. لماذا تحجب وجهه؟ ألم تؤد واجبك كما ينبغي؟

الحارس :

بلى يا مولاي. انظر. (يكشف الغطاء عن وجهه فتبدو بشاعته. يسارع القيصر صائحا.)

القيصر :

لا لا لا، إنني لا أشك في أعواني. أنزل الغطاء عليه . (الحارس يساعد الناسك على الجلوس. ينحني للقيصر.)

القيصر :

قف أنت هناك. بعيدا في هذا الركن. أو انصرف أنت. انصرف، سأدعوك إذا احتجت إليك. (الحارس ينحني بشدة وينصرف.)

القيصر (يدور حول الناسك والعرق والكلام يتصببان منه دون أن يعرف ماذا يفعل أو يقول) :

لقد تم كل شيء؛ تماما كما حدده القانون، وكذلك العرف والتقاليد. لا تظن أنني شامت فيك. لا تظن. (الناسك يلزم الصمت. ينظر في الفراغ.)

القيصر :

هذا جزاء كل من يقترف ذنبا خطيرا. جزاء كل طائش معتد على المملكة والقانون وأرواح الأجداد. نعم، نعم؛ إن أرواح الأجداد غاضبة عليك. وهي التي حددت نوع العقاب. تماما كما فعل أجدادي بمن تجرأ عليهم. أجدادي وأجداد أجدادي. (الناسك صامت يتطلع إليه من وراء الغطاء الشفاف.)

القيصر :

لا تتصور أن بيني وبينك ثأرا. إنني لا أعرفك ولا أعرف من أين أتيت. ولست أنا الذي آمر بتعذيبك. بل الكتب القديمة التي تضم الشرائع القديمة. ولو تسامحت معك لاهتز القانون وثارت أرواح الأجداد. (الناسك يواصل صمته كأنه تمثال.)

القيصر :

لا بد أنك قرأت الكتب القديمة؛ يبدو هذا على وجهك. معذرة؛ أقصد وجهك الذي كنت تحمله قبل أن أؤدبك. معذرة؛ قبل أن يؤدبك القانون والأرواح والشرائع المقدسة. (الناسك لا يرد. يبدو كأنه ابتسم.)

القيصر :

هل ابتسمت؟ لا أدري. يخيل إلي أنني لمحتك تبتسم. لماذا لا تتكلم؟ لماذا لا تقول شيئا؟ لقد تحدثت إليك حديث الأصدقاء. تناسيت أنني قيصر يكلم عبده. لكنك لا تحرك شفتيك. وعندما حركتهما بدا لي أنك تبتسم. هل ابتسمت حقا؟ هل تسخر بي؟ (الناسك يلازم صمته. تتسع ابتسامته.)

القيصر :

إذن فأنت تريد أن أزيد الجرعة. يمكنني أن آمر بحز رقبتك. يمكنني أن أعلقك على المشنقة كأولئك الذين رحت تصرخ بهم وتلعنني وتلعن حكمي. حاذر! لا تغتر بتسامحي. لا تغتر بهذا الشرف الذي أوليتك إياه عندما طلبت أن تحضر إلي. (الناسك يتطلع إليه ويتابع حركاته. يبدو أن ابتسامته اتسعت عما كانت عليه، فارتفع صوت القيصر.)

القيصر :

كان من الممكن أن أصدر الأمر بشنقك أو تمزيق جسدك أو إلقائك في البئر. إن العقاب الذي نفذ فيك هو أهون عقاب في المملكة. ومع ذلك تبتسم كما كنت تفعل وهم ينفذون العقاب!

الناسك :

بل كنت أضحك!

القيصر :

تضحك؟! وهم ينتزعون جلدك ويقطعون جسدك؟

الناسك :

نعم، نعم. كنت أضحك!

القيصر :

لا أصدق، لا أصدق. هل لي أن أسألك لماذا؟

الناسك :

كنت دفنت جسدي بنفسي.

القيصر :

ليتني أفهم ما تقول. ولكن الناس تبكي عند دفن الموتى.

الناسك :

وعندما يدفنون أنفسهم بأنفسهم يضحكون.

القيصر :

ما معنى هذا؟

الناسك :

معناه أنني حلقت وراء حدود التراب!

القيصر :

أوضح! أوضح!

الناسك :

عندما شعرت أخطو على الهواء ولا أمشي، عندما أبصرت جثتي التي تخلفت تحتي، تذكرت ما قاله معلمي.

القيصر :

وماذا قال معلمك حتى يضحكك؟

الناسك :

دخلت عليه مرة فوجدته ممددا في سكون. كان يتطلع إلى السماء، ويتنفس بعمق كالرضيع النائم، ويبدو بعيدا بعيدا كأن جسده وروحه قد انفصلا عنه. هتفت به: ماذا جرى لك يا معلمي حتى بدا جسدك كأنه شجرة ذابلة، وبدت روحك كأنها رماد ميت. إن الرجل الممدد أمامي ليس هو المعلم الذي أعرفه. تكلم وقال: «حقا ما قلت. لقد دفنت اليوم نفسي بنفسي». قلت له: لم أفهم يا سيدي! قال: ألم تتذكر ما قلت لك ذات يوم؟ سألت وماذا قلت؟

قال: يوم سمعتني أغني:

عطل جسدك!

حرر نفسك!

أطلق عقلك من قيده!

كن عدما وفراغا،

لا تفعل شيئا،

عانق كل الأشياء،

توحد معها،

وستزهر كل الأشياء،

وترجع لطبيعتها الأولى،

لبراءتها الأصلية.

ألححت عليه بالسؤال: ولكنك كنت تبتسم يا معلمي. معذرة؛ فلم أر في حياتي جثة تبتسم. ضحك معلمي طويلا ثم قال: بل كنت أضحك يا ولدي. كنت أضحك.

سألته: ولماذا يا سيدي؟

قال: لأنني تذكرت المعلم «تسي-هوي» عندما وضعوه على عجلة التعذيب. بدءوا يسنون السيوف والنصال قبل أن يشرعوا في قطع أوصاله، فراح يبتسم. تعجب القيصر الأصفر الذي كان يراقب التعذيب والجلادين، فاقترب منه وسأله : إنهم يهيئون أدوات التعذيب، ومع ذلك تبتسم؟! قال له: لقد دفنت جسدي أيها القيصر . تخليت عنه، وها هو الآن هناك شجرة ذابلة، أو رماد ميت. وعندما يبدءون في قطع فروعه ويحرقونها ويذرون رمادها الميت لن أنشغل به!

قال القيصر: وماذا يشغلك إذن؟

قال تسي هوي: يشغلني الآن شيء واحد: أن أبقي على روحي، أن أصونها فلا يمسها أحد.

وعندما ارتفع صليل السيوف والنصال والسكاكين وبدأ الجلادون في عملهم، استغرق في الضحك فثار القيصر الأصفر القديم كما ثرت الآن.

القيصر :

لقد تعجبت ولم أثر. ولكن ماذا فعل ذلك القيصر؟

الناسك :

اقترب منه في ذروة غضبه وسأل: لماذا تضحك؟

فقال له تسي-هوي: لأني أسمع موسيقى.

ذهل القيصر وصاح: تسمع موسيقى؟!

قال تسي هوي بهدوء: ربما تكون قد سمعت موسيقى البشر، لكنك لم تسمع موسيقى الأرض.

ربما تكون قد سمعت موسيقى الأرض.

لكنك لم تسمع موسيقى السماء!

قال القيصر ساخرا: أنا لا أسمع ألا موسيقى السيوف والنصال.

قال تسي-هوي: لأنك لم تتخل عن جسدك.

سأله القيصر: وأنت؟ هل تخليت عنه؟ (كأن الجلاد يقطع ويقطع والمعلم العجوز يغني):

جسدي ليس بجسدي،

وحياتي ليست بحياتي،

جسدي ليس بجسدي!

أوقف القيصر الجلاد وسأله: إن لم يكن هو جسدك، جسد من إذن؟

قال تسي-هوي: جسدك ليس بجسدك؛

إنه الصورة التي صنعتها لك السماء والأرض، وحياتك ليست بحياتك؛ إنها التجانس الذي نسجته السماء والأرض.

أولادك ليسوا أولادك؛

فالسماء والأرض قد تجددوا فيك!

تتحرك، لا تدري ماذا يدفعك على الحركة.

تسكن لا تعرف ماذا يحملك على السكون.

إنها قوة الحياة تعمل عملها فيك.

إنها قوة الطريق الذي يملكك ولا تملكه.

القيصر :

لهذا ابتسمت وضحكت عندما أخذوا يقطعون أعضاءك ويحرقونها ويذرونها كالرماد

الناسك :

لأني سمعت الموسيقى.

القيصر :

الموسيقى؟ والشفرات الحادة تحز أصابع قدمك؟ والجلاد الرسمي.

الناسك :

والجزار الرسمي يسقي شفرة السكين بالدم، ويحركها في جرحي الغائر. يحركها حركة لطيفة ناعمة محسوبة. كما يمر العازف بريشته على وتر القيثارة.

القيصر :

ألا تصرخ؟ ألا تتأوه؟ ألا تثور؟!

الناسك :

هل يستطيع سيفه أن يحتز أعناق النجوم؟

هل يمكن نصله أن يطعن البدر؟

كان جدي جثة بين يديه،

ويده تتحرك كالعازف الماهر فيبتسم!

ألا تريدني أن أبتسم لرجل يتقن عمله،

ويشعر بالرضا عن نفسه وفنه؟!

ألا تشعر أن الجزار يمكن أن يكون موسيقيا على طريقته؟

القيصر :

حتى عندما بدأ ينزع جلد وجهك؟

الناسك :

تقصد عندما نزعوا جلد الطبلة الجوفاء؟

القيصر :

ماذا تقول؟

الناسك :

لا تندهش؛ هذا هو قول معلمي العجوز.

القيصر :

ومتى قال هذا؟

الناسك :

عندما ذهبت إليه لأودعه قبل الرحيل، كشفت له عن نيتي، صارحته بعزمي على السفر إلى العالم لتغييره.

القيصر :

كنت تريد أن تغير العالم؟

الناسك :

وأردت أن أبدأ بمملكتك؛ كنت قد سمعت من اللاجئين الذين هربوا منها إلى قريتنا عن الظلم الذي لحق بالشعب، عن الحقول التي لم تعد تخضر، والسحب التي لم تعد تمطر، والجوع الذي يجتاح البيوت والأكواخ كالوباء. عن القوانين التي تزداد فيزيد عدد اللصوص. وعن اللصوص الصغار الذين يشنقون.

القيصر (ساخرا) :

بينما يتربع الكبير على العرش.

الناسك :

نعم، نعم. قلت هذا وسمعته بأذنيك. ألم يخطر ببالك أنك تسمع طبلة جوفاء؟

القيصر :

خطر ببالي أنك مجنون أو ثائر خطير.

الناسك :

طبلة، طبلة جوفاء؛ هذا ما قاله لي معلمي، فلم أسمع نصيحته. ولو سمعني الشعب لقال ما قاله لي: مهرج جديد يضرب على طبلة جديدة.

القيصر :

ولماذا فعلت هذا؟

الناسك :

لأنني أردت أن أغير العالم قبل أن أغير نفسي، حاولت أن أتابع طريق الحكماء قبل أن أسير على الطريق؛ لهذا قطعت أصابع قدمي كما ترى، وصار وجهي كالفحمة، انظر (يرفع الغطاء عن وجهه ويبتسم) .

القيصر (يبتعد عنه ولا ينظر في وجهه) :

تأكد أنني لا أشمت فيك. كان هذا سيحدث لك أو لغيرك. إنه القانون.

الناسك :

وشريعة الأجداد، والعرف والتقاليد. تأكد أيضا أنني لا ألومك؛ إنني أشكرك على ما فعلت!

القيصر :

تشكرني؟! بعد أن أمرت بقطع أصابع قدميك؟! بعد أن شوهت وجهك؟!

الناسك :

حتى تفحم! ليكن هذا؛ إنها عدالة السماء. ثم إن أحدا لم يهتم به أو ينظر إليه.

القيصر :

تقول لم ينظر إليه؟ حتى زوجتك، حبيبتك؟

الناسك :

الحكيم وحيد ، ثم إن أحدا لم يحبني.

القيصر :

تكلم، تكلم؛ أريد أن أعرفك.

الناسك :

يكفي أن تنظر إلي؛ لقد صنعت في معروفا.

القيصر :

أرجوك لا تشكرني على شيء لا أطيقه.

الناسك :

بل أشكرك إلى آخر نفس في. إنك لم تنزع جلدي؛ لقد نزعت حكمتي الزائفة. أعدت إلي وجه الطفل.

القيصر :

تقول وجه الطفل؟! هذا؟ (يقترب منه، لا يجرؤ على كشف الغطاء.)

الناسك :

على الأقل قلبه وروحه.

القيصر :

من أنت؟ أريد أن أعرفك على حقيقتك، أريد أن تفتح لي قلبك هذا؛ قلب الطفل.

الناسك :

وماذا تستفيد من حياة رجل مثلي؟! رجل تتفرج عليه وهو كالطائر الممسوخ الذي يتقلب في قفصك!

القيصر :

أرجوك. لست في قفص ولا سجن، أنت في قصري، في ضيافتي. تكلم، تكلم.

الناسك (بعد فترة صمت) :

ولدت كآلاف من يولدون، وعندما فتحت عيني، عندما بدأت فتحاتي الست في استقبال العالم؛ رأيت نفسي أعيش في بيت رجل مهدم فقير. كنت أسميه أبي فأصبحت أناديه يا جدي. وحكى لي الجد عندما كبرت عما لم يكن من الممكن أن أسمعه أو أعيه. عرفت أن أبي ذبحه أحد الغزاة من الرعاة الذين انحدروا كالسيل على قريتنا، أما أمي فماتت ليلة ولادتي. لم أكن الوحيد الذي ولد لها في تلك الليلة. لقد كان لي أخ أو أخت، لا أدري. وجدي نفسه لم يتذكر. وارتبكت حياة الجد الفقير. وتطوعت نساء الجيران بإرضاعي أنا وأخي. كان يحملنا كل صباح إلى إحدى النساء الصغيرات الطيبات قبل أن يسعى على رزقه. يوما في الغابة، ويوما في الحقل، وآخر لصيد السمك في النهر الأصفر أو البحيرة الخضراء، هل تعجب بعد هذا أن أشعر بالظلم؟ ترسب في نفسي الإحساس بأنني ظلمت أخي التوءم الذي مات بعد ولادته بشهور، وبأنني ظلمت جدي العجوز الذي لم يكن يجد ما يأكله. وظلمت نساء القرية اللائي لم يكن يجدن طبق الأرز يملأ ضروعهن باللبن. وعندما تنبهت لأبناء التجار الأغنياء والحكام المتغطرسين ورأيت أنهم يذهبون إلى المدارس التي أغلقت أبوابها في وجهي، ويلعبون باللعب التي حرمت علي ، ويضحكون الضحكات التي لم تخرج من فمي. عندما كبرت واكتشفت أن قريتي واحدة من آلاف القرى المظلومة في مملكة الصين الشاسعة، أدركت أنني مكلف بالانتقام من الظلم. بل خامرني الإحساس بأن السماء نفسها قد كلفتني به. وأرسلني جدي إلى معلم طاوي عجوز. وبدأ المعلم يلقني أسرار الكتابة والنطق، ويطلعني على حكم الحكماء القدماء، ويكشف لي ألغاز التحولات والحوليات واليين واليانج. كان المعلم يتوقع أن تهدأ ثائرتي، أن يخف شعوري بالظلم، أن أسلك الطريق وأتحد به حتى أكونه، أن أتسلق معه قمة جبل الصفاء والنقاء، وأهبط معه إلى ظلمات الجذور. لكن حياتي مع جدي الذي تحمل الظلم في صمت، وموته أمام عيني من قلة الطعام، وشدة الهوان وحياتي مع المعلم العجوز الذي غير نفسه ولم يغير شيئا مما حوله - كل ذلك جعلني أشعر بأن جبل الظلم والمظلومين ثقيل على صدري. على صدري أنا وحدي، وأن رفع هذا الجبل من أساسه هو مهمتي أنا وحدي، وعندما قابلت حاكم قريتنا العجوز عرفت أنه مظلوم مثلي. وعندما ذهبت إلى حاكم المقاطعة أفرغ شكواه في أذني. والتقيت باللاجئين من عاصمة المملكة، وعرفت أنك أنت الحاكم الذي لا يريد أن يسمع عن الطريق ولا أن يسير عليه، وأن المحكومين في مملكتك قد أفسدهم حكمك وحكم أعوانك.

القيصر :

عندئذ حضرت إلى هنا لتعرف بنفسك الظلم والظالم والظالمين.

الناسك :

وما قيمة المعرفة وحدها؟ لقد عرفت الكثير وقرأت الكثير. كان المهم عندي أن أغير.

القيصر :

تغير الحاكم وأعوانه؟

الناسك :

كان طموحي أكبر من هذا.

القيصر :

الشعب؟ هل تصورت أن تغير الشعب بأكمله؟

الناسك :

العالم، قلت العالم كله.

القيصر :

وبدأت بالمشنوقين الذين أدبتهم في الساحة.

الناسك :

وانتهيت هناك أيضا، والفضل لك.

القيصر :

لي أنا؟!

الناسك :

نعم، نعم. استطعت أن تقتل المهرج الذي كان يرقد في داخلي، أن تخرس الطبلة الجوفاء التي نزعت جلدها عندما انتزعت جلدي.

القيصر :

ألم أقل لك هو القانون. شريعة الأجداد.

الناسك :

وهل تصورت أنني ألومك؟

القيصر :

بعد أن مسخت وجهك؟

الناسك :

على العكس.

القيصر :

لا تقل إنني حولته إلى وجه طفل.

الناسك :

وعلي الآن أن أجعل له قلب طفل.

القيصر :

هل أفهم من هذا أنك تحولت عن تغيير الحاكم والمحكوم، عن تغيير العالم؟

الناسك :

على العكس.

القيصر :

ما زلت على ثورتك على الظلم؟

الناسك :

وما زلت تسيء فهمي.

القيصر :

ماذا تعني؟

الناسك :

أعني أن الكامل وحده هو الذي يملك وجه الطفل وقلب الطفل، وأنا سأحاول من الآن أن أسير على الطريق المؤدي إليه؛ الطريق الذي وضعت قدمي على أول خطوة فيه.

القيصر :

أنا؟ بهاتين القدمين المشوهتين؟

الناسك :

نعم أنت. بهاتين القدمين المشوهتين. بهذا الوجه البشع الممسوخ. أنك لا تدري ماذا فعلت بي.

القيصر :

ماذا فعلت؟

الناسك :

جعلت روحي تنطلق من جسد دفنته بنفسي. شعت الروح كالفجر. ورأيت نفسي، رأيت حقيقتي وجها لوجه. وبعدها أصبحت بلا ماض ولا حاضر. ارتفعت فوق الحياة والموت. حلقت فوق حدود التراب. وأخيرا دخلت المملكة التي لا موت فيها ولا حياة، هنالك تجد نفسك وأنت تسعى على الطريق. تبني وتهدم، تجد وتوجد، تخلق وتخلق. هنالك تكون على الطريق ومعه وفيه. تتحد بكل شيء، ويتحد بك كل شيء. تتجمع حولك كل المخلوقات دون أن تحرك ساكنا، تغير كل شيء دون أن تفعل شيئا، تسحق وتولد نقيا كالوليد البريء. عندئذ تكون أنت الكامل والكمال.

القيصر (مأخوذا) :

الكامل والكمال؟!

الناسك :

وعندها ترفرف خفيفا على أجنحة الفراغ، وتتجول في الجهات الست، تسكن قصر اللامكان في مملكة العدم، تغوص في بحر الأبدية، وتحرك كل الأمواج دون أن تتحرك.

القيصر :

أسكن قصر اللامكان؛ في مملكة العدم. أغوص في بحر الأبدية! ولكن ... ولكن كيف أحكم المملكة؟

الناسك :

عندئذ، لن تسأل هذا السؤال.

القيصر :

كيف أقيم العدل؟ وأحارب الظلم وأبلغ الكمال؟

الناسك :

ولن تحتاج لهذه الأسئلة.

القيصر :

أرجوك، كيف أحكمها؟ كيف أحكم الشعب؟ كيف أحكم نفسي؟

الناسك (وهو يقف متهيئا للخروج) :

هل يحتاج المحيط لأن تملأه أو تفرغه؟ ستكون قطرة فيه. لن تحتاج لأن تفعل شيئا . ستفرح بوجودك فيه.

القيصر :

أوضح، أوضح.

الناسك :

عندما تصبح نورا، سيتحول كل شيء دون أن تتحول. عندما تصير كاملا، سيبلغ الكمال كل إنسان في المملكة دون أن تتكلم أو تعمل!

القيصر :

قل لي كيف؟ بالمعرفة أم بالإرادة؟ بالقوة أم بالرحمة؟

الناسك (وهو يجرر رجليه بمشقة ليصل إلى الباب. القيصر يحاول أن يساعده وهو يرفض ويبعده عنه، ويعيد الكرة محاولا مساعدته فيبعده) :

هل تذكر القيصر الأصفر الذي كلمتك عنه؟

القيصر :

نعم، نعم. ذلك الذي روى معلمك قصته.

الناسك :

رحل القيصر الأصفر ذات يوم إلى الشمال من البحيرة الحمراء، تسلق جبل «كون-لون» وتطلع إلى الجنوب. ثم استدار عائدا إلى وطنه. وفي أثناء رحلة العودة بحث عن لؤلؤته السحرية فلم يجدها. ثارت ثائرته وطلب أن ترجع إليه في الحال. وانحنى قائد الحرس حتى كادت رأسه أن تغوص في التراب. ثم أسرع إلى أفراد قواته وألقى عليهم أوامره: أرسل المعرفة لتبحث عنها، لكنها لم تجدها، كلف بعد النظر أن يفتش عنها، لكنه رجع دون أن يعثر عليها.

طلب من الفصاحة أن تأتي بها،

لكنها ارتدت خائبة!

وأخيرا - وعلى مضض - لجأ إلى البراءة،

وفي لمحة جاءت بها.

عندها قال القيصر الأصفر لنفسه:

من الغريب أن تحقق البراءة،

ما عجزت عنه المعرفة وبعد النظر والفصاحة.

القيصر (للناسك الذي يتجه للخروج من الباب) :

أوضح ما قلت.

الناسك (ينظر إليه ويشد الباب نحوه) :

ربما تجدها أنت أيضا.

القيصر :

أرجوك لا تتركني قبل أن أعرف.

الناسك (وهو يزيحه بقوة عن الباب ويقول قبل أن يخرج) :

ألا يسمونك القيصر الأصفر؟ ربما تعثر مثله على اللؤلؤة السحرية (يخرج ويترك القيصر مذهولا) .

4 (بعد سنوات من أحداث المشهد السابق. قرية على حدود مملكة «تسي». يظهر كوخ الناسك المشوه على قمة جبل، وأمامه تابع شاب. تحته قليلا، على المنحدر، مجموعة من أهل القرية يبدو القلق على وجوههم، كأنهم ينتظرون سماع نبأ لا يصدقونه. يدخل الغريب في صحبة واحد من أهل القرية.)

الرجل :

نعم أيها الغريب. هذه هي قرية الناسك المشوه. هل تعبت في الوصول إلى هنا؟

الغريب (يتأمل الجبل والكوخ) :

تقول تعبت؟ يمكنك أن ترى وتتأكد بنفسك ؛ أليس هذا هو جبل كو-شيه؟

الرجل (مشيرا إلى الجبل) :

نعم. هذا هو جبل كو-شيه.

الغريب :

وهذا كوخه؟

الرجل :

وهو يرقد ساكنا والسكينة ترقد فيه.

الغريب (ساخرا) :

ويتجول كالأرواح على قمته. كالثلج أو الجليد يبدو جسده من بعيد. وكالعذراء تسير خطاه على الأرض وتفتن الأسماع والأنظار. هل قلت الأرض؟ لا، لا؛ إنه لا يأكل من فاكهة الأرض، بل يتغذى على الندى والهواء. لا تلمس قدماه الأرض، بل يسبح فوق السحب، ممتطيا ظهر التنين المجنح، محلقا وراء البحار الأربعة.

الرجل (ضاحكا) :

أهذا ما يقولونه في قريتكم؟

الغريب :

ويقولون أيضا: ومع ذلك فهو يحمي الكائنات من الفساد، ويجعل البذور تتفتح وتنمو.

الرجل :

حتى يزدهر الربيع بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والعالم والأشياء.

الغريب :

وكيف أصدق هذا؟ كيف أفهمه؟

الرجل :

لا يسأل أعمى عن سر جمال الصورة والتمثال. لا يدعى أبكم وأصم لحفلة رقص وغناء. ألم تسمعهم يغنون هذا الشعر أيضا؟

الغريب :

وحتى لو سمعته؛ أيصدق عقل أو فهم ما يحكيه مجانين؟

الرجل (ضاحكا) :

وماذا يحكيه المجانين؟

الغريب :

أن العالم لا يمكنه أن يمسه بشيء؛ لو جرفه السيل الذي يبلغ السماء فلن يبتل بالماء، لو اشتعل حريق وصهر عناصر الأرض وأذاب رواسخ الجبال فلن يشعر بلسعة النار. هل يعقل هذا؟ هل يصدق هؤلاء؟

الرجل :

لا أعرف إن كانوا يصدقونه أو لا. ستتكلم معهم بنفسك وتسمعهم بأذنيك. هل نذهب إليهم الآن؟

الغريب :

أنتظر. أريد أن أعرف رأيك أنت؟

الرجل :

أنا؟ (يتطلع إلى الجبل والكوخ) : لا أدري. لا أظن أنني فكرت في هذا قبل الآن. ربما لا يحتاج الأمر لمعرفة أو تكفير.

الغريب :

فهمت. وبماذا أحسست إذن؟

الرجل :

أحسست؛ ربما كانت هذه هي الكلمة المناسبة. وهو ليس إحساسي أنا وحدي. نحن نحس ونشعر يا سيدي. نحن نرى ونسمع. وهو وحده الذي رفع العمى والصمم عن أرواحنا. نعم. فما أكثر الأرواح التي لا تزال عمياء وصماء!

الغريب :

خصوصا مع الضيوف والغرباء .

الرجل :

معذرة، إنك لا تعيش معنا. أما أنا وهؤلاء.

الغريب :

بماذا تشعرون؟

الرجل :

نشعر بأنه يظل كل شيء بمظلته. يضم كل إنسان على صدره ويضعه في قلبه. يأخذ منه همه ويحمله على كتفيه. إنه راقد هناك. والعالم كله يرقد فيه. ساكن لا يتحرك. لكن قوته قوة تنين تبسط أثيرها على كل ما حوله. يلزم صمت الحجر أو السلحفاة. مع ذلك يتردد صوته من هذا الكوخ الساكن. فيهز الأرض كصوت الرعد، وتجاوب قوى السماء كل خلجة يرتعش بها جسده ونفسه. وتنضج كل الأشياء وتزهر بتأثير صمته وسكونه.

الغريب :

ويتم كل فعل دون أن يفعل شيئا؟

الرجل :

نعم، وينسكب الرضا من كل نفس والانسجام من كل شيء. ألم أقل لك إن كل شيء يفرح من داخله حين يراه، إن الربيع يزدهر بيننا وبين العالم منذ أن حل بقريتنا؟

الغريب :

هذا المسخ المشوه؟!

الرجل :

أجل، أجل. هذا الذي مسخه القيصر الأصفر.

الغريب :

القيصر الأصفر؟! أسمعتم هذا أيضا؟

الرجل :

ألم تسمعه أنت في كل القرى التي نزلت فيها، ومن كل الناس الذين سألتهم عن مكانه؟ ألم يقل لك أحد إن القيصر الأصفر هو الذي مسخ وجهه حتى صار فحمة، وقطع أصابع رجليه وشوهه؟!

الغريب :

لا بد أنكم تلعنونه ليل نهار.

الرجل :

نحن نلعن؟! إنك لا تعرفنا ولا تعرفه. لقد تعلمنا منه كيف نفك أغلالنا بأنفسنا دون أن نلعن جلادينا، أن نحرر أنفسنا بغير أن نصرخ بالحرية. كيف نلعن وقد علمنا أن نبارك كل شيء؟!

الغريب :

وهو؟ ألم يلعن القيصر الأصفر أبدا؟

الرجل :

ولم يسمعه أحد منا يذكره على لسانه؛ في إحدى الليالي ونحن نحتفل بزفاف عروسين تحت أضواء المصابيح بينما هو يتمتم بالصلوات، ويرتل الأدعية فوق ربوة تطل علينا ويطل منها وجهه المغطى بحجاب شفاف، هتف العريس قائلا: لعنت السماء القيصر الأصفر الذي حرمنا من مشاركته! وإذا بصوته يدخل آذاننا كصوت السماء: لا تلعنه يا ولدي؛ فربما تتمنى يوما أن تمشي في أثره وتقبل التراب الذي يسير عليه.

الغريب :

هو يقول هذا؟!

الرجل :

بل أوقف طقوسه ونهض ليرجع إلى كوخه. ولولا توسلاتنا ودموعنا لما تم الزفاف.

الغريب :

غريب ، غريب! يمسخ وجهه ويباركه! يشوهه ويدعو له؟!

الرجل :

وما الغريب في هذا أيضا؟

منذ أن عرفناه ونحن نلتف حوله كالقطيع حول راعيه.

إنه لا يحرك إصبعا،

ومع ذلك ننجذب إليه،

لا يقول شيئا، ويثق به الجميع،

لا يملك شيئا يعطيه،

ويحبه كل إنسان ويفديه،

يعلمنا بغير أن يعظنا،

يأمرنا بغير أن يتسلط علينا،

يصلحنا بغير أن يملي علينا شيئا.

ما الغريب في هذا أيها الغريب؟

ليتك كنت هنا يوم أن فوجئنا بالجيش الصغير الذي حاصر قريتنا وحقولنا، وصوب أسنان حرابه وسيوفه نحو هذا الكوخ.

الغريب (لنفسه) :

ويلي! الجيش الذي لم يرجع منه أحد.

الرجل (مستمرا) :

كان يوما لا ننساه؛ صحونا على ضجيج الطبول وصهيل الخيول وزعيق الأبواق. صرخ بعضنا: ملك المغول هبط من الجبال، ومعه جراد الرعاة الذي هبط علينا ليفترس لحم نسائنا وأطفالنا، ويلتهم قوتنا. لكنهم لم ينزلوا إلى القرية ولم يمشوا في الشوارع؛ لقد كان هدفهم هو هذا الكوخ؛ الكوخ الوحيد على قمة جبل كو-شيه، وهذا الرجل الوحيد القابع فيه. فزعنا إلى معلمنا، هشنا الجنود كالذباب وهددوا من يقترب بقطع أصابع يديه ورجليه. وهدر صوت القائد: أيها الناسك المشوه، أيها الناسك الممسوخ، لا تحاول الهرب. وخرج الناسك كما يخرج مصباح وهاج الضوء من نفق مظلم، سمعنا صوته يتردد كصوت الريح الآتية من البحر إلى الأرض العطشى: لست أنا الناسك المشوه ولا الممسوخ. كما أنني لا أهرب. هتف القائد وهو يمط رقبته ويحرك سيفه في اتجاهه: إذن فسلم نفسك حتى لا نسلم رأسك للقيصر!

الغريب :

هل قال هذا؟ (لنفسه)

الملعون! وقد أوصيته أن يركع أمامه ويتوسل إليه لكي يحضر معه!

الرجل :

بالطبع قاله؛ لقد كنت يومها في هذا المكان، وهؤلاء كانوا معي.

الغريب :

الرجال والنساء والعجائز؟

الرجل :

لن تصدقني إذا قلت لك: حتى الأطفال، حتى الأبقار والخراف والحمير التي كانت ترعى في السهول، قبل أن يزيد العدد وينضم إليهم الجنود.

الغريب :

هل أنضم إليهم أحد منهم؟

الرجل :

بعد أن هتف الناسك: ها هو صدري عار. ها هو عنقي يتوقع حد السيف. القيصر يعرف هذا أيها القائد الصغير. زعق القائد: القيصر يطلبك على الفور، سأل الناسك: يطلبني أم يطلب رأسي؟ أجاب القائد وهو يلوح بالسيف المتعطش للدم: إن لم تحضر معنا فسنأخذ رأسك. ضحك الناسك: إن كانت رأسي ستنقذ المملكة فخذوها، إن كان خلاص الشعب بأن يرقص فوق جثتي فجروها إلى هناك! ها هو جسدي، ها هو عنقي، صدري، وجهي المحترق كفحمة، قدماي الشائهتان كحجر مبتور أخرس. وتقدم الناسك هابطا هذا المنحدر. فهتف القائد وهو يتراجع: أرجوك نريدك أنت نفسك، لا نريد رقبتك، لا نريد رأسك ولا ذراعيك ولا قدميك. القيصر الأصفر يريدك بجانبه، المملكة تريدك، أتوسل إليك! أتوسل إليك؛ حول نورك عني! حول نورك عني. تراجع القائد وتراجع الجنود، تتابعت خطوات الناسك واستمر تقهقر القائد والجنود، وارتفع صياحهم وبكاؤهم: حول نورك عنا، حول نورك عنا. والناسك يتقدم ويتقدم وهو يغني: نوري هو نور القمر ونور الشمس. وحياتي ليست ملكي؛ فهي حياة الأرض، حياة النائم في حضن المهد، حياة الراقد في الرمس. هذا جسدي، خذه إذا شئت أو اكتف بالرأس. فأنا باق مع هذا الشعب وفي جذر الشجر وقلب الطفل وحد الفأس، خذ مني الجسد أو الرأس فلن تأخذ مني النفس. وانطلق صوت لم ندر هل هو من الأرض أم من حناجر الذين حاصروا الجند أم من الجند أنفسهم: هي ملك الشعب وملك الأرض وملك الجند، ولو وضعوهم في جوف الحبس. والناسك يهبط ويهبط. يشع منه نور لا يقهر، والجنود يلقون سلاحهم ويتقدمون نحوه، والشعب يهلل ويتقدم نحوه. والقائد الصغير أسقط في يده، وحوصر وفر من الحصار، وانفلت هاربا إلى البحيرة، وألقى نفسه فيها. هذا هو الذي حدث في ذلك اليوم الذي غابت في شمس وأشرقت شمس!

الغريب :

ولم يعد الجيش، ولا عاد القائد، ولا الناسك.

الرجل :

ماذا قلت؟

الغريب :

لا، لا شيء.

الرجل :

وانضم الجنود إلى الناس. أخذوا يتعانقون ويرقصون ويغنون. وإذا بالناسك يطل عليهم من أعلى وينفذ فيهم. وبغير حركة أو إشارة انصرف الجميع إلى أعمالهم! ها هم أولاء، تعال اسألهم بنفسك. تعال.

الغريب :

يبدو القلق على وجوههم؛ هل تصوروا أنني عدوهم؟

الرجل (ضاحكا) :

عدوهم! إنهم يرددون قول المعلم: الطيبون أعاملهم معاملة طيبة.

والأشرار أعاملهم كذلك معاملة طيبة.

فالفضيلة طيبة وخيرة،

الأوفياء أعاملهم بوفاء،

والجاحدون أعاملهم كذلك بوفاء.

فالفضيلة مخلصة وفية. (ثم هاتفا بالناس وهو يتقدم نحوهم): أيها الطيبون، هذا الغريب قادم من بعيد.

رجل :

هل لديه خبر عن الناسك؟

الغريب (مترددا) :

أنا؟ إنني مثلكم أسأل عنه.

رجل :

هل تعرف إن كان سيبقى أو يذهب؟

امرأة :

هل جئت لتشفيه من مرضه؟

شيخ :

هل جئت لتأخذه معك؟

الغريب :

أنا؟ لا، لا.

شاب :

لعله سمع عن قريتنا.

امرأة :

أصبحنا ملجأ سياح الأرض!

الرجل :

بل بيت ضيافتهم يا حسناء!

امرأة أخرى :

طبعا، طبعا. وسنكرمه كرما لن ينساه.

الرجل :

اسكتي أنت؛ تذكري أن لك زوجا!

صوت رجل :

وأن الناسك زوج آخر وإن لم يرقد معك في سرير واحد!

المرأة :

خسئت! لماذا تذكرني بماض لن يعود؟

الرجل (للغريب) :

تلك قصتها. أتحب أن تسمعها منها؟

صوت رجل :

ليتك تذهب إليه أيها الغريب وتعرف الحقيقة!

صوت رجل آخر :

وهل سيسمح له التابع بالدخول؟

صوت رجل :

نحن لا نتصور أن يتركنا؛ كيف سنستغني عنه؟!

لم لا يتكلم أحد منكم: كيف سنستغني عنه؟!

صوت رجل آخر :

وخصوصا لو أحرق أحد منا بيته.

صوت الرجل الأول :

أنا لم أحرقه، لقد احترق. ألا تعرف الفرق بين الأفعال.

صوت الرجل :

أعرفه من البيت الجميل الذي شيدناه بعرقنا.

صوت رجل ثالث :

لو ذهب فسوف أعود لطبعي.

الرجل (ضاحكا) :

هل تقدر أن تترك الفأس والمحراث؟

صوت المرأة :

وترجع للسلب والنهب واقتحام خدور العذارى! (يضحك الجميع.)

الرجل (للغريب الذي اندمج في أحاديثهم) :

أرجوك، اعذرهم؛ فهم قلقون.

الغريب :

وأريد أن أعرف السبب.

الرجل :

وهل كانوا يقلقون لو عرفوه؟ إنهم ينتظرون كلمة من فم التابع. انظر إليه. إنه صامت كعادته. والناسك في داخل كوخه. أو في داخل نفسه. هل هو مريض؟ هل غضب علينا؟ هل يئس منا؟ هل ينوي أن يتركنا، هل يحمل جرابه ويذهب إلى قرية أخرى؟

الغريب :

قرية أخرى؟ إن قريتكم على حدود المملكة.

الرجل :

إلى مملكة أخرى من ممالك الصين الواسعة؛ لا بد أنهم سيرحبون به.

أصوات :

نحن سنمنعه من ذلك.

أصوات :

وسنستخدم معه القوة!

صوت :

القوة مع من عرفتم قوته؟

صوت :

إن قوته في ضعفه، وفعله في عدم فعله؛ ولهذا لا تنفع معه القوة.

الرجل :

لن ينفعنا إلا الصبر. أولم نتعلم منه مرارا؟ أنت؟

وأنت وأنت؟

قولوا للضيف الوافد كيف تغير كل منكم؟

كيف تفتت قطرات الماء الصخر؟

كيف انهزم الذئب النائم فيكم؟

كيف توارى ناب الشر؟

كيف ازدهر ربيع الحب،

وفاض الخير وذاع العطر؟

الغريب (وهو يجلس على الأرض) :

نعم، نعم؛ كيف وكيف وكيف؟

أصوات :

حتى يتضح الأمر،

وينكشف السر. (ينظر الجميع ناحية الكوخ. يهزون رءوسهم ويجلسون على الأرض.)

5 (المشهد السابق نفسه؛ الرجال والنساء والأطفال يجلسون على الأرض في دائرة كبيرة، وكلما روى أحدهم قصته مع الناسك توسط الحلقة وأخذ في تقمص دوره الغريب. يجلس بجانب الرجل الذي كان يرافقه وعيون الجميع معلقة بالكوخ في أعلى المنحدر، وبالتابع الذي يجلس أمام بابه، أو يذهب ويجيء في خطوات قلقة.)

رجل (وهو يبكي تأثرا) :

لا يمكنني أن أتصور رحيله عنا؛ كيف أقوى على فراقه؟ ماذا أقول توديعا له؟

الرجل :

ومن قال لك إنه سيرحل؟ اهدأ يا رجل!

الرجل الأول (مستمرا في البكاء) :

أنا الذي كنت لا أتوقف عن التشرد والتجوال، عرفت بفضله نعمة البيت والولد والأسرة.

الرجل :

ولهذا فأنت آخر من يحق له البكاء؛ منذ أن عرفناك والضحكة لا تفارق وجهك وصوتك.

الرجل الأول :

وتريدني أن أضحك الآن؟! (يثبت عينيه على الكوخ ويشير إليه.)

الرجل :

بل أريد أن تضحكنا؛ هيا ارو علينا قصتك معه.

الرجل الأول :

لا، لا أستطيع. لماذا أروي عليكم ما تعرفونه جميعا، ولا تريدون أن تنسوه؟

الرجل :

الضيف لا يعرف؛ هيا، هيا.

الرجل الأول :

الضيف لا يعرف؛ هيا، هيا.

الرجل الأول (يجفف دموعه وينهض على قدميه) :

هي قصة قديمة، وقد كنت بالأمس.

الرجل :

لا تكمل؛ أنت اليوم ممثل وحسب، هيا إلى وسط الحلقة.

الرجل الأول (ينتقل إلى وسط الدائرة وهو يغص بدموعه) :

كانت ليلة غريبة؛ آخر ليلة في عمر اللص الذي كنته، وعندما أتذكرها يخيل إلي أنها كانت ليلة ميلادي الجديد.

الرجل :

نعرف، نعرف. أنت الليلة تمثل الدور الذي لم يعد أحد بيننا يتذكره، وها هو القمر.

الرجل الأول :

أجل، أجل. نفس الوجه الضاحك الذي راح يطل علي وأنا أغادر كوخه. ومن يومها تعلمت أن أرفع رأسي إلى السماء لأنظر إلى القمر الذي لم أهتم مرة واحدة بالنظر إليه! كنت مشردا ضائعا كما تعرفون، لكنني كنت أملك تلك الشجاعة التي تدفع اللصوص إلى اقتحام البيوت وتفتيشها؛ بحثا عن شيء يعتقدون أنه سرق منهم، ومن حقهم أن يستردوه! كانت ليلة قارصة البرد. وكلما تذكرت عضة الجوع ولسع البرد حمدت السماء على الحساء الدافئ الذي يستقبلني في المساء كلما رجعت إلى بيتي. لم أجد في نفسي القوة على جر رجلي إلى هذه القرية التي لم أكن أعرفها. وعندما وصلت إلى الوادي ورأيت بصيصا من النور يتسرب من هذا الكوخ تأكدت من أنني سأجد الدفء ولو للحظات، أو سأجد الملابس التي تستر عريي. وتأكد ظني بعد أن فتحت الباب فلم أجد أحدا في داخله، ورحت أقلب الكوخ رأسا على عقب، فلم أعثر على شيء يمكنني حمله معي، حتى اللقمة الجافة لم أجدها فيه. وفجأة أحسست يدا تربت على كتفي وترد إلي نفسي المذعورة بلمستها الحنون. التفت فرأيته أمامي. طويلا نحيلا تشع البسمة من وجهه الأسود كالفحمة. ارتعش جسدي كله وحاولت أن أخرج كلمة واحدة. لكن صوته الطيب المتهدج امتد نحوي كأنه طوق النجاة: أعلم أنك قطعت طريقا طويلا لتزورني. يؤسفني أن لا تجد عندي شيئا تأخذه معك. هاك ردائي فخذه. وقفت مذهولا أمامه. والرعشة تنفضني وتحبس صوتي. وازداد ذهولي وأنا أراه يخلع رداءه الوحيد ويقدمه لي هامسا: لا يصح أن تخرج من عندي خالي اليدين. هاك ردائي فخذه. ومددت يدي فتناولته منه دون أن أنتبه إلى ما فعلت. وقبل أن أبلغ السفح التفت إلى الكوخ فرأيته يجلس عاريا أمامه وهو يرفع كفيه إلى القمر ويقول: مسكين! تمنيت لو أستطيع أن أهديه هذا القمر البديع! (الجميع يضحكون.)

الرجل :

لكنك زرته بعد ذلك.

الرجل الأول :

نعم نعم، ولم أكن وحدي. كان في صحبتي خمسة من زملائي الذين طالما أدبوا التجار الجشعين وأبكوا ملاك الأرض على أغنامهم وأبقارهم، ودون أن يقول كلمة واحدة ابتسم في وجوهنا وأخذ يتمتم وهو يبتهل إلى السماء: أيتها الأرض الأم، ها هم يرجعون إليك. وشعرنا أنه يعرينا من أقنعة ذنوبنا، ويخلع علينا ملابس المتعبين المبللة بقطرات العرق ومياه القنوات والحقول.

الرجل :

ومن يومها ونحن نشرب من عرقكم ونأكل من حصادكم.

الرجل الأول :

ونتلهف على السير في ظله أو على نظرة من عينيه.

الرجل :

بينما كان غيرك لا يطيق رائحته.

رجل :

إن كنت تقصدني فإنني أعترف.

الرجل الأول :

هيا إلى المسرح!

رجل :

وكيف أمثل وهو يحترق؟!

الرجل الأول :

ألم يساعدك على إطفاء الحريق؟

رجل :

ولولاه ما فكرت في البقاء في هذه البلدة لحظة واحدة. كنت أجلس وسط الأنقاض.

الرجل الأول :

الأفضل أن تجلس الآن وسط المسرح.

رجل (ينتقل إلى وسط الحلقة) :

نعم نعم. تصوروا رجلا أتت النار على بيته وفرشه، ووقف أمامه وهو يضم أولاده وزوجته المذكورة إلى صدره. كنا قد فقدنا كل شيء؛ الملابس والأثاث، والمأوى والأمل. وكان الجيران قد انصرفوا بعد أن شاركوا في إطفاء الحريق وتخفيف دموع الصغار. وبقينا وحدنا أمام عمر محترق وغد من رماد. وقبل أن يسلم الليل بالهزيمة، ويسكن الدخان المتصاعد من حطام النوافذ والجدران والأبواب؛ وجدناه يقف أمامنا وفي يده مصباح صغير. نظر إلينا ووضع المصباح على الأرض، وجاءنا صوته كنداء روح بعيدة عن أرواح الأسلاف: قم يا رجل، ألا تعرف أن بدايتك في نهايتك؟! قلت: سيدي. انظر إلى الحطام من حولك. قال وهو يشدني من يدي: ومن حطامك يرتفع بيتك الجديد. أشرت إلى الركام الذي تتوهج فيه الجمرات كعيون القطط الغاضبة، فقال: احترق بيتك ولكنك أنت لم تحترق. تفحمت أبوابه ونوافذه، ولكن فيك جوهرة لا تتفحم. تأملت وجهه الذي تحاشيت النظر إليه وبدأت أفكر فيما قاله، ولم يترك لي الزوار وقتا للتفكير؛ فقد فوجئت بأهل البلدة يتوافدون واحدا بعد الآخر. لم يكن هناك باب يطرقونه. وجدتهم أمامي كأنهم على موعد واحد؛ النجار العجوز ومعه عربة عليها ألواح الخشب والقادوم والمنشار وصبي صغير. فلاحون يحملون فئوسهم وسلالهم ويشرعون في رفع الرماد والأحجار وشظايا الخشب وأسياخ الحديد. عمال يسوون الأرض ويخطون العلامات ويثبتون الألواح والمسامير وينجرون ويطرقون ويتحركون كالأشباح في حلم غريب. وأنا أتحرك معهم، وزوجتي وأولادي يناولون وينحنون ويقومون ويسألون ويجيبون. والجميع يعملون كأن كل واحد نغمة تذوب في لحن كبير. ما الذي أيقظهم في هذه الساعة من الليل؟! لقد شارك بعضهم في إطفاء الحريق وتجفيف الدموع ثم انصرفوا إلى بيوتهم، ولم يتأخر بعض الجيران من إحضار ما استطاعوا إحضاره من طعام أو غطاء أو ماء. أما أن يأتوا الآن ليزيلوا الأنقاض ويرفعوا البناء، ولا يتركوني وأولادي حتى يغلقوا وراءهم الباب على بيت جديد؛ فذلك شيء لا يحدث إلا على أيدي السحرة، أو في حكايات الأطفال. وطالت حيرتي أمام اللغز العجيب؛ كيف تحولت البلدة إلى رجل واحد، وتحول العالم إلى بلدة واحدة؟ كيف تعلم الجار ألا يغلق عليه بابه وجاره جائع أو عطشان مريض أو محزون؟ وما زلت أسأل نفسي إلى اليوم: هل طرق المعلم في تلك الليلة كل الأبواب؟ هل أحس أحد أنه جاء إلي وبدأ يزيل الحطام في صمت فنبه النائمين؟ لا أدري. لا أدري.

امرأة (ترفع صوتها) :

حتى الحطام، شارك في رفع الحطام.

الرجل :

أنت أيضا.

المرأة :

نعم، نعم. ولولا زوجته لأدفأته في تلك الليلة الباردة.

الرجل :

وتعترفين أمام زوجك؟

الزوج :

اخجلي يا امرأة!

المرأة :

ومم الخجل؟ لقد ذهبت بالفعل إليه!

الزوج :

تقولين هذا أمامي؟!

المرأة :

وأقوله أمام الجميع؛ لقد كنت حطاما ما قبل أن أتزوجك. ثم إنه ماض لا يعينك.

الرجل (ضاحكا) :

كيف لا يعنيه وهو الذي أزال الحطام وأقام البناء الجديد؟

الزوج :

قل لها يا أخي.

المرأة :

وهل أنكرت فضله؟ لقد صار لي الآن زوج وبيت سعيد. ولكن لم يكن هو الذي رفع الحطام وأقام البيت الجديد.

الزوج :

يا للتناقض! يا لجحود النساء! هل سمعت شيئا كهذا أيها الضيف الغريب؟

المرأة :

الضيف الغريب سيسمعني أنا؛ نعم يا سيدي، لقد كان هو الذي أقام البيت الجديد.

الرجل (ضاحكا) :

وهو نفسه الذي أقام البيت السعيد؟!

المرأة (تقف على قدميها وتقول بانفعال) :

ليس في هذا ما يضحك. تعرفون جميعا من الذي أقصده (تلتفت ناحية الكوخ)

تعرفون جميعا من أنا وكيف كنت. هل فيكم من لم يعرفني؟

الزوج :

اخجلي يا امرأة!

المرأة :

ليس في حياتي منذ أن تزوجتك شيء أخجل منه. إنني أتكلم عن الماضي وليس فيكم من لا يعرف ماضي؛ (يطرق الجميع برءوسهم ويصمتون)

أما كيف تحولت حياتي في ليلة واحدة؟ كيف أصبحت إنسانا مثلكم؟ كيف بدأت أنظر في وجوهكم وتنظرون في وجهي بلا خجل.

الرجل (مشيرا لها أن تتوسط الدائرة) :

أرجوك! ليس فينا اليوم من لا يحترم الآخر.

المرأة (تتوسط الحلقة وتبدأ حديثها) :

أنا الحطام الذي رفعه بيديه، الحطام الذي حوله إلى زوجة وأم وإنسان. نعم يا سيدي، استمع أنت إلي؛ فأنت الوحيد الذي لا يحتاج أن يسد أذنيه.

الرجل :

استمري؛ نحن جميعا نسمعك.

المرأة :

كنت بغيا أعيش من عرق نهدي، أنام في فراشهم عندما يشاءون، وعندما يشبعون أو يملون أبحث عن مأوى ككلبة ضائعة. وأصبحت يوما على آلام فظيعة في أحشائي، ورغبة فظيعة في أن أتقيأ ما فيها، وأبصق على البلدة وكل رجل فيها. وتحملت الألم الذي لم أستطع الخلاص منه، كما تحملت النوم في فراشهم لكي لا أموت جوعا. حتى جاءت ليلة الوضع وأنا أصرخ وحدي في كوخ مهجور. ربما بلغت لعناتي سمع عجوز فقيرة رأيتها تدخل فجأة وتساعدني على آلام المخاض، وتمسح على وجهي بالماء الدافئ، وتدس في فمي حبات الأرز الطرية. ثم تتركني لأنام مع الوليد الذي اندس كالجرو الصغير في صدري . وتعاود الزيارة ليلة بعد ليلة ومعها القليل من الأرز واللبن. كنت أنظر من نافذة الكوخ فأرى البلدة تنام قريرة العين، لا تشعر بالظلم ولا المظلوم. وأنوارها تبدو من بعيد كنجوم تحرس جنة صغيرة راضية. أيتها البلدة المنافقة! أيها الرجال المنافقون! أيها العالم المنافق الوضيع! كنت بعد انصراف العجوز أفكر في شيء واحد؛ شيء لا يمكن أن يلومني عليه أقسى القضاة والكهنة والجلادين: أن آخذ طفلي وأجري كالكلبة المسعورة إلى أقرب جبل لألقي بنفسي من فوق قمته. لكني كنت أحاول النهوض من فراشي فلا أستطيع. وأحاول أن أثبت قدمي على الأرض فلا تقوى قدماي على حملي. ويصرخ الرضيع ويطالب بحقه. وأصرخ من الألم وأعيد المحاولة. حتى فتحت عيني يوما فوجدته على رأسي؛ وجه أسود كالليل الذي تتوسطه شمس ابتسامة حانية. كان يحمل الطفل على صدره ويسنده بيده وذراعه اليمنى. أما يده اليسرى فكانت تربت على رأسي وشعري؛ محاولة أن تجيب على أسئلتي المذعورة. وكانت أول كلمة تخرج من شفتيه ردا على نظرتي الخائفة المتسائلة هي هذه الكلمة: نعم. قلت مستفسرة: نعم ماذا؟ قال: لقد مات ولم تشعري به. صرخت ومددت ذراعي نحوه. لا فائدة. علينا الآن أن نفكر في دفنه، سألت باكية: متى؟ قال: لقد جاء في الوقت الذي كان لا بد فيه أن يأتي وذهب حين كان لا بد أن يذهب. قلت: البلدة كلها مسئولة عن ذنبه. قال في هدوء: والعالم كله يا ابنتي! ستعجبون إذا قلت لكم إنني ضحكت مع أنه كان يحمل طفلي الميت على صدره وقلت: ابنتك؟ شاب مثلك يقول هذا؟! ثم نسيت ألمي وغمزت بعيني وقلت: أنت الوحيد الذي لا ذنب عليه. أنت الوحيد الذي لم يدعني إلى فراشه! ابتسم وقال: ربما علينا الآن أن نفكر فيه. غلبتني الرغبة في مداعبته فقلت: وأنا ألا تفكر في مصيري؟ قال وهو يتطلع من النافذة: وأفكر في مصير العالم. صمت دون أن أشعر: لا يهمني العالم الآن؛ إنه عالم منافق وضيع، كل من في هذه البلدة منافق وضيع. لماذا لا تتزوجني؟ ابتسم وقال في هدوء: يمكنك أن تعتبريني زوجك. كتمت فرحتي وقلت: ويسمونني زوجتك؟ قال: بل يقولون: بدأت تسير على الطريق. قلت محتجة: الطريق؟ ما معنى هذا؟ قال: هو الطريق، كل من يتحد بالطريق يصبح هو العالم، والسماء، والأرض، والأبدية. يجد نفسه في الطريق ويجد الطريق فيه. تصورت أنه يهذي فسألت: هل أنت ناسك؟ قال وقد نفد صبره: لا أدري. ولكنهم يدعونني بهذا الاسم. واتجه إلى الباب ومعه الطفل الميت. وغاب ساعة ثم رجع وهو يقول: هو الآن في حضن الأم. رفعت عيني إليه مستفسرة فقال: نعم، يمكنك أن تطمئني عليه؛ الآن يرقد في حضن الأرض الأم. عليك أن تفكري في نفسك. قلت: ألم تفكر فيها؟ ألم توافق على الزواج مني؟ ضحك وقال: بشرط ألا أعيش ولا أنام في فراشك. قلت ضاحكة: وتسميه زواجا؟ قال بهدوء: هكذا تزوجت العالم وتزوجني. هكذا اتحدت بالأرض والسماء والشجر والنجوم والبشر والحيوان واتحدت بي. سكت لحظة ورحت أتطلع في وجهه المتفحم وقدميه الخاليتين من الأصابع، فقال بعد لحظة: يمكنك أن تطمئني. وعندما تستردين عافيتك تعالي إلى كوخي، وستجدين ما تطلبين. ووضع لفافة كبيرة على سريري وانصرف. وبعد أن اختفى ظله فتحتها ووجدت فيها ما يكفيني من الطعام عدة أيام. ولم أكد أسترد أنفاسي حتى سألت عنه، وذهبت إليه. ضحك عندما رآني وهتف: أيتها الزوجة الهاربة، هل عدت أخيرا؟ وضحكت أنا أيضا عندما وجدته يقدم إلى رجلا كان يقف في ركن منزو ويبتسم الناسك بدوره وهو يضع يده في يدي، ويقول: هذا البستاني الذي يرعى الأشجار القليلة أمام كوخي يمكن أيضا أن يرعى بستانك.

الزوج :

وقد رعيت البستان ووضعت بذري فيه.

المرأة :

حتى منحت ثلاثة أزهار برية! (يضحك الجميع؛ تضحك المرأة في خجل وترجع إلى المكان الذي كانت تجلس فيه.)

الرجل (متلفتا إلى الجميع) :

والآن! من جاء عليه الدور؟ (يسمع صوت نداء: يا حارس الحدود! يا حارس الحدود!)

الرجل :

ها هو يناديني، لا بد أن أحدا يعبر الحدود. نعم، نعم؛ أهناك من يدفع الضريبة ؟

المنادي :

عجوز ومعه صبي. يريدان أن يجتازا الحدود.

صوت :

ربما يقدم لك هدية.

صوت :

ضمنت عشاءك الليلة!

صوت :

تذكرنا وأنت تمضغه على مهل.

الرجل :

لا بد أن أذهب. أراكم بعد قليل. (ينصرف مسرعا.)

رجل آخر :

من جاء عليه الدور؟ (يشير إلى رجل.)

رجل :

أنا؟ لا، لا.

رجل آخر :

تعرفون قصتي أكثر مما أعرفها.

رجل :

ومن هنا لا يعرف قصة كل منا؟

رجل :

النساء أسرار!

المرأة :

ولا يخفى عليهن سر!

رجل :

إذن نسكت جميعا ويتكلم الغريب.

أصوات :

الغريب! الغريب؟

رجل :

قل لنا من أنت؟ من أين أتيت؟ ماذا تعمل؟

رجل :

يبدو أنك صياد.

رجل :

أو جندي هارب!

رجل :

أو طالب علم متجول!

رجل :

أو مطرود منفي من بلده.

رجل :

أو من مملكته! (يضحكون. الغريب يبدو عليه الارتباك. يلتفتون إلى الكوخ فيسمعون صوت التابع ينادي) :

التابع :

أيها القيصر الأصفر!

الجميع :

القيصر الأصفر!

التابع :

تعال أيها القيصر الأصفر، الناسك في انتظارك! (يضطرب الجميع. يحاول البعض أن يهجم على الغريب فيحول الرجل بينه وبينهم. تتردد بعض الأصوات: جاسوس! اقبضوا عليه دعوه، ابتعدوا عنه! خدعنا - لا يصح أن يفلت منا - الناسك يطلبه - سمعتم أنه ينتظره - دعوه - لا تقتربوا منه! لا يمسه أحد!)

التابع :

أيها القيصر الأصفر!

أيها القيصر الأصفر!

الناسك في انتظارك.

أسرع؛ فقد أوشك الرحيل!

6 (في كوخ الناسك؛ الإضاءة خافتة، التابع يدخل على أطراف أصابعه، وأنين الناسك الراقد على فراشه يتردد كأنه يصارع نزعات الموت. التابع يتجه إلى النافذة الصغيرة ليفتحها فيوقفه الناسك بقوله.)

الناسك :

لا لا، لا تفتحها.

التابع :

إنه قادم.

الناسك :

كنت أعرف أننا سنلتقي.

التابع :

بعد لحظات تتسمع طرقه على الباب.

الناسك (يتألم) :

وا أسفاه! جاء بعد فوات الأوان.

التابع (يشد الستائر) :

أليس الأفضل أن يغمر النور كل شيء؟

الناسك :

آه! لماذا تؤلمني يا ولدي؟

التابع :

عليه أن يرى جريمته، أن يحس بما جنت يداه!

الناسك :

أنت الذي تجني علي!

التابع :

أنا يا معلمي؟!

الناسك :

نعم أنت؛ هل نسيت ما قلته لك يوما: كن نورا يا ولدي تنهزم الظلمات أمامك!

التابع :

ولهذا فتحت النافذة؛ لا بد أن يعرف ذنبه.

الناسك :

أغلقها يا ولدي وكف عن هذا الكلام.

التابع :

لماذا يا معلمي؟ هل أخطأت عندما تكلمت عن جريمته؟ أليس هو المسئول عن آلامك الفظيعة طوال سنوات وسنوات؟ وما معنى زيارته إن لم يشعر بالندم؟

الناسك :

الندم؟ بعد فوات الوقت؟

التابع :

الوقت لم يفت يا معلمي. إن الجلاد يصعد المنحدر، عليه أن يقف الآن أمامك.

الناسك :

ليواجه الجلاد ضحيته؟! ما أشد سذاجتك! وماذا يستفيد الشعب من هذا؟ ماذا تستفيد الأرض والسماء؟ ليتك تعلمت مني شيئا!

التابع :

تعلمت الكثير يا سيدي؛ كل ما أقوله.

الناسك (متألما) :

كل ما تقوله يثبت أنك لم تتعلم شيئا. لم تتخلص من الطبلة الجوفاء! أغلق النافذة، أرجوك (يتأوه ألما) .

التابع :

قبل أن أضع الدواء بجانبك؟

الناسك (ضاحكا بصعوبة) :

نعم نعم؛ تلك الأعشاب الصفراء التي لم تنجح في شفائي! آه من هذا اللون الأصفر في كل شيء! لا تنس العكاز أيضا يا ولدي.

التابع (يسمع طرقا على الباب) :

هل تفكر في النهوض من الفراش؟

الناسك :

افعل ما قلت لك. هل سمعت الطرق على الباب؟ (التابع يشد الستارة فيخفت الضوء. يتحرك بسرعة في أرجاء الكوخ الذي يعرفه جيدا، فيضع الدواء بجوار المريض، والعكاز على حافة السرير - يتجه نحو الباب ويفتحه، يدخل القيصر الأصفر الذي يضع يديه على عينيه قبل أن يسمع صوت الناسك.)

الناسك :

جئت أيها القيصر الأصفر؟ (التابع يأخذه من يده قليلا. يتقدم خطوات إلى الأمام، ينسحب التابع ويغلق الباب وراءه. يسمع صوت الناسك.)

الناسك :

تعال، تعال أيها القيصر الأصفر.

القيصر :

سيدي، لا أكاد أرى شيئا!

الناسك :

لا يهم أن ترى، لا يهم أن تسمع، ألا تتذكر ما قلته لك؟ (يتأوه من الألم.)

القيصر :

أسمعك تتألم أيها الناسك. وأنينك يدل خطاي في هذا الظلام، ويزيد إحساسي بالندم!

الناسك :

الندم؟ لا داعي لأن تنطق هذه الكلمة. لا داعي لأن أذكرك بما قلته لك من قبل. ثم إن الوقت قد تأخر.

القيصر :

تأخر؟ ماذا تقصد؟ لكنه سيتسع لتوبتي. سيتسع لأركع على قدميك اللتين قطعت أصابعهما، وأغمر بدموعي وجهك الذي أحرقته. سيدي، سيدي (ينشج نشيجا مؤثرا. يتسمر في موضعه، فيناديه الناسك) .

الناسك :

بل يتسع الوقت لكي نتحدث كصديقين؛ لكي أجدد لك شكري.

القيصر :

تشكرني مرة أخرى؟ بعد هذا الزمن الطويل؟

الناسك :

ولم لا؟ ألم تساعدني على التخلص من الطبلة الجوفاء؟ ألم تساعدني على أن أضع قدمي على الطريق؟

القيصر :

لكنني نزعت مع الطبلة جلدة وجهك. ولم أضع قدمك على الطريق قبل أن أقطع أصابعك! أرجوك، أعطني فرصة الندم. لا تحرمني منها.

الناسك :

لن يتسع الوقت. ما بقي منه لا يسمح بالتلفت إلى الماضي.

القيصر :

لكنك تتألم، تتألم. ألم تقل لي ذات يوم: لقد دفنت جسدي. وكذلك لم أعد أحس بالألم؟!

الناسك (محاولا أن يضحك) :

نعم نعم؛ يبدو أنني استطعت أن أدفن جسدي بنفسي، ولكني لم أنجح في أن أدفن ألمي! تعال، تعال نحاول أن نعيده إلى قبره!

القيصر :

وأقوم مرة أخرى بدور الجلاد؟ وتواجهني مواجهة الضحية؟

الناسك :

جلاد؟ وضحية؟ كأنك تكرر كلام التابع الصغير! قلت لك لا وقت للندم ولا للحساب.

القيصر :

هنالك دائما وقت للانتقام!

الناسك (في فزع) :

الانتقام؟! وأنا في آخر أنفاسي؟!

القيصر :

حتى القديس لا بد أن يفكر في الانتقام عندما يقع جلاده في يديه.

الناسك :

لقد جئت بنفسك ولم تقع بين يدي. سعيت إلي ولم أحاصرك بجيشي.

القيصر :

وهذا ما يزيد إحساسي بالندم. كانت غلطة فظيعة! (يعود إلى نشيجه المتقطع في الظلام.)

الناسك :

تعال! تعال! قلت لك إن الوقت تأخر؛ أتريد أن أحضر أنا إليك؟ (يبحث عن العكاز، يحاول أن يقوم من الفراش ويستند عليه فتند عنه صرخة ألم فظيع. يسرع إليه القيصر.)

القيصر :

ما هذا؟ ماذا تفعل؟ (يصل إليه ويركع عند فراشه.)

الناسك (متأوها) :

لا شيء، لا شيء؛ حاولت أن ألمس يديك، ربما حاولت أيضا أن أعانقك وأضمك إلى صدري.

القيصر :

تعانقني وتضمني إلى صدرك؟!

الناسك :

نعم نعم. ألم نتفق على أن ندفنه معا؟ ألم أقل إن الوقت لا يتسع لألم ولا ندم. أعرف أنك جئت لشيء آخر .

القيصر :

صحيح ما تقول، وها أنا أرى أن الوقت تأخر!

الناسك :

تكلم، تكلم؛ ربما يتأخر تماما كما نتصور.

القيصر :

تغير الآن كل شيء، تغير كل شيء!

الناسك :

ربما أكون قد تغيرت. هل حاولت أن تغير نفسك؟ هل عثرت على اللؤلؤة السحرية؟

القيصر :

اللؤلؤة السحرية؟ نعم نعم.

الناسك :

هل وجدتها؟

القيصر :

فشلت أيها الناسك. القوة لم تعدني إليها. المعرفة والفصاحة لم تساعداني على العثور عليها. قلت لك فشلت وعجزت. ولهذا جئت لتهديني إليها، جئت لأتوسل إليك أن تصحبني إلى هناك وتكون ذراعي اليمنى.

الناسك :

حتى لو سمح الوقت، هل كنت تنتظر أن أحضر معك؟

القيصر :

بعد أن جئت والدموع في عيني.

الناسك :

قد يتسع الوقت لإلقاء سؤالك.

القيصر :

سؤالي؟ نعم نعم. لقد نفذت ببصيرتك إلى قلبي. وهل تحتاج أن ألقيه عليك؟ إنك تعرفه بنفسك.

الناسك :

نعم أعرفه. السؤال الذي لم يجب عليه أحد حتى الآن في مملكة الصين الواسعة، السؤال الذي جعلني أترك قريتي ومعلمي وأهلي، وأنطلق لتغيير العالم ...

القيصر :

لقد نجحت على الأقل في تغيير نفسك، نجحت في تغيير الناس من حولك.

الناسك :

أتظن هذا؟

القيصر :

لقد رأيتهم بعيني وسمعتهم بأذني، وتكلمت معهم بلساني.

الناسك :

وما زلت تردد السؤال!

القيصر :

نعم نعم؛ كيف أحكم المملكة؟

الناسك :

كيف تحكم المملكة؟ كيف تحكم الشعب؟ أيتها السماء أمهليني حتى أروي عليه بعض الأمثلة والحكايات!

القيصر :

لم أحضر لسماع أمثلة وحكايات؛ أريد منك الإجابة على السؤال.

الناسك :

وهذه هي طريقتي في الإجابة.

القيصر :

إنني أستمع إليك؛ عم تبحث أيها الناسك؟

الناسك :

عن الدواء، ناولني هذه الأعشاب.

القيصر (يبحث عنها ويجدها؛ يناولها له) :

هذه؟

الناسك :

نعم نعم، ربما تنجح في تخفيف الألم! (يضع في فمه بعض الأعشاب الصفراء. يتنحنح ويقول)

رحل الحكيم «تيين-كين» إلى الجنوب من جبل بين. ولما بلغ نهر «لياو» لقي رجلا مجهولا يهيم على وجهه. سأله الرجل: هل تسمح لي أيها الحكيم بأن أسألك سؤالا؟ قال تيين كين: اسأل يا ولدي. قال الرجل: كيف أحكم المملكة؟ غضب الحكيم فجأة ونهره قائلا : ابتعد عني؛ إنك إنسان فاشل، ولا بد أنك حاكم فاشل! ثم إن سؤالك في غير محله؛ فمنذ أن سرت على الطريق اتحدت مع كل شيء، واتحد كل شيء معي. وها أنا أحلق بجناحين خفيفين فوق جهات الأرض الست. أدخل مملكة العدم، وأنطلق وحيدا في وحشة السكون والفراغ العظيم؛ لأتوحد بالحركة والامتلاء العظيم.

بدا على وجه الرجل المجهول أنه لم يفهم شيئا. حدق في وجه الحكيم وأعاد سؤاله للمرة الثانية: أرجوك؛ كيف أحكم المملكة؟

أجاب الحكيم تيين-كين قائلا: تحرر من كل شيء، أرجع روحك للبراءة. عود جسدك على السكينة. أسلم نفسك لنظام العالم، حاول أن تتخلص من ذاتك وأنانيتك. لا تفعل شيئا، لا تتدخل في شيء، لا تتحكم، لا تتسلط. وستفعل كل الأشياء وتحكم مملكة العالم.

أدار الحكيم ظهره للرجل المجهول، ومضى إلى حال سبيله. وقف الرجل مبهوتا يحدق في ظهر الحكيم، ويرفع رأسه للسماء ويقلب طرفه في الجبل والوادي قبل أن ينطلق جاريا وراءه: انتظر! انتظر أيها الحكيم! كيف أحكم المملكة؟ لم يعره الحكيم التفاتا. وربما لم يسمع صوته؛ فقد كان قد عبر نهر «لياو» وقطع مسافة طويلة على الطريق إلى قمة الجبل الأخضر.

القيصر :

غريب! هذا شبيه بما حدث لي.

الناسك :

لك أنت؟

القيصر :

نعم نعم، لقد قابلت أكثر من حكيم وتلقيت نفس الجواب، ومع ذلك لم يتغير شيء في المملكة!

الناسك :

ربما لم تحاول أن تغير نفسك قبل أن تغير المملكة!

القيصر :

حاولت، حاولت ومع ذلك تخلى عني شعبي.

الناسك :

مثلما فعل القيصر «تين-هوي» عندما لبس رداء النساك الفقراء، وذهب إلى الحكيم كونج-فوتسو.

القيصر :

هو أيضا فعل هذا؟

الناسك :

وسأله نفس السؤال!

القيصر :

لماذا تخلى عني شعبي؟

الناسك :

وتوسل إليه أن يدله على الطريق!

القيصر :

هذا ما أريده أنا أيضا؛ لهذا جئت إليك!

الناسك :

هل تعلم ماذا قال له كونج-فو-تسو؟

القيصر :

ماذا قال له؟

الناسك :

هناك طريق، لكن من الصعب أن تسير عليه؛ فالطرق السهلة ليست هي طرق السماء، هل جربت الصوم؟

قال القيصر: لقد امتنعت منذ شهور عن أكل اللحم وشرب النبيذ.

قال الحكيم: لا يكفي ، هذا هو الصوم الذي قررته الطقوس.

انصرف القيصر ثم رجع بعد شهور وقال: أيها الحكيم، لقد صمت عن تقديم التضحيات وأداء الطقوس.

قال الحكيم: حسن أن تفعل هذا، ولكنه لا يكفي!

غاب القيصر عدة شهور ثم رجع إلى الحكيم وقال: أيها الحكيم، أيها الحكيم.

رفع الحكيم بصره إليه فوجد أمامه رجلا مهزولا نحيل الجسد فسأله:

يبدو أنك خطوت خطوات أبعد ولم تقتصر على الصوم عن الطعام والشراب.

فرح القيصر ببعد نظره ونفاذ بصيرته وهتف: نعم نعم. لقد صمت كذلك عن الكلام، وصمت عن وعظ الناس بالعدالة والفضيلة وحب الجار.

أطرق الحكيم برأسه قليلا ثم رفعها وقلب فيه عينيه الحزينتين وقال: كل هذا حسن، لكنه لا يكفي!

غضب القيصر ونسي في فورة غضبه أنه يرتدي ثياب الناسك الفقير وصاح: ماذا بقي علي لأفعل؟ ماذا بقي علي؟

قال الحكيم بهدوء: لا بد من صوم القلب.

سأل القيصر نافد الصبر: وما هو صوم القلب؟

قال الحكيم: تعلم أن تتحد وأن تتجرد.

تبلد وجه القيصر بسحب الهم الثقيلة ولم ينطق. فاستطرد الحكيم كونج-فو-تسو قائلا: أن تتحرر من كل شيء وتتحد بكل شيء؛ هذا هو صوم القلب. في مثل هذا القلب يسكن «الطاو»، لمثله تأتي الحقيقة. ومن يصل إليه لن يسأل سؤالك، لن يتعذر عليه حكم إنسان، ولن يتعذر عليه حكم المملكة.

القيصر :

وهذا هو ما فعله القيصر ولم ينجح في حكم الإنسان ولا حكم المملكة.

الناسك :

وكيف عرفت هذا؟

القيصر :

لهذا جاء يستعطفك ويتوسل إليك!

الناسك :

جاء والحكيم ينازع الموت.

القيصر :

لا تقل هذا، لا تزال هناك بقية لطرح السؤال والعثور على اللؤلؤة.

الناسك (يحاول أن يضحك) :

إن تخلى عن القوة والمعرفة والفصاحة!

القيصر :

صدقني أيها الناسك الحكيم، لقد تخليت عن كل شيء كما أوصى حكماؤك.

الناسك :

ماذا تقصد؟

القيصر :

ربما لا تصدقني، ولكن ها أنا ذا أمامك. لولا هذا الضوء الخافت لرأيتني وصدقتني، لقد فكرت طويلا فيما قلته لي في ذلك اليوم.

الناسك :

تقول فكرت؟

القيصر :

ولم أكتف بالتفكير؛ همت على وجهي في الجبال والوديان والبراري شهورا طويلة. خلعت ثوب القيصر وتاجه، ولبست ثياب النساك الفقراء.

الناسك :

أنت فعلت هذا؟

القيصر :

فعلته، فعلته؛ عفرت وجهي في التراب أمام الحكماء، صمت عن أكل اللحم وشرب النبيذ وأداء الطقوس والوعظ بالعدالة والفضيلة وحب الجار.

الناسك :

لكنك لم تصم صوم القلب!

القيصر :

وهذا أيضا جربته، ورحت أبحث عنك في كل مدينة وقرية؛ على قمم الجبال، وفي الكهوف والوديان الموحشة. حتى عثرت عليك أخيرا وأسرعت إليك.

الناسك :

لتسألني نفس السؤال؟

القيصر :

أجل، أجل؛ كيف أحكم المملكة؟ لماذا تخلى عني الشعب؟

الناسك :

ولم يخطر على بالك الجواب؟

القيصر :

جئت لأسمعه منك.

الناسك :

عندما تخليت عن الشعب تخلى عنك. اسمع ما حدث لي بعد أن خرجت من قصرك ومضيت أبحث عن مكان أستقر فيه.

القيصر :

حكاية أخرى؟

الناسك :

ربما تجد فيها الجواب؛ كنت قد غادرت لتوي قرية صغيرة لم تستقبلني فيها إلا الوجوه العابسة والعيون اليائسة. كان من الواضح أن القرويين يعانون من القحط والجوع، ولا يريدون أن يزيد عدد الأفواه والبطون الجائعة. وتركت القرية وسرت على الطريق المؤدي إلى الجبال المحيطة. وعندما مررت بسور مزرعة جف فيها العشب وأقفرت الحقول ومخازن الحبوب لمحت عددا من الخنازير الصغيرة الهزيلة، التي التفت حول أمها، وراحت تتنافس في صراع مرير على ضرعها. كانت تحاول وتحاول. تبتعد وتقترب، تغرس أفواهها في لحم الأم، وتتشبث لحظة بحلمات ضرعها، ثم تيئس منها وتعود إلى المحاولة العنيدة. وبعد لحظات رأيتها تتجمع عند رأس الأم وتحدق فيه قبل أن تفر هاربة مذعورة. هل تعلم لماذا فرت الخنازير الصغيرة وهي تنتفض يأسا وخوفا؟

القيصر :

لأن ضرع أمها كان خاليا من اللبن؟

الناسك :

بل لأن أمها كانت قد ماتت جوعا. وتجمعت الخنازير الصغيرة حولها، وحاولت أن ترضع منها، ثم اكتشفت بعد قليل أن عيون الأم باردة مطفأة، لا تنظر إليها ولا تعطيها الحنان الذي تعودت عليه فانفلتت جارية مذعورة.

القيصر :

أهذا هو حال شعبي معي؟

الناسك :

بالطبع؛ عندما تخليت عن الشعب تخلى عنك.

القيصر :

أنا لم أتخل عنه؛ لقد جربت كل طريق يؤدي إلى سعادته، سرت على كل طريق يؤدي إلى إشباع بطنه بأنواع الحبوب الخمسة.

الناسك :

ولم يكن طريقك هو الطريق.

القيصر :

ماذا تقصد؟

الناسك :

عندما تخليت عن طريق الحقيقة تخلى عنه الشعب، وعندما تخلى عنه ضلت الإنسانية، وعندما ضلت الإنسانية غرق في البؤس والجوع والفوضى والجريمة.

القيصر :

لست وحدي مسئولا عن الفوضى والجريمة؛ لقد وثقت بأعواني الذين أعطيتهم الثقة فخانوني.

الناسك :

أعطيتهم الثقة أم السلطة؟

القيصر :

وما الفرق؟ هل يمكن أن يعمل الشعب بغير سلطة حازمة تراقب عمله وتعاقبه على تهاونه وخروجه على القوانين؟

الناسك :

وأصبحت السلطة التسلط، وصار العمل هو القهر، والطاعة العمياء هي المبرر الوحيد للحياة. والعقاب هو الغاية والنهاية الأخيرة. حتى اشتهرت الصين بأنها بلد العقاب، وتحول شعب الصين إلى شعب المعاقبين بأغرب أنواع العقاب.

القيصر :

هذا هو ذنب الأعوان الذين لم يخلصوا لي.

الناسك :

آه! أسطورة الحاكم والأعوان، بل أخلصوا لك ولأنفسهم كل الإخلاص. أليسوا هم ظلك على الأرض؟ أليسوا أشباح القيصر المتربع على عرش المملكة؟ لقد فعلوا ما حذركم منه الحكماء قرونا بعد قرون.

القيصر :

هل انتظرتم أن يفهموا ما تريدونه بعدم الفعل؟ هل كان يرضيكم أن تتحجر المملكة، ويتجمد الشعب، ويتحول الناس إلى جيوش من الكسالى والمتسولين والمتبلدين.

الناسك :

الذين أوصوا بعدم الفعل كانوا يقصدون عدم التسلط. والذين تسلطوا أضاعوا الطريق فضاع الشعب! آه من جيش المتسلطين الذين خربوا ممالك الصين! كان القيصر في العصور القديمة المباركة هو الأب الحكيم، لم يهرب منه الشعب كما هربت الخنازير الصغيرة من أمها الميتة. أتدري لماذا؟ لأنه لم يكن ميتا! أتدري متى يحيا الإنسان كالميت؟ عندما يعيش ليتسلط على غيره ويفرض عليه الطاعة ويضع على رقبته سيف العقاب، عندما يحتكر الحياة لنفسه ويحول غيره إلى أموات، عندما يصمم على إقامة عرشه فوق مقبرة جماعية! ألا تذكر ما كان يقوله لك معلمك وأنت صغير؟ هل نسيت الكلمات المأثورة التي كان يعلمك أن تقرأها وتكتبها بينما كان أبوك ينظر إليك بحنان، ويحلم بأن تخلفه على العرش؟

القيصر :

نعم، نعم؛ القيصر هو وسط المملكة، هو مركز التوازن بين السماء والأرض.

الناسك :

وكم مرة في التاريخ اختل ميزان الأرض والمملكة؟ كم مرة اختل الميزان فاختل التوازن؟ وعندما اختل التوازن اختلت الإنسانية، وعندما اختلت الإنسانية ضل الناس الطريق، وفقدوا الأمن والسعادة، وندموا على أنهم ولدوا في مملكة الطاعة والعقاب؛ في مملكة الصين!

القيصر :

لم يحدث هذا إلا عندما فسد الحكم والحاكم.

الناسك :

وقد علمك مربيك العجوز أن الحاكم إذا فسد فسد الحصاد، وفاض النهر الأصفر، وعصفت الأوبئة والمجاعات، وانهارت جبال الثلج لتغرق المدن والقرى والحقول.

القيصر :

وعبرت السحب فلم تمطر، وسقطت الأوراق قبل أن تجف، وشحب وجه الشمس والقمر! معذرة أيها الناسك؛ يبدو أنك لم تتغير.

الناسك :

لقد حاولت أن أغير نفسي.

القيصر :

وما زلت ثائرا كما رأيتك أول مرة؛ إني لأعجب من شيء واحد.

الناسك :

وما هو أيها القيصر؟

القيصر :

كيف يجتمع الثائر والقديس في شخص واحد؟

الناسك :

وما الذي يمنع هذا؟ ما الذي يحول دون أن يصبح الثائر قديسا والقديس ثائرا؟

القيصر :

حقا لا يمنع شيء، يكفي أن أنظر إليك لأتأكد من هذا.

الناسك (ضاحكا ضحكة عالية، يتبعها سعال شديد) :

إلي أنا؟ هل تحملت مشقة السفر الطويل لتقول لي هذا؟

القيصر :

ويكفيني أن أراه بعيني.

الناسك :

لقد جئت لتسألني لا لتجاملني.

القيصر :

كنت أحلم بأن تصحبني وتكون في عوني.

الناسك :

وها أنت تصحو من الحلم، أما الثائر فقد قضيت عليه.

القيصر :

جئت نادما باكيا!

الناسك :

وقلت لك لا داعي للندم والبكاء؛ فلم تكن أول المتسلطين عليه.

القيصر :

لن يريحني هذا من الندم؛ فربما كنت آخرهم.

الناسك (يسعل سعالا شديدا) :

ربما، ربما. وأما القديس؟

القيصر :

إنني أراه أمامي وأشعر بأنفاسه على وجهي.

الناسك :

وهل تشعر بأنها أنفاسه الأخيرة؟ أرجوك. (يبحث عن العكاز)

ساعدني كي أستند على عكازي؛ أريد أن أودع قريتي.

القيصر :

لا ترهق نفسك. لقد زرتها قبل قليل وتحدثت مع أهلها.

الناسك :

أرجوك، ساعدني.

القيصر (يساعده على النهوض ويسنده على العكاز. الناسك يقف أمام النافذة ويطل على القرية) :

من يرى ما رأيت لا بد أن يقول: هذه معجزة لا يقدر عليها إلا قديس.

الناسك :

أو رجل حالم.

القيصر :

ليس الفرق كبيرا.

الناسك :

ولكن منا من يحقق حلمه ومن يصحو على كابوس.

القيصر :

وأنا الذي صحا على كابوس، وعاش في كابوس! ليتك كنت بجانبي يوم زرت مدينة «شن-تن-بي» فوجدتها خالية من سكانها.

الناسك :

تقول وجدتها خالية من سكانها؟

القيصر :

نعم نعم. كنت قبل ذلك قد سمعت من أعواني أنهم يئسوا منها ومن أهلها. حدثوني عن كثرة اللصوص وقطاع الطرق فيها، فأرسلت حملة لتأديبهم.

الناسك :

وزاد عدد اللصوص وقطاع الطرق.

القيصر :

وعرفت أن الفلاحين والصناع ممتنعون عن دفع الضرائب، فأرسلت حملة أخرى.

الناسك :

فزاد عدد المساجين والهاربين، وأصدرت الأوامر والتعليمات، وشددت العقوبات، فزاد عدد المجرمين والمهاجرين.

القيصر :

بل خلت المدينة ذات يوم من سكانها! وذهبت إلى هناك فوجدت الدور مهجورة، والشوارع تصفر فيها الرياح الباردة، والمزارع والمعامل والمدارس ذابلة موحشة. والمدينة كأنها جثة ضخمة زحف عليها النمل والدود والعناكب والغربان والذئاب.

الناسك :

أي لم تكن مهجورة تماما!

القيصر :

بينما أنت في هذا المكان المنسي على حدود الصين تحلم وتحلم.

الناسك :

كنت هناك تحلم أيضا.

القيصر :

حقا! أحلم أيضا، لكن بطريقة مختلفة (يضع ذراعه على كتفه، ينظران معا من النافذة)

كنت ترعاهم بالنهار كالأب الحنون، وتحرسهم بالليل كالنجم الساهر. تتعاطف معهم وتحبهم، فيعملون ما تحلم به دون أن تصدر أمرا أو تنفذ عقوبة. وبينما كانوا يلتفون حولك ويستمعون إليك بغير أن تفتح فمك بكلمة، كانوا ينصرفون عني خائفين مذعورين كما فرت الخنازير الصغيرة عندما اكتشفت أن أمها ميتة، آه! كم داعبني الأمل بأن تأتي معي وتحلم حلمك عندي!

الناسك :

المهم أن تحلمه أنت، لا أحد يحلم لغيره.

القيصر :

تمنيت أن نحلم للصين كلها.

الناسك :

إن حلمي أبسط مما تتصور، لست أنا الذي حققه؛ إنهم البسطاء الذين قابلتهم وتحدثت معهم.

القيصر :

ألا يمكن أن يستمر الحلم؟ ألا يمكن أن يتحقق في ممالك الصين جميعا؟

الناسك :

لا أدري، هذا شيء يسأل عنه القياصرة الصفر في ممالك الصين الممزقة، لا أضمن أيضا أن يستمر، حتى في هذه القرية الصغيرة؛ هذه النقطة المجهولة على أقصى حدود الصين، ربما يأتي قيصر آخر فيبدده، ربما يأتي قيصر فيمحو القرية وأهلها من الوجود، أو يرسل إليهم أعوانه وشرطته وجلاديه، فيهجروها بلا عودة كما هاجر سكان مدينتك ليلا، ولم يرجعوا إلى اليوم! المهم أيها القيصر أن نتعلم كيف نحلم وكيف نحقق الحلم، وحتى النفس الأخير لا نتوقف عن الحلم (يسعل بشدة) .

القيصر :

أرجوك، استرح في فراشك.

الناسك :

في فراشي أو على قدمي، الأمر الآن سواء؛ إنني أرى النهاية تقترب مني، ها هي تمد ذراعيها لتلقيني في حضنها البارد الرهيب.

القيصر :

أتخاف الموت؟

الناسك :

يخافه جسدي الذي يحترق بالألم منذ سنين، يخافه الطائر المريض الذي يرتعش في قفص الصدر.

القيصر :

ومع ذلك لا زلت تحلم؟

الناسك :

الحلم البسيط الذي يقدر عليه الحاكم والمحكوم (يسعل بشدة، يتغنى بالكلمات التالية التي يتخللها الأنين والسعال) .

أحلم أم ألمس جذر الأرض،

وأتنفس إيقاع الأرض،

ويتحد النبض مع النبض!

أحلم أن أرغب في شيء واحد؛

أن لا تملكني الرغبة في الشر ولا الخير،

أن أسكن في قلب العالم،

كالغصن الميت في حضن الموت،

ووحيدا يغشاني الصمت!

كالقارب في ضوء القمر،

كالراقد في ظل الشجر،

يتأمل في مسقط أو صخر،

وطريقي سهل صعب،

أوله هو آخره،

ونهايته يبدأ منها السير،

فطريقي نبع ومصب (يشتد سعاله وأنينه).

القيصر :

أرجوك، عد إلى الفراش.

الناسك :

لا وقت للنوم؛ إن مثلي يحلم إلى آخر نفس فيه، ولكنه لا يحلم لنفسه فحسب، أرجوك، ناد على التابع.

القيصر :

سأفعل، ولكن لماذا تريده؟

الناسك :

ألم تسمع من يقول: بدأ الطريق فأتم الرحلة.

القيصر :

ربما سمعته، ولكن ما معنى هذا؟

الناسك :

معناه أن أواصل الحلم أمام شعبي، ناد على التابع.

القيصر (يتجه إلى الباب وينادي) :

أيها التابع، أيها التابع.

التابع (يظهر على الباب) :

نعم يا سيدي.

الناسك :

تعال يا لو-شون. تعال يا ولدي.

التابع :

أمرك يا معلمي ، هل تريد شيئا؟

الناسك :

أما زال أهل القرية هناك؟

التابع :

وينتظرون طلعتك يا سيدي، يتمنون أن يطمئنوا عليك قبل أن يغمض النوم عيونهم.

الناسك :

وأنا أيضا يا ولدي، أريد أن أطمئن عليهم قبل أن يغمض النوم عيني هيا، هيا.

التابع :

ماذا تريد يا معلمي؟

الناسك :

المحفة يا ولدي، هاتها واحملني إليهم؛ هذا الرجل الطيب سيساعدك.

التابع (وهو يحضر المحفة ويضعه عليها) :

وتقول الرجل الطيب؟

الناسك :

نعم يا ولدي، لماذا نحرمه من الحلم؟

التابع :

لأول مرة لا أفهمك يا معلمي.

الناسك :

ولآخر مرة يا بني، أريد أن أروي بقية الحلم، أن أتركه أمانة بين أيديكم؛ من يدري؟ ربما تحققونه من بعدي، أو ربما يحققه من لا أعرفه ولا تعرفونه.

التابع :

إلا هذا القيصر الأصفر يا معلمي، هل يمكن أن تنسى؟

الناسك :

الفضل له يا ولدي، هو الذي جعلني أنسى وأبدأ من جديد.

التابع :

إن كنت نسيت فنحن لا ننسى، إنهم ينتظرونه هناك؛ الأفضل لك أيها القيصر أن تختفي.

الناسك :

لا لا يا ولدي، سينسون ويبدءون من جديد، وسيحلمون ويحلم معهم، هيا هيا، دعه يحمل المحفة معك، دعه يشاركنا الحلم.

التابع (وهو يحمل المحفة والقيصر يساعده) :

أنت الذي يقول هذا؟

الناسك :

أقوله وعليك أن تسمعه وتتعلم.

التابع :

أسمع وأتعلم، نعم. أما هذا الحلم؟

الناسك :

فتواصلونه بعدي.

القيصر :

وأنا معكم، هيا، هيا! (يحملان المحفة ويخرجان من الباب. يستقبلهما هتاف من أسفل المنحدر): - المعلم، المعلم! - والقيصر الأصفر، - القيصر الأصفر!

7 (على الحدود؛ إلى اليسار بيت صغير أشبه بالكوخ، بالقرب من حاجز خشبي يقطع المسرح بالعرض، ويرفع بالحبال إلى أعلى أو يخفض إلى أسفل؛ حسب حركة الداخلين والخارجين. إلى اليمين في عمق المسرح شجرة تين راسخة، تفرش سجادة ظلها الأسود على الأرض، ويستريح تحتها الحكيم العجوز ودابته السوداء التي يظهر شبحها الباحث عن الخضرة، الرجل الذي عرفناه في المشهدين السابقين - وهو حارس الحدود - يسرع الخطى على نداء صبي صغير، قبل أن يبرز له الصبي ويحادثه نسمع صوتا يلقي الأبيات المتفرقة التالية التي يتجمد الجميع في وقفتهم وهم يستمعون إليها. يتلون الصوت بألوان ودرجات مختلفة حسب المعاني والمشاعر التي تصبها مكبرات غير منظورة.)

الصوت :

لا شيء أرق من الماء.

ومع ذلك فهو يفتت جلمود الصخر.

الضعيف يهزم القوي.

اللين ينتصر على الصلب.

ولا أحد على الأرض يجهل هذا.

ولا أحد على الأرض يتبعه.

الصوت (بعد صمت قليل) :

الكلمات الصادقة ليست براقة.

والكلمات البراقة ليست صادقة.

الحكيم لا يعرف الكثير.

من يعرف الكثير ليس حكيما!

الحكيم لا يجمع لنفسه شيئا،

وبقدر ما يعيش لغيره،

يزداد ثراء،

بقدر ما يعطي الناس،

يزيد ما يملكه.

الصوت (بعد قليل تزداد نغمته عمقا وانفعالا) :

من يحمل طين العالم،

فهو سيد المملكة.

من يحمل ذنب العالم،

فهو ملك العالم.

وبالوداعة والنقاء والسكينة،

يجعل مملكة الأرض عادلة.

الصوت (بعد قليل) :

سأل الحاكم أحد الحكماء:

علمني أحكم بالحكمة؛

فلقد فسدت مملكتي،

وانهار الحكم.

فالتفت إليه الرجل،

وكان عجوزا

وتنهد وهو يقول:

آه! ما أبعد نور الفجر!

هل تستطيع أن تحب شعبك وتحكم بلدك،

وتظل مع ذلك مجهولا؟

هل تستطيع أن تحكم بغير اللجوء إلى القوة؟

وأن تفعل دون أن تتسلط؟

عاد الحاكم يسأل:

أرجوك! علمني أحكم مملكتي!

سكت الرجل قليلا،

غامت عيناه وجفف دمعة.

أطرق، همهم،

حرك شفتيه وقال:

أن تحكم معناه أن ترعى.

أن تحكم معناه أن تشفي المرضى.

تحمل هم المحكومين على كتفيك،

وتعمل بسلام وسكون،

حتى ليظن الناس بأنك لا تعمل شيئا!

الصوت :

عاد القيصر يسأل: كلماتك غامضة، أبتهل إليك؛ أوجز كلماتك في كلمة.

الصوت :

أن تتم عملك ثم تتوارى،

ذلك هو طريق السماء.

الصوت (بعد قليل) :

ومن يخطو على طريق السماء،

فهو وديع كالطفل ساعة ولادته.

آه! لا شيء أرق من الماء ولا أضعف منه،

لكن الماء يفتت جلمود الصخر!

الرجل (يتحرك مذهولا) :

ما هذا؟ ماذا أسمع؟

الصوت :

لا شيء أرق من الماء،

لا شيء أرق من الماء.

الرجل (للصبي الذي يلعب بالحاجز الخشبي) :

من أنتم؟

الصبي :

نحن الذين نريد أن نعبر الحدود،

وأنت الذي تؤخرنا.

الرجل :

ومن الذي قال: لا شيء أرق من الماء؟

الصبي :

قال ذلك العجوز الذي أسوق دابته.

وها أنت ذا تعطلنا حتى تغرب الشمس،

ويحل الظلام فلا نعرف الطريق!

نريد أن نعبر الحدود.

الرجل :

تعبرون الحدود؟ أتظن الأمر بهذه البساطة؟ لا بد من تفتيش متاعكم، لا بد من إجراءات ورسوم! تكلم؛ ماذا تحملون معكم؟ ذهب أم فضة؟ أوان أم تحف نادرة؟ من خزف أم خشب الصندل؟

الصبي (ضاحكا) :

لا شيء أرق من الماء.

الرجل (غاضبا) :

وأين صاحبك؟ أين؟

الصبي :

المعلم العجوز؟ هناك! دائما في ظل شجرة. تذكر قبل أن تذهب إليه أن الشمس توشك على المغيب.

الرجل :

وما معنى قوله هذا؟ ما معناه؟

الصبي (ضاحكا) :

أننا سنعبر الحدود أخيرا. إن الإنسان ينتصر على كل شيء.

الرجل :

الإنسان ينتصر على كل شيء؟

نعم، نعم. اذهب أنت. أما أنا فأريد أن أعرف هذا، أيها العجوز، أيها العجوز. (العجوز ينهض متجها إليه في خطا بطيئة.)

العجوز :

جئت أخيرا يا ولدي؟

الرجل :

عرفت أنك متعجل، تريد أن تعبر قبل حلول الظلام. وأريد أن أعرف شيئا آخر.

العجوز :

أنت أيضا؟ كثرة المعرفة تضيع الحكمة يا ولدي.

الرجل :

ولكنها لن تضيع الطريق، بعد غروب الشمس أو شروقها يظل الطريق هو الطريق.

العجوز :

صدقت؛ الطريق لا يعمل أبدا. وكل شيء يعمل من خلاله، لو استطاع الناس أن يحافظوا عليه لتحسنت أحوال العالم، الطريق لا يتدخل في شيء؛ ولهذا لا يفسد شيئا، لا يأخذ شيئا، ولهذا لا يفقد شيئا.

الرجل (ضاحكا) :

وتظن أن هذه الحكم تعفيك مما لا مفر منه؟

العجوز :

تعفيني من أي شيء يا ولدي؟

الرجل :

مما يخضع له كل عابر للحدود؛ لا بد من تفتيش المتاع، لا بد من دفع الضريبة.

العجوز :

الضريبة؟ على العجوز الذي لا يملك شيئا؟ أم الدابة التي تبحث عن نبتة عشب؟ أم اليتيم الذي لم يخلص لي سواه؟

الرجل :

لا شيء أرق من الماء ولا أضعف منه، مع ذلك.

العجوز :

على الكلمات ؟ ماذا تأخذ ممن لا يملك إلا الكلمات؟ سوف نذهب جميعا يا ولدي. ستبلى عظامنا ويسحق التراب الذي تخلف منا، كما ذهب الحكماء والأبطال القدماء. ربما لا تبقى إلا كلماتنا. وربما تندثر هي أيضا كما اندثرنا.

الرجل :

حتى إن وجدت من يسمعها؟

العجوز :

كم سمعها الكثيرون! المهم أن تجد من يعيشها، ويحولها أعمالا.

الرجل :

بشرط أن يفهمها أولا، لا شيء أرق من الماء؟

العجوز :

هل تراها غامضة؟

الرجل :

ليست أشد منك غموضا.

العجوز :

كان الحكماء كذلك يا ولدي؛ منذ القدم وهم يتهمون بالغموض، والذين يتهمونهم يبررون حمقهم وظلمهم.

الرجل :

ربما بلغ عمق الحكيم حدا يستعصي معه الفهم.

العجوز :

ولأن أحدا لم يستطع أن يفهمه؛ لذلك يقول كل من يراه:

هو حذر؛ كأنه يعبر نهرا متجمدا في الشتاء،

خائف؛ كأنه يخشى الناس من حوله،

متسامح؛ كأنه الثلج عندما يذوب،

عنيد؛ كأن آباءه هم الوحوش،

أصيل؛ كأنه خشب لم تمسسه يد،

واسع الصدر؛ كأنه وادي النهر،

مرح؛ كمن يتسلق برجا في فصل الربيع،

مضطرب؛ كأنه دوامة من الماء العكر

آه! من يستطيع أن يهدئ الدوامة حتى تصفو؟

من يستطيع أن يحرك الساكن حتى تعود إليه الحياة؟

آه! العالم يسير في اتجاه مضاد للطريق،

والطريق في اتجاه مضاد للعالم،

فمن يعيد التائه والشارد والضال؟

الرجل :

ليس غيرك، يا من تمتلك الطريق!

العجوز (في أسى وهو يجلس على حجر كبير) :

أمتلك الطريق؟ من يمكن أن يزعم هذا يا ولدي؟

الرجل :

من يريد السير عليه قبل حلول الظلام، لا بد أنه يعرفه.

العجوز :

يريد ويعرف؟ ليت الأمر كما تقول. المهم أن تكون أنت الطريق والعالم.

الرجل :

ومن غيرك أيها الرجل الغامض؟ (ينحني أمامه ثم يجلس على الأرض عند قدميه - الحكيم يتأمل ملبسه الفقير وجسده الهزيل - ثم يواصل حديثه معه في تعاطف.)

العجوز :

لا أدري يا بني. ربما أكون قد أضعته من كثرة ما بحثت عنه. ومن أضاع الطريق أصبح هو والضياع شيئا واحدا.

الرجل :

هل تعني بذلك أنك ما تزال تبحث عنه؟

العجوز :

وربما يتحتم علي أن أبدأ من البداية، بالرغم من شيخوختي المرتعشة على حافة الموت، ومن سفري الآن إلى منفى جديد.

الرجل :

هل أفهم من هذا أنك تعبر الحدود إلى مملكة أخرى.

العجوز :

بل أعبرها إلى ضياع جديد؛ فبعد أن نفيت نفسي في جلدي وقنعت بالتأمل والتعليم، اكتشفت أن جسدي لا يزال موجودا، وإنه لا يزال عرضة للبتر والجلد، والحرق والتشويه.

الرجل (يضحك بصعوبة) :

ولهذا قررت أن تترك القيصر الذي كنت تعمل عنده لتذهب إلى قيصر جديد.

العجوز :

حيثما ذهبت وجدت القيصر الأصفر أمامك.

الرجل :

تقول القيصر الأصفر؟

العجوز :

نعم، نعم. في كل مكان قيصر أصفر، في كل مكان طاعة وعقاب؛ ولهذا تضيع الحكمة بين ممالك الصين! هل تسمع يا ولدي آخر أغنية لي؟

الرجل (مناديا) :

تعال أيها الصبي! تعال نستمع إلى أغنية سيدك الهارب من منفاه.

العجوز :

لمنفى آخر لن يلبث أن يهرب منه إلى المنفى! (يضحكان)

دع الصبي يلعب. لقد أضناه السفر، بينما أنا في الطريق إلى هذا المكان، أسأل كل عابر عن الحدود، إذا بالليل يخيم علينا، أنا وهذا الصبي اليتيم والدابة السوداء، في واد قحل تصفر فيه الريح وتعوي الذئاب، كانت علامات الإرهاق واضحة على وجه الصبي، وكان الجوع إلى النوم والطعام الدافئ يطل من عينيه ويصوب سهامه الجارحة إلي. وتجشمت مشقة الصعود إلى أعلى ربوة قريبة، وحالفني الحظ فرأيت نوافذ يلمع فيها الضوء، بل تناهت إلى أذني أصوات غناء وصيحات فرح وعزف على الناي والمزمار والأوتار والدفوف. وتأكدت أنه عرس في قرية غير بعيدة. بشرت الصبي بالوجبة الساخنة، وربت على رقبة الدابة التي فهمت ما أريد فاتجهت من نفسها في اتجاه الأضواء والصيحات. وعندما اقتربنا نزلت عن الدابة وأطلقتها مع الصبي قائلا له: اذهب يا ولدي؛ الناس هنا طيبون. وعندما تضع يدك في الطبق الكبير لن يسألوك عن اسمك أو وجهتك. اذهب يا ولدي وارقص مع الأولاد وغن، وخذ الدابة أيضا؛ فلن يبخلوا عليها بالعلف والماء. إن سألوك عني، قل لهم: سيدي حكيم عجوز هناك في أسفل الجبل، يتعبد ويرتل الدعوات، اذهب يا ولدي اذهب، لدي في الجراب ما يكفيني، وحبست دموعي وأنا أرى الصبي على ظهر الدابة المنحدرة إلى العرس، وانطلق لساني بالأغنية التي سأقولها لك بغير ترتيب:

آه! ما أبعد الفجر!

الناس جميعا فرحون،

كأنهم يشاركون في وليمة.

كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع!

أنا وحدي أرقد في سكون،

أشبه بطفل صغير،

لم يبتسم مرة واحدة في حياته،

أترنح وأتمايل،

كأنني أضعت الوطن والطريق،

كل الناس لديهم ما يكفيهم،

أنا وحدي تعريت عن كل شيء.

كل الناس لامعون.

أنا وحدي منطفئ معتم،

كل الناس واثقون من أنفسهم،

أنا وحدي متعب حزين القلب،

ثائر ثورة البحر،

مضيع كأني بلا هدف!

وأنا وحدي غير الآخرين،

أنا وحدي أمجد الأم الأرض.

الرجل :

جميل. جميل أن يتذكر الابن الضائع أمه.

العجوز :

نعم يا ولدي،

وتذكرت الأم الأرض،

أو الأرض الأم!

وتأملت الكل حوالي،

وكانت تعمل في صمت،

تعمل في صمت،

لا يعنيها العدل أو الظلم،

ولا يعنيها الميلاد أو الموت.

شيء واحد راح يلح علي في تلك اللحظة؛ أن أخرج من ممالك الصين، أن لا ألقى قيصرا أصفر ولا أضطر للعمل معه، وبكيت لأن حياتي لم تكن إلا رحلة من مملكة إلى مملكة، من حطام أتركه ورائي إلى حطام أراه أمامي! في كل بلاط غدر وخيانة، في كل نظام ختل ورياء، ذل وهوان، وعذاب وعقاب. والكلمة للأوغاد السفاحين، للقتلة والدجالين؛ لصوص الأرض لصوص العدل لصوص القوت المحتالين.

الرجل :

وكلماتك؟ ألم تستطع كلماتك أن تصلح أميرا أو وزيرا؟

العجوز :

كانت تهرب كقطيع مذعور من أنياب ذئاب، كحمام غادر عشا دهمته نسور وأفاع. لا بد أنك تكتم حتى الآن سؤالا يضنيك: من أنت!

الرجل :

نعم، نعم من أنت يا سيدي؟

العجوز :

يسمونني المعلم العجوز، وأحيانا يسمونني الرجل العابس المقطب الجبين يكفي أن تعلم أنهم كانوا يطلقون علي لقب الحكيم، في كل مملكة تفتح أبواب القصر لتستقبلني الأوجه بالبسمات، وفي كل مملكة تودعني بعد أيام أو أشهر أو سنوات باللعنات، وأتوقف عند بوابة المدينة لأجفف الدموع المنحدرة على خدي. ربما كانت دموع الحزن على فشل حكمتي، أو دموع الفرح ؛ لأنني خرجت منها ورأسي لا يزال على كتفي. وتركتها ماشيا على رجلي فلم تبتر أصابع يدي وقدمي، ولم يحرق وجهي بأسياخ الكي المشهورة.

الرجل :

تقول لم تبتر أصابع قدميك ولم يحرق وجهك؟

العجوز :

نعم، نعم، ولم أعلق من مشنقة في السوق. ولكن لماذا تسأل؟

الرجل :

آه! لا شيء، لا شيء ... أكمل، أكمل.

العجوز :

أكمل قصة يعرفها كل طفل في المدرسة؟ أتلو عليك كلمات يحفظها كل تلميذ صيني ويتعلمها كذلك كل أمير صغير، لكن لا يعمل بها أحد، ولا أحد يكترث بالمعلم العجوز! وماذا ننتظر من رجل عابس الوجه مثلي يقول في كل بلاط ويردد لكل حاكم وأمير: الوداعة والسلام! النقاء والتواضع! لا تتسلط! وسيتم كل شيء! العالم وعاء الله، من يتدخل في مجراه يفسده. من يتمسك به يفقده! تريد أن تكون حكيما ونبيلا؟ الحكيم يتجنب التطرف، يتجنب التهور، يتجنب الخيلاء! هل تطلب الوفرة؟ بالاستغناء! تطمح أن تصل إلى الذروة؟ عش في عمق الأعماق! لامس جذر الكون! تطمع في أن تتقدم الجميع؟ كن في آخر الصفوف! تتطلع للانتصار؟ لا تلجأ للقوة! وإذا اضطرتك الضرورة المؤسفة للحرب، فأتم المعركة واختف عن الأنظار! تتمنى أن تصبح سيد المملكة؟ لا تمثل دور السيد! هل تصبو لرضاء الشعب؟ اجعل أطعمة الناس شهية، ثيابهم جميلة، مساكنهم مطمئنة، حياتهم فرحة، وعندما تتحد مع الطريق، يعود كل شيء إلى وحدته مع كل شيء، عندما تستقر في الصفاء والسكينة، ترجع الأرض والسماء من غيبتها. عندما تصبح أنت الطريق والعالم. ويصبح الطريق والعالم أنت، ستمطر السحب، وتفيض الينابيع والأنهار، وتنتج الأرض أنواع الحبوب الخمسة، وتمتلئ بطن الشعب ويفرغ عقله من الشهوات. هل تعلم ماذا كان حظي في مملكة تشو؟

الرجل :

تلك التي أرادت أن توحد ممالك الصين؟

العجوز :

نعم، بالقوة أرادت هذا. فأشاعت في عصرنا المضطرب المزيد من الاضطراب، ومزقت الصين الممزقة إلى أشلاء.

الرجل :

وماذا كنت تعمل هناك؟

العجوز :

العمل الذي يصون طريق الحقيقة ويحميه ، العمل الذي يليق بسليلة الحكماء القدماء.

الرجل :

أراهن أنك كنت مستشار القيصر!

العجوز :

وكيف أشير على قيصر لا يستشير؟ لقد كنت أمين المخطوطات والمحفوظات أستخرج منها الحكمة وأقدمها له.

الرجل :

وهل تقبلها منك؟ هل عمل بها؟

العجوز :

وماذا تنتظر من مأفون يحلم بأن يفيض النهر الأصفر بالدم ليروي أراضي الصين الجدباء؟ كان يريد التوسع، فراح يطارد شبح المجد الهارب باستمرار. هل تعرف ماذا كان يطلب مني بعد كل معركة؟

الرجل :

أن تعالج بحكمتك جروحه وجروح جنوده؟

العجوز :

بل أن أصبح قائده الأعلى!

الرجل (ضاحكا) :

أنت؟ قائد جيشه؟ بالوداعة والسكينة؟

وبالفعل الذي لا يفعل ولا يتدخل، ولا يلجأ للعنف والغلظة؟

العجوز :

نعم، نعم؛ ولهذا كرهني ثم هددني بالعقاب! كنت أقول كلما سمعته يتكلم عن جيوشه:

حيث تكون الجيوش،

تنمو الأشواك والأحراش.

وبعد المعركة العظيمة،

تأتي السنوات العجاف.

وكلما تحدث عن انتصاراته أرفع صوتي وأقول:

القائد الحكيم يصل إلى هدفه ثم يتوقف،

ينتصر مدفوعا بالضرورة المؤسفة،

ينتصر ولكن لا يمجد نفسه،

يكسب المعركة ثم يختفي من المدينة،

حتى لا يظهر في موكب الاحتفال.

وكلما تكلم عن الأسلحة وطالب بصنع المزيد منها وقفت في وجهه وحذرته:

الأسلحة أدوات الشر؛

لذلك لا يسكن الحكيم بالقرب منها،

الأسلحة أدوات الشر،

والحكيم لا يلجأ إليها إلا مضطرا!

إذا انتصر لم يجد في الانتصار جمالا؛

لأن من يجده جميلا يفرح بالمذبحة،

ومن يفرح بقتل غيره من البشر،

لا يصح أن يكون سيد المملكة.

الرجل :

من حسن حظك أنه لم يستخدم أسلحته معك.

العجوز :

ومن سوء حظ الشعب أنه استخدمها، أخذ يزدرد أوهام المجد ويلتف بأكفانه البراقة، وأخذ الناس يلتهمون الجوع ويتغطون بالعري ويتداوون بالأمراض والأوبئة وخزعبلات السحرة والكهنة. وقويت شوكة أعدائه الذين ظن أنه هزمهم وأذلهم، فانتقموا لهزيمتهم، ثم لم يلبث أن جمع جيوشه وعاد ينتقم من الذين انتقموا منه. وتركت المملكة التي تحولت إلى مقبرة هائلة وحملت أوراقي ومتاعي على عربة يجرها ثوران أسودان، كنت قد أنقذت ما أمكني إنقاذه من حكمي وأشعاري وأقوالي لقيصر «تشو » ولغيره، وظننت أنني أستطيع أخيرا أن ألجأ للمنفى وأعيش حياة معلم مجهول. وعندما مررت على أبواب مملكة «تسي» فوجئت بقيصرها الأصفر ومعه رجال دولته في استقبالي.

الرجل :

تقول قيصرها الأصفر؟

العجوز :

نعم، نعم. لماذا تكرر سؤالك؟

الرجل :

لا، لا شيء؛ حسبته هو القيصر الذي يبتر أصابع الحكماء، ويحرق وجوههم حتى تصير كالفحم.

العجوز :

سمعت أنه يفعل هذا وأكثر منه.

الرجل :

أكمل، أكمل.

العجوز :

خيل إلي أن الدولة كلها في انتظاري، رحت أنظر في وجوه الوزراء والأمراء، والقواد والأعيان، والمؤرخين والعلماء؛ بحثا عمن يكون هو القيصر. ولما لاحظ الجميع قلقي شدني أحدهم إلى السور، وأشار إلى رجل ضامر كالجرادة، يجلس في برج عال ويتطلع إلى الأفق كأنه ينتظر المجهول القادم من بعيد. همس في أذني شيخ كبير استطاع أن يحتفظ بوجه طفل غرير: ها هو ذا ينتظر، والدولة كلها تنتظر معه. سألت: وماذا ينتظر؟ قال وهو يبتسم في حزن: ينتظر الحكيم الذي يأتي ومعه الإنقاذ. هتفت: الإنقاذ؟ من أي شيء؟ رفع الشيخ حاجبيه دهشة وقال: من أي شيء؟! ألم تسمع بما حدث في مملكة «تسي»؟! ألم يرو لك أحد عن مصيبتها؟! قلت: المصائب في ممالك الصين تزاحم الغرائب، ربما لا تكون مصيبتكم أعظم من غيرها، هز رأسه مرات ومرات ومط شفتيه وشد التجاعيد البارزة على جبينه قبل أن يقول: لا، لا، ليس لها نظير! لا يمكن أن يكون لها نظير في ممالك الصين ولا غير الصين. قلت: تكلم يا سيدي. وستعرف مني أنها ليست أعجب المصائب! وحاولت أن أبتسم فردعتني السحب التي تلبدت في عينيه وعلى وجهه. قال وهو ينظر إلى بعض وجوه الدولة الذين تجمعوا حولنا وأحسست من ملامحهم أنهم يستجيرون بي، دون أن يكتموا يأسهم الدفين: هل تعلم أن سكان «تسي» بدءوا يتركونها ويهاجرون منها؟ هل تصدق أن مدينة كاملة قد خلت ذات صباح من سكانها، ولم يبق فيها حتى الشرطة والموظفون. لم يتخلف فيها حتى القطط والكلاب؟ ابتسمت وقلت: بالطبع؛ ما دامت تستطيع أن تعيش بعيدا عن البشر . ولكن لماذا حدث هذا؟ رفع رأسه في حزن إلى أعلى، وهمس في أذني: اسأل هذا الواقف هناك! قلت: إنه مشغول عنا بسؤال الكواكب والنجوم. دمدم الشيخ قائلا: وهذا قبل أن تغرب الشمس، فما بالك بسهرنا حوله كل ليلة؟ سألت: وماذا يريد؟ قال رجل نحيل مد رأسه بيننا وبدا على عينيه التعب من النظر في الكتب والأوراق: هل يعرف أحد ماذا يريد؟ لقد أمرنا أن نكون معه في استقباله. سألت: من تقصد أيها العالم الجليل؟ ضحك ضحكة خافتة كأنه يشهق وقال: لو كنت أستحق هذا الوصف لقلت لعله ينتظر من ينقذه بعد أن تأكد من غرقنا وغرقه. ابتسمت وأنا أمر بعيني على وجوههم الحزينة وشفاهم المذمومة التي توشك أن تطلق استغاثة: إذن فهو يحتاج إلى بحارة وملاحين! قال الشيخ: بل يحتاج إلى أمثالك أنت! سألت متعجبا: أمثالي أنا؟ قال: نعم نعم. من الحكماء المتجلين. ضحكت مستنكرا: ومن أدراكم أنني كذلك؟ هل خلا بلاطه من الحكماء؟ قال الشيخ كأنه يستخرج صوته من جب عميق: لا لم يخل أبدا من الحكماء، ولكنه لم يستمع لنصحهم يوما. بل تفنن في عقابهم والتشهير بهم. ومنذ أن جاء إلينا ذلك الناسك الشاب وهو نادم على ما فعل معه. سألت: ناسك شاب؟ ونادم على ما فعله معه؟ قال رجل رزين قصير القامة ظل حتى ذلك الحين صامتا: رئيس الوزراء يقصد ما فعله مع الجميع. لقد حكم عليه ببتر أصابع قدميه وحرق وجهه. ثم اختلى به بعد ذلك طويلا قبل أن يتحول. سألت: يتحول إلى ماذا؟ قال الرجل: ربما إلى حكيم أو ناسك مثله. لا ندري تماما؛ فهو منذ أن رحل ذلك الناسك الشاب لا يكف عن السؤال: متى يعود؟ متى أراه؟ من يجيب على السؤال الذي يعذبني؟ سألت باهتمام: وما هو السؤال الذي يعذبه؟ قال الرجل بعد أن أطرق برأسه طويلا: السؤال الذي يعذب كل القياصرة الصفر: كيف أحكم المملكة؟ كيف أحكم المملكة؟ ولذلك فهو منذ أن ذهب الناسك الشاب ينتظره وينتظر الجواب. قلت ضاحكا: الانتظار وحده لا يكفي. قال الشيخ صاحب الوجه المستدير: إنك لا تدري كم تحول، لقد خلع التاج والرداء الأصفر وهام على وجهه دون طعام أو شراب. تنقل بين البلاد وعبر الصحاري والأنهار والوديان، وتسلق الجبال في الصيف والشتاء. سألت: بحثا عن ذلك الناسك أم عن الجواب؟ قال الرجل في حزن: لم نعد قادرين على الرد على هذا السؤال؛ لأننا نسأل أنفسنا أيضا باستمرار. ويمكنك أن تتصور كيف ساءت الأحوال في البلاد. وكيف عجزنا عن تهدئته وإقناعه بالاستقرار على عرشه والاهتمام بأمر مملكته وشعبه. قلت: ألم يفعل ذلك دائما؟ قال الرجل: وكانت النتيجة كما ترى. الشعب يترك بيته وحقله وعمله ويهاجر. قلت: لم أسمع أن هذا قد حدث في مملكة أخرى. ولكنه كذلك لا يفاجئني، ألم يتبع نظام الطاعة والعقاب؟ ألم يكثر من القوانين والأوامر والتعليمات؟ ألم يتسلط على العالم والمخلوقات ويصم أذنيه عن نصائح الحكماء؟ إن هذا كله لا يفاجئني؛ لقد عرفته ورأيته في كل الممالك التي زرتها. ولولا عناية السماء لرأيتموني مبتور الأصابع أو مقطوع الساقين والذراعين، أو محترق الوجه أو لم تروني على الإطلاق؛ هذه هي النتيجة الطبيعية أيها الوزراء والعلماء والوجهاء؛ ولذلك ترونني على الطريق الذي لا يرجع من يسير عليه. قال الرجل في غير حماس: مرارة صوتك تكشف عن حكمتك المرة. هل معنى هذا أنك لن تبقى معنا؟ قلت: ولم أفكر في ذلك يا سيدي، لقد مررت ببلدكم وسأخرج منها كما دخلتها. قال الشيخ: ونحن لا نستطيع أن نمنعك، لقد داعبنا الأمل مما قاله الرسل الذين التقوا بك وسألوك. قاطعته قائلا: نعم. لقد قطع طريقي بعض الفرسان وسألوني عن ذلك الناسك الشاب. قلت لهم: أي ناسك أيها الفرسان؟ لقد علمت في حياتي الطويلة عشرات النساك.

الرجل :

وتركت المملكة كما دخلتها؟

العجوز :

ولماذا أبقى وأنا لست الناسك الذي يبحثون عنه؟

الرجل :

ألم تسأل نفسك إن كان قد مر عليك يوما؟

العجوز :

سألتها يا ولدي. ولكن عشرات النساك قد مروا علي. بعضهم لبث معي سنوات، وبعضهم أشهرا معدودات. ومنهم من لم يتحملني ولا تحمل حكمتي ساعات فأدار ظهره ولم يعد إلى اليوم!

الرجل :

هل فكرت في اسم ذلك الناسك؟

العجوز :

وكيف لعجوز مثلي أن يتذكر الأسماء؟ إن تلاميذي كثيرون أكثر مما تتصور، أو تحتفظ به ذاكرتي الواهنة.

الرجل :

ومين-كين-وو؟ ألا يعني هذا الاسم لك شيئا.

العجوز :

ماذا؟ مين-كين-وو؟ لا لا، لا أظن. لا أتذكر.

الرجل :

الناسك الشاب الذي بترت أصابع قدميه وأحرق وجهه حتى تفحم!

العجوز :

لم يكن هو الوحيد الذي جرى له هذا، إن كنت تعرفه فهنئه على حسن حظه.

الرجل :

ماذا تقصد أيها العجوز؟

العجوز :

غيره علق على المشنقة، أو ألقي في جب الحيات والعقارب، أو مات مسموما بيد أخلص الأصدقاء، أو وضع في القدر النحاسي الكبير. وغلي في النار، أو سحقت أعضاؤه وفتتت أحشاؤه، أو رجم بالحجارة علنا في السوق أمام الناس، أو رميت جثته بعد التمثيل بها في مياه «يانج تزي» أو ربط إلى أربعة جياد اندفعت في أربع اتجاهات ومزقت جسده إربا. ابحث يا ولدي في السجلات والمحفوظات وذاكرة العجائز من أمثالي لتعرف أسماء الحكماء الفضلاء: أسماء شانج يانج، وتا آو شي، وباي-لي، ووو-تشي، وكوان-لونج-بنج، وين-تزو-تشي-وتيين-بنج، ومي-تزو-شين. ألم يكونوا شرفاء فضلاء؟ ألم يكونوا حكماء مبجلين؟ ألم يحاولوا هداية القياصرة في كل بلاط، ألم يصل بعضهم إلى أعلى المناصب في الدولة ويحقق أعظم الإصلاحات؟ وتأتي أنت الآن لتسألني عن صاحبك. ماذا قلت؟

الرجل :

مين-كين-وو، ولكني لا أسألك فقط.

العجوز :

وماذا تريد أن تقول؟

الرجل :

أريد أن أقول إنه هنا، هنا في المكان.

العجوز (ضاحكا) :

حيث لا قصر ولا دولة ولا بلاط؟ في هذا المكان الموحش البعيد على حدود الصين.

الرجل :

نعم، نعم. في هذا المكان الموحش البعيد، بالقرب من هذه القرية البسيطة المجهولة التي يعيش فيها أناس بسطاء مجهولون.

العجوز :

وماذا يمكن أن يفعله هنا؟

الرجل :

المعجزة أيها العجوز! المعجزة!

العجوز :

ماذا تقول؟

الرجل :

المجتمع الأمثل الذي عشتم وعلمتم وتعذبتم من أجله، الجماعة التي تجانست مع الطبيعة والإنسان.

العجوز :

واتحدت بالطريق نفسه.

الرجل :

وجسدت الطريق نفسه.

العجوز :

آه ما أبعد الفجر! إنك تعبث بي. (يسمع صوت ينادي: يا حارس الحدود، يا حارس الحدود! ينهض الرجل وهو يقول) :

الرجل :

ليس الفجر بعيدا أيها الشيخ!

الصوت :

تعال! تعال يا حارس الحدود، تعال ومعك الحكيم العجوز.

الرجل (للعجوز) :

سمعت؟

العجوز :

حقا! حقا! وكيف عرفوا أنني هنا؟

الرجل :

بل قل كيف عرف؟ أليس هو المتجلي؟

العجوز :

محتمل يا ولدي، محتمل.

الرجل :

هيا أيها الحكيم، تعال نره! هيا قبل أن يتأخر الوقت.

العجوز :

أيتها السماء (يضرب جبهته بيده)

هل هذا ممكن؟ أيكون هو ذلك الطائش المسكين الذي حذرته يوما من طيشه وأنا أقول: الوداع يا ولدي، كم أخاف عليك!

الرجل :

يمكن أيها العجوز؛ ليس في مملكة الصين مستحيل.

العجوز :

آه! ما أبعد الفجر!

الرجل :

بل ما أقربه يا شيخ! ما أقربه! (يسمع صوت الصبي آتيا وهو يجري ويقفز ويغني في مرح.)

الصبي :

لا شيء أرق من الماء،

لا شيء أرق من الماء.

الرجل :

تعال يا بني، سنذهب قليلا ثم نعود لنكتب هذه الحكمة وغيرها، أليس كذلك أيها الحكيم؟

العجوز :

نعم يا ولدي، وما دمت تريد.

الرجل (وهو يربت على رأس الصبي) :

هيا، ادخل أنت في هذا الكوخ الصغير، أعد الحبر والريشة والدواة، لن نتأخر عليك!

العجوز :

نعم يا بني، لن يتأخر عليك.

الرجل :

هيا أيها الحكيم، هيا قبل أن يتأخر الوقت. (ينصرفان وهما يلوحان للصبي.)

8 (الناسك راقد على المحفة التي يدفعها تابعه ويعاونه القيصر الأصفر. يتوقفان بها في منتصف المسرح، بينما يتوافد أفراد الجماعة القروية الذين رأيناهم في المشهد الخامس، ويتحلقون حولها واحدا بعد الآخر. يسيطر الوجوم على الجميع ويسودهم شعور بالموت المقترب.)

التابع :

تمهل! رفقا به.

القيصر :

إنه غارق في نومه.

التابع :

أو في ألمه؛ كم قاسى منه ويقاسي الآن!

القيصر :

أرجوك، لا تقلب جروحي.

التابع :

أنت الذي تقول هذا؟!

القيصر :

ليتك تشعر بي! ثم إنه قد عفا عني.

التابع :

عفا عنك؟! هذا الوجه المتفحم، هل يمكن أن يعفو عنك؟! (يكشف الغطاء عن قدمي الناسك)

هاتان القطعتان من اللحم الدامي منذ سنين، هل يغفران لك؟

القيصر :

لست ألومك، ولكنك لم تكن معنا.

التابع :

لقد أمرني أن أغادر المكان واستجبت لأمره. ومع ذلك تخطئ إذا تصورت أنني لم أكن معكما.

القيصر :

ولم تسمع ما دار بيننا.

التابع :

وهل يصعب علي أن أتخليه؟ إنك تركع على فراشه وتطلب منه الصفح. وهو كعادته يمد إليك يد قديس ويقول: انهض فقد صفحت عنك.

القيصر :

لم يكتف بهذا؛ لقد شكرني لأنني وضعت قدميه على الطريق، وكلما انهمرت دموعي على يديه شد على يدي وقال: نحن الآن صديقان.

التابع :

ربما يكون لهؤلاء رأي آخر.

القيصر (وهو ينظر مفزوعا إلى القرويين الذين يتقدمون واحدا بعد الآخر) :

أرجوك، أرجوك.

التابع :

يا أبناء القرية، لقد أمرني سيدي أن أجمعكم في هذا المكان ليلتقي بكم.

رجل :

ونحن ننتظر هذا اللقاء منذ أيام وليال في أسفل الجبل.

رجل آخر :

ونصحو وننام على صوته الذي اشتقنا إليه.

رجل ثالث :

وصورته التي لم أرها أبدا عن قرب.

امرأة :

لأن نوره كان يغشى أبصارنا.

امرأة :

وظننا أن وجهه هو الذي أحرق جلده.

التابع (في غلظة) :

بل أحرقه جلاد يمسخ وجه ضحيته بمشيئة جلاد آخر.

رجل :

كنا نشعر بهذا الظلم، كنا نحس أن خلف الغطاء المنسدل على وجهه جريمة!

امرأة :

أنا وحدي أحسست بألمه، وبأن النور الطالع منه آخر أنفاس الشمعة.

امرأة أخرى :

أو آخر ضوء يسطع من جسم شهاب محترق يهوي للأرض.

رجل :

وكفانا النور فلم نسأل أنفسنا: من أضرم تلك النار؟

التابع :

مهلا، مهلا! ستعرفون عندما يحين الوقت.

رجل (يقترب من الناسك وينظر إليه) :

ومتى يحين؟

رجل آخر (يقترب ويضع يده على المحفة) :

بعد أن يذهب الطفل السماوي ومعه جراحه؟

رجل ثالث :

ويقضي عليه السم الذي فتك بكل لحظة من حياته؟

امرأة :

السم! نعم، نعم. هذا هو الذي صبه الطغاة في دمه، ولم تنفع معه الأعشاب الصفراء.

رجل :

متى يحين وقت الانتقام.

التابع :

الانتقام؟ لقد علمكم أن تحبوا - لم يعلمكم أن تنتقموا.

رجل :

نريد أن ننتقم حبا فيه.

رجل :

بيدي، سأخنقه بيدي؛ هاتان اللتان حاولتا يوما أن تسرقا متاعه يمكن أن تتحولا إلى يدي جلاد!

امرأة :

وقبل أن تخنقه لا بد أن تمسخ جلده وتقطع أصابع قدميه.

الرجل :

ليتني أضع يدي عليه!

التابع :

كيف تتكلمون عن الخنق والمسخ والقطع وأنتم في كنفه؟! هل هذا هو الحب الذي شع عليكم منكم؟ انتظروا حتى يتكلم بنفسه.

امرأة :

ننتظر والمتهم أمامنا؟!

رجل :

المتهم أمامنا؟

رجل ثالث :

فلنبدأ بمحاكمته؛ لم لا نبدأ؟

امرأة :

ها هو يخفي وجهه!

امرأة أخرى :

يرتعش كصل أفرغ سمه!

امرأة ثالثة :

القيصر الأصفر! (أصوات متداخلة: يتقدمون من القيصر الأصفر الذي يتجمد رعبا - يسرع التابع لإنقاذه من أيديهم، ويصيح بهم.)

التابع :

انتظروا، قلت لكم انتظروا!

صوت :

ماذا عندكم لتدافع عنه؟

التابع :

أنا لا أتهم ولا أدافع، إنما أقول لكم ما قاله معلمي منذ أيام، اجمعهم يا ولدي في يوم واحد؛ يوم يحضر القيصر الأصفر والمعلم العجوز، وعندما أمرني أن أنادي عليهما عرفت أنهما قد حضرا.

صوت :

هل تتكلم عن ألغاز؟

صوت :

هل كانت نبوءة؟

صوت :

الناسك في بحر النوم، من يضمن أن يصحو من نومه؟

التابع :

سيصحو وسيروي حلمه!

صوت :

وسنعرف منه من ظلمه.

التابع :

وكذلك من علمه، من لقنه الحكمة؛ ها هو ذا قادم! (يلتفت الجميع ناحية العجوز الذي يلهث صاعدا المرتفع الصخري وحارس الحدود يأخذ بيده.)

التابع :

ابتعدوا، ابتعدوا؛ هذا الشيخ سيصدر حكمه.

التابع :

مرحبا أيها العجوز. (يوسع الجميع مكانا للمعلم العجوز وحارس الحدود. التابع يأخذ بيد العجوز الذي يندفع نحو المحفة.)

التابع :

إنه ينتظرك، منذ أن حضر إلى هذا المكان وهو ينتظرك.

العجوز (على رأس الناسك) :

ولدي، هل يمكن أن يكون هو ولدي؟

التابع :

لم تكذب رؤياه ولم يخطئ نوره؛ فمنذ أيام وهو يهتف باسمك ويناديك.

العجوز :

هل قال بأني سأعبر من هنا؟

التابع :

وأنكما ستلتقيان وتتحدثان.

العجوز :

حقا يا ولدي؟ صدقت رؤياه ورؤياي! (يتأمل وجه النائم ببصره الكليل ويغيب في تأملاته والجميع صامتون.)

ولدي ، ولدي.

يا من عبرت حدود التراب.

وحدود الميلاد والموت.

يا من علمتك فصرت معلمي ،

حققت الوعد وها أنا أتبع أثرك!

ولدي، ولدي،

هل هذا ممكن؟

يا من تغمض عينيك كزهرة ذابلة!

أنت أيها الكامل،

أشبه بكمال الطفل ساعة ولادته.

النمل والعقارب والحيات لا تلدغك،

الوحوش المفترسة لا تعتدي عليك،

الطيور الجارحة لا تأكل من لحمك.

عظامك لينة، وأوتارك ضعيفة،

ومع ذلك فقبضتك قوية.

وديع ومسالم كحمامة كسيرة الجناح،

ومع ذلك تنشر حولك رهبة تنين!

منطفئ الوجه كوردة محترقة،

مع ذلك تشع منك مصابيح التجلي!

أيها الابن الذي اتحد بأمه،

وها هي ذي تعانقك وتفرح،

أيها الولد الذي حذرته من الضلال والضياع،

وها هو يرشد معلمه الضائع إلى الطريق!

من كان يقدر أن نتلاقى

في آخر عمري؟

آخر شبر في مملكة الصين؟

يا ولدي، استيقظ!

عاين وجه معلمك،

ودعه يشهد معجزة الطين!

دبت فيه الروح وشع النور،

وأشرق من ظلمات اليأس يقين!

قم يا ولدي، استيقظ!

داو الجرح المطعون. (المعلم يتحسس بيديه وجه الناسك النائم. الجميع يلاحظون اهتزاز صوته وارتجاف جسده.)

العجوز :

آه يا ولدي! ماذا فعلوا بك؟

كم حذرتك! كم ألححت عليك!

قل يا ولدي، ماذا فعلوا بك؟

التابع :

سيتكلم أيها الشيخ، لا بد أن يتكلم.

العجوز (لحارس الحدود) :

أخشى أن يكون الوقت قد تأخر!

التابع :

لقد حضرتما، ولا بد أن يتكلم.

الحارس :

هل تقصدني أنا والشيخ؟

التابع (مشيرا إلى القيصر الأصفر الذي يقف طوال الوقت بعيدا منكفئا على نفسه) :

أقصد هذا الشيخ، وهذا القيصر.

الحارس :

هذا، القيصر الأصفر؟

الجميع :

نعم، هو القيصر الأصفر!

الشيخ (متأملا) :

أيهم يا أولادي؟ في كل مكان قيصر أصفر.

الجميع :

من أحرق وجهه.

من بتر أصابع قدميه!

التابع :

باسم الناسك أرجوكم أن تنتظروا!

الجميع (للعجوز) :

باسم ضحيته نبتهل إليك:

حاكمه بنفسك واحكم أنت عليه.

التابع :

أرجوكم، لحظات ويفيق! ها هو يتحرك، ينظر للأفق، يتمتم.

الناسك (يتقلب في نومه، يعتدل ويتطلع في الأفق وفي من حوله، التابع وحارس الحدود يسرعان إليه ويساعدانه. يفتح فمه ويقول) :

أبنائي وبناتي، شكرا لكم! شكرا يا وانج، كنت واثقا من أنهم سيلبون دعوتي.

التابع :

إنهم ينتظرون طلعتك يا سيدي!

الناسك :

طلعتي؟! (يحاول أن يبتسم)

أردت أن يسمعوا صوتي.

التابع :

إنهم منصتون!

العجوز :

وأنا معهم يا ولدي! (الناسك يتفرس في وجه معلمه.)

الناسك :

شكرا لهم، شكرا لك! أنبأني قلبي أني سأراك لآخر مرة، وستسمعني ولآخر مرة.

العجوز :

لا تقل هذا يا ولدي، سيتسع الوقت لكي أستمع إليك وتستمع إلي!

الناسك (مبتسما) :

هل تتذكر؟ ما زالت كلمتك تحذرني: الوداع يا ولدي! كم أخاف عليك!

العجوز :

أردت أن تغير العالم. وأردت أن تبدأ بتغيير نفسك. وها أنت قد غيرت العالم والناس وتغيرت.

الناسك :

إلى هذا الحد تحسن الظن بي؟

العجوز :

ألم أقل لك يوما: الحكيم يتخطى حدود التراب. وعندما تتخطى حدود التراب سأتبع أثرك؟ ها أنا ذا أتبعك وأتعلم منك. ليتك تعفو عني!

الناسك :

أنا يا معلمي!

العجوز :

لقد ظلمتك واتهمتك بأنك تحلم. لكن ما سمعته من حارس الحدود وما رأيته حولي قد كذب ظني.

الناسك :

لا أدري، ربما كنت لا أزال أحلم.

العجوز :

بل حققت الحلم.

الجميع :

معه الحق؛ حققت الحلم، حققت الحلم.

الناسك (رافعا يده بصعوبة) :

ومن أجل هذا الحلم جمعتكم حولي؛ لا أعرف إلى متى يستمر؛ فأنا أشعر أن أنفاسي تسحب روحي من جسدي.

صوت :

ما زلت بخير، ما زلت بخير.

صوت :

ماذا نفعل بعدك؟

صوت :

منك تعلمنا الحلم وتحقيق الحلم!

الناسك :

نعم يا أولادي، وأعلمكم أن تحموه ولو بالدم!

صوت :

سنحميه وندفع عنه الشر، ونواجه كل قياصرة الصين الصفر.

القيصر الأصفر :

لقد جئت نادما وعفوت عني! قل لهم أيها الناسك.

الناسك :

أطمئن أيها القيصر؛ فلولاك ما كان الحلم، لولاك أنت وكل القياصرة ما لاحقني إلى آخر الصين وآخر العمر! أتعرفون يا أولادي؟ لقد ظل يطاردني منذ فتحت عيوني. ظل يتغلغل في دمي، ويسري في بدني وروحي، ويرافق طعامي وشرابي ونومي ويقظتي. دائما نفس الحلم، دائما نفس الحلم! يختطفني كالنسر الهائل على جناحيه، فأنتفض رعبا. ويهبط بي على أرض أخرى فأشعر بالفرح والأمان، كم من مرة ارتعشت من الرعب! وكم من مرة ارتجفت من الفرح ! وفي كل مرة أحس أن يدا هائلة سوداء تقتلعني من جذوري، وترتفع بي فوق الصين وسور الصين والعالم كله. هل جرب أحد هذا الرعب القاتل؟ هل رأى أحد ما رأيت؟ كل تراث الصين، ماضيها الموغل في آلاف الدول وآلاف الأسر وآلاف القياصرة. كلهم هناك من تحتي، تلتف حولهم دائرة أطول من سور الصين وأكبر، دائرة أنظر إليها من مكاني على جناح النسر العظيم، فأرى صور الماضي تتوالى: مواكب قياصرة تتدافع، وتثير عواصف الغبار والدمار، حشود جائعون وخائفون وموبوءون بالقحط والهوان والحرمان. وكل شيء وكل حيوان وإنسان يغشاه الغبار الأصفر تحت سماء مصفرة على أرض صفراء. دائرة صفراء وأبدية، تلتف كتنين أصفر حول رقاب الجميع! إذا دققت النظر في الوجوه رأيت صفرة الذل واليأس والانكسار، وإذا أصخت السمع ترددت الصرخات والصيحات واللعنات! تصوروا معي آلات التعذيب والعقاب والإرهاب، ترسانة الحروب، الدمار والخراب، ومئات المؤامرات التي يحيك خيوطها الخونة والطغاة والأوغاد. ويقع في شباكها الأبطال والحكماء والقواد. والدائرة تدور وتدور، تتسع وتتسع، وتغرق الدول والعصور والقصور، والمدن والقرى والوديان والسهول. وتضيق وتضيق على الآلاف من المكسورين والمهزومين. حتى تصل إلي فتلتف على عنقي، وتضغط وتضغط بقبضة جلاد محترف قاس. وأصرخ وأصرخ، وأقاوم وأقاوم. حتى يأتي نسر أبيض يرفرف بجناحيه وينظر إلي فأتسلق الجناح وأطير، وأحس أنه يرتفع ويرتفع فوق الدائرة الأبدية التي حاصرتني وحاصرت أجدادي، وينفذ في آفاق تسطع بألوان قوس قزح الزاهية، ثم يهوي إلى أرض أخرى بعيدة. مرج صغير مرصع بالينابيع والجنان، والبحيرات والبساتين. يتجول فيه أو يعمل أو يتأمل في ظل الشجرة أناس مثلي ومثلكم، لهم ملامح أهل الصين، وعيونهم ووجوههم. أناس شهيقهم حب، وزفيرهم حب، يحبون الحلم ويصنعون الحلم، بأيديهم وعقولهم ينسجون خيوطه الحريرية، ويمدون أسلاكه الفضية، وينمقون تحفه الخزفية، ويدبجون حروفه الصينية. عبثا تبحث عيني عن متسلط يعذب متسلطين، عبثا تقع على أفاق أو محتال وخوان، أو محترف للطغيان! والكل وديع ومسالم، والكل حكيم كامل، حر وكريم وشجاع عادل. آه يا أبنائي! هل جربتم سحر الحلم ورعبه ؟ أن يغوص الإنسان فيه كما يغوص في موجة طرية ناعمة، ويفزع منه كأنه يتدحرج في هاوية مظلمة ملعونة، أن يتشبث به بيديه وأسنانه، وأن يخشاه ويفر منه كأنه برق ينذر بالصاعقة؟ أن يهيم فيه كعاشق مفتون يطوق بذراعه خصر معشوقته، وينتفض خوفا منه كأنه قبضة جلاد قبل إحكام حبل المشنقة؟ لا لم يكن ذلك الفرح هو فرحي أنا وحدي، ولم يشل الرعب قلبي أنا وحدي؛ ففي جدول فرحتي صبت آلاف الجداول القديمة، ومن بركان رعبي تدفقت حمم آلاف المرعوبين والخائفين والغاضبين، وكما اقتضى حلم الأجداد ضحاياه كذلك اقتضاني التضحية. وكما خنق آلاف القياصرة الصفر آلاف الأحلام فبعثوها حية، كذلك خنق هذا القيصر الأصفر حلمي وبعثه حيا!

القيصر الأصفر :

سمعتم؟ لقد عفا عني!

صوت :

لكنا لن نعفو عنك.

القيصر الأصفر :

الناسك غفر الذنب.

الناسك :

أجل يا أولادي؛ فلولاه ما سرت على الطريق.

القيصر الأصفر :

صدقتم؟

الناسك :

ولا جئت إليكم بالحلم!

القيصر الأصفر :

ولا جئت أسأله أن يصحبني إلى مملكة تسي.

صوت امرأة :

لتسلخ وجهه؟

صوت امرأة أخرى :

أم لتبتر أصابع يديه؟

القيصر الأصفر :

لو كان الأمر كذلك ما بحثت عنه في كل مكان.

العجوز :

ولا وقفت على البرج العالي تنتظره ليل نهار!

القيصر الأصفر :

هل سمعت عن هذا أيها العجوز؟

العجوز :

بل رأيتك بنفسي أثناء الطريق.

صوت :

هبك زرعت الحلم بمملكة تسي، من يضمن ألا يغتاله قيصر آخر؟

الناسك :

من يضمن شيئا في هذا العالم يا ولدي؟ لهذا أدعوكم: صونوا، صونوا الحلم، صونوا الحلم. (الناسك يغالب آلامه، يفتح فمه ويغلقه قبل أن يرتجف جسده ويسقط! الجميع يلتفون حوله لحظة ثم يبتعدون عن المحفة وينفرد كل منهم بأحزانه.)

التابع :

مات الناسك!

حارس الحدود :

مات!

الجميع :

مات؟

العجوز :

رجع إلى حضن الأم.

صوت :

بل فتك به السم.

امرأة (تتجه إلى القيصر الأصفر) :

بم تشعر الآن أيها الرجل القاسي؟ هل تشعر بالراحة؟ هل تشعر أنك حر؟ كان شوكة ضميرك، والشوكة قد نزعت.

كان الرعد الغاضب في أذنيك. والآن يمكنك أن تسمع موسيقى الأبواق وطبول الحرب.

القيصر الأصفر :

لا، لن أفعل، أقسم أقسم!

صوت امرأة :

مات الراعي!

صوت امرأة :

مات الكامل!

صوت رجل :

مات الأخ والأب!

العجوز :

بل رجع إلى حضن الأم.

رجع إلى حضن الأم.

صوت امرأة :

معذرة يا مين-كين-وو،

معذرة يا مين-كين-وو،

إن كنا نحن قتلناك فنسألك الصفح.

ونسألك العفو عن الذنب!

رجل :

عفوا يا مين-كين-وو!

أعطيت ولم نعطك شيئا!

قصرنا في حق الحب،

وأخذنا أنفاسك منك،

ودقات القلب!

والآن وقد جاء الموت،

وغاب الصوت،

فتأكد يا حادي الركب،

يوم حضرت لقريتنا،

امتنع علينا الخوف،

وزال الرعب!

وعرفنا كيف نعيش،

وكيف نحب!

الآن وقد مات الحالم،

لم يقدر كل قياصرة الصين،

على محو الحلم.

العجوز :

رجع إلى حضن الأم،

رجع إلى حضن الأم!

إن كان الحالم قد مات،

فما مات الحلم.

الجميع :

إن كان الحالم قد مات،

فما مات الحلم.

صوت :

يا أبناء الحاضر،

صونوا الحلم،

يا أشباح المستقبل،

صونوا الحلم.

صوت :

يا من تتخلق في الرحم ولم تظهر بعد،

يا من لم تكره بعد،

ولم تقتل بعد،

يا من لم تقس على أحد،

لم تغتر ولم تتسلط بعد،

حاول أن تذكر مين-كين-وو؛

هذا الحالم،

من أرض الصين،

يا من لم تكره بعد،

ولم تقتل بعد،

حاول أن تذكر مين-كين-وو،

وصن الحلم من القيصر،

واحم الحلم من التنين.

الجميع :

إن كان الحالم قد مات،

فما مات الحلم!

إن كان الحالم قد مات،

فما مات الحلم. (التابع يسند رأسه إلى المحفة ويبكي. يبدأ بعض الحاضرين في التفرق واحدا بعد الآخر وهم يرددون):

عفوا يا مين-كين-وو!

عذرا يا مين-كين-وو!

إن كان الحالم قد مات،

فما مات الحلم. (يتعاون بعض الرجال على حمل المحفة والسير بها بعيدا. تتقدم امرأة وتضع يدها على رأس حارس الحدود الذي يضع رأسه بين كفيه قائلة):

هذه الزهرة كنت أريد أن أضعها على قلبه، أرجوك يا حارس الحدود، ضعها على شاهد قبره.

حارس الحدود :

شكرا لك أيتها البغي!

معذرة، شكرا يا زوجة البستاني. (يسمع صوت يردد: لا شيء أرق من الماء، لا شيء أرق من الماء.)

الصبي :

يا معلمي، يا حارس الحدود!

حارس الحدود :

تعال يا بني، لماذا تركت الكوخ؟

العجوز :

ولدي، كيف عرفت الطريق؟

الصبي (ضاحكا ثم كاتما ضحكته بعد أن رأى الرجال يحملون المحفة ويسيرون في جنازة) :

كما علمتني يا سيدي، وكما علمت الراقد في المحفة!

حارس الحدود :

معذرة أيها العجوز، سأرجع بعد قليل إلى الكوخ. أرجوك أن تسبقني مع الصبي إلى هناك؛ المحبرة والريشة والدواة هناك، وفي الجراب من الزاد ما يكفيك.

العجوز :

أريد يا بني أن أتابع الطريق!

حارس الحدود (متعجلا) :

لقد ترك لنا الحلم، ألا تترك لنا الحكمة لنهتدي للطريق؟

العجوز :

ما دمت تريد يا ولدي. (ينصرف الحارس بسرعة.)

القيصر الأصفر (يتقدم من العجوز) :

وأنا أيها العجوز.

العجوز :

أنت؟ ماذا تطلب يا بني؟

القيصر الأصفر :

هل تتخلى عني أيضا.

العجوز :

يا بني، من يتمسك بالطريق لا يتخل عنه الطريق! اذهب وابحث عنه.

القيصر الأصفر :

أرجوك، ساعدني، ساعدني! (ينصرف العجوز مع الصبي. أصوات تردد سطور الحكمة التي سمعناها في مطلع المشهد السابق بغير ترتيب.)

صوت :

لا شيء أرق من الماء؛

فهو يفتت جلمود الصخر.

صوت :

الكلمات الصادقة ليست براقة.

الكلمات البراقة ليست صادقة.

صوت :

من يحمل طين العالم،

فهو سيد المملكة.

من يحمل ذنب العالم،

فهو ملك العالم!

وبالوداعة والنقاء والسكينة،

يجعل مملكة الأرض عادلة. إلخ!

القيصر الأصفر (متخبطا وحده) :

أرجوك، ساعدني! (متجها إلى الجمهور.)

أرجوكم،

ساعدوني!

ساعدوني! (يسدل عليه الستار وهو يمد ذراعيه للناس متوسلا باكيا.)

الطفل والفراشة

مسرحية من فصل واحد

الشخصيات

الحكيم تشوانج تسو.

الحكيم هوي تسو.

امرأة شابة.

طفلها.

الطفل والفراشة (حديقة صينية عامة، الحكيمان تشوانج-تسو وهوي-تسو يجلسان على أريكة في ظل شجرة ضخمة، يتطلعان إلى أحواض الزهور والفراشات التي تحوم حولها، والأطفال الذين يجرون وراءها.)

تشوانج تسو :

آه! مشكلة صعبة.

هوي تسو :

آه! مشكلتي أصعب.

تشوانج تسو :

كيف عرفت! إنني لم أحك لك شيئا.

هوي تسو :

وهل من الضروري أن تحكي؟ يكفي أنني سمعتك تتنهد بعمق.

تشوانج تسو :

ولكنك تنهدت أعمق مني!

هوي تسو :

هل أفهم من هذا أنك أحسست بمشكلتي؟

تشوانج تسو :

وكيف أحس بها قبل أن أعرفها؟

هوي تسو :

كما أحسست عندما سمعتك تقول آه.

تشوانج تسو :

أنا أيضا سمعتك تقول آه. كانت صادقة ومن القلب.

هوي تسو :

وماذا تصورت عندما سمعتها؟

تشوانج تسو :

بل قل عندما شعرت بلفح نارها، شعرت أنك بدأت تحن إلى بلدتك «تشو» وإلى نهر «هاو» الذي يشقها، مع أن زيارتك لم تطل عندنا.

هوي تسو :

صدقت! ولكنني لم أحن إلى نهر «هاو» نفسه، بل إلى الأسماك التي تسبح فيه.

تشوانج تسو :

الأسماك التي تسبح فيه؟ حقا إنها لمشكلة.

هوي تسو :

لا تسخر يا صديقي تشوانج تسو؛ ألا يمكن أن يحدث لك حين تشعر أنك أصبحت سمكة.

تشوانج تسو (ضاحكا) :

هوي تسو الحكيم المشهور في الصين كلها يصبح سمكة؟!

هوى تسو :

أو السمكة تصبح هي صديقك المشهور في الصين كلها هوي تسو!

تشوانج تسو :

هي على كل حال مشكلة هينة إذا قيست بمشكلتي.

هوي تسو :

مستحيل؛ قلت لك مستحيل.

تشوانج تسو :

وكيف تجزم بشيء لم تره ولم تعرفه.

هوي تسو :

ولكنني أحسست به؛ قلت لك أحسست به.

تشوانج تسو :

وبماذا أحسست؟

هوي تسو :

هل تظن أنني لا أعرفك بعد هذا العمر الطويل؟ ألم نتعلم معا عند معلم واحد؟

تشوانج تسو :

نعم نعم، ولكن.

هوي تسو :

أحسست أنك حلقت عاليا في السماء وطفت العالم فوق سحابة، ثم هبطت فجأة!

تشوانج تسو :

فجأة! أكمل، أكمل.

هوي تسو :

نعم هبطت في هذه الحديقة، وأخذت تنظر مذهولا إلى الأشجار والزهور، والأطفال التي تجري وراء الفراشات، والفراشات التي ...

تشوانج تسو :

تأكد مما تقول؛ لقد كانت فراشة واحدة.

هوي تسو :

فراشة واحدة أو أكثر؛ لا يهم.

تشوانج تسو :

إنه أمر في غاية الأهمية؛ لقد كانت فراشة واحدة.

هوي تسو :

المهم أنك رأيتني جالسا على هذه الأريكة.

تشوانج تسو :

قلت لك كانت فراشة واحدة؛ هذا أمر في غاية الأهمية.

هوي تسو :

وما أهميته يا تشوانج تسو؟

تشوانج تسو :

إن هذه الفراشة كانت هي تشوانج تسو.

هوي تسو :

أو كان تشوانج تسو هو الفراشة!

تشوانج تسو :

بالضبط، وهذه هي المشكلة!

هوي تسو :

المهم أنك صحوت من الحلم ورأيتني على هذه الأريكة.

تشوانج تسو :

الحلم، أجل، أجل. وهذه هي المشكلة.

هوي تسو :

وماذا في هذا؟ أنا أيضا رأيت في الحلم.

تشوانج تسو :

لا يمكن أن تكون قد رأيت نفس الحلم. هل تحولت مثلي إلى فراشة.

هوي تسو :

بل إلى سمكة.

تشوانج تسو :

سمكة؟ لكن مشكلتي أصعب.

هوي تسو :

بل مشكلتي.

تشوانج تسو :

دعني أرو عليك الحلم.

هوي تسو :

بل أنا أولا؛ سترى بنفسك.

تشوانج تسو :

لا يمكن أن تكون قد رأيت ما رأيت؛ اسمعني أولا.

هوي تسو :

مشكلة أخرى! تكلم إذن.

تشوانج تسو :

تصور يا هوي تسو؛ بالأمس حلمت أنني تحولت إلى فراشة! أنا تشوانج تسو، بكل شحمي ولحمي، تحولت إلى فراشة ترف هنا وهناك، تصعد وتهبط، تسقط على حوض الزهور ثم ترفرف وتطير إلى أشجار الورد والتين والبلوط؛ فراشة حقيقية، بكل ما في الفراشات من طيش ونقاء وحنين، وكأن وعيي كإنسان قد تعطل، كأني دخلت في جلدها، وشعرت بأحاسيسها ونبض قلبي بنبضها، كأن ذراعي أصبحا جناحين ملونين بألوان قوس قزح التي تخلب ألباب الأطفال، وكأن فمي صار فم فراشة لا تشتاق إلى أكثر من قطرة ماء أو رشفة ندى أو نفحة شذى! فراشة تدور سعيدة في كل مكان، وكل مهمتها في الحياة أن تنقل تحية السماء والآلهة إلى كل زهرة وكل نسمة وكل عبير. وفجأة ...

هوي تسو :

ماذا؟ لا تقل إنك وجدت نفسك في كف طفل صغير!

تشوانج تسو :

ليت هذا ما حدث!

هوي تسو :

وقعت في شبكة صياد أو صيادة رقيقة؟

تشوانج تسو :

قلت لك ليت هذا هو الذي حدث!

هوي تسو :

وماذا حدث؟

تشوانج تسو :

إنها المشكلة؛ لقد صحوت من النوم فجأة .

هوي تسو :

مشكلة أن تصحو من النوم؟

تشوانج تسو :

بل أن أجد نفسي مرة أخرى كما أنا؛ تشوانج تسو كما يعرف نفسه ويعرفه الناس، راقدا على نفس الفراش الذي رقدت عليه قبل النوم، لابسا نفس المنامة التي لبستها قبل أن أتحول إلى فراشة!

هوي تسو :

ولم تستطع التمييز بين الحلم واليقظة، ولا بين الوهم والحقيقة؟

تشوانج تسو :

ليت الأمر اقتصر على هذا؛ فنحن نعيش ليل نهار في هذه الحيرة الدائمة، لا نعرف أين هو الحاجز بين الوهم والحقيقة، لا ندري متى ينتهي الحلم وتبدأ اليقظة.

هوي تسو :

آه! كأنه نفس الحلم.

تشوانج تسو :

مستحيل! قلت لك مستحيل.

هوي تسو :

وما هو المستحيل يا تشوانج تسو؟

تشوانج تسو :

مستحيل يا هوي تسو أن تكون قد واجهت مشكلتي أنا تشوانج تسو، أم أنا الفراشة التي ما زالت تحوق فوق الزهور والأشجار؛ هل كنت أنا الإنسان الذي حلم بأنه فراشة. أم كنت الفراشة التي حلمت بأنها الإنسان؟ هل هناك حاجز بين الإنسان والفراشة؟ وهل تخطيت هذا الحاجز؟ فتحت عيني وأغمضتهما. ثم فتحتهما ورحت أتحسس رأسي ويدي وذراعي وساقي وأنا أسأل: إنسان أم فراشة؟ فراشة أم إنسان؟

هوي تسو :

هذا أهون على كل حال من أن تسأل: إنسان أنا أم سمكة؟ سمكة أنا أم إنسان.

تشوانج تسو :

ولكنك لست سمكة.

هوي تسو :

ومن أين عرفت؟

تشوانج تسو :

أنت الآن بجانبي ولست في بحيرة أو نهر.

هوي تسو :

ذلك ما رأيت في الحلم.

تشوانج تسو :

أنت أيضا.

هوي تسو :

ألم أقل لك؟

تشوانج تسو :

ولكن لا يمكن أن يكون نفس الحلم.

هوي تسو :

اسمع واحكم بنفسك؛ هل تذكر نهر «هاو» الذي مشينا على شاطئه عندما زرتنا في «تشين».

تشوانج تسو :

نعم، نعم. وأذكر الجسر الذي وقفنا عليه، ورحنا نتطلع إلى دوائر الماء.

هوي تسو :

وثعابين السمك الصغيرة التي كانت تلمع تحته كأنها نجوم ترتدي ثياب السحب. أتذكر ما قلته لك عندئذ؟

تشوانج تسو :

لا، لا أذكر؛ لقد كنت صامتا في ذلك اليوم.

هوي تسو :

ربما ، ربما أكون قد قلته لك في الحلم.

تشوانج تسو :

لي أنا.

هوي تسو :

نعم ، نعم؛ لقد رأيتك معي فوق ذلك الجسر، كنا نطل على الماء وقلت لك: انظر يا صديقي تشوانج تسو. انظر كيف تتسابق الأسماك. هذا ما أسميه فرحة الأسماك.

تشوانج تسو :

ولكنك لست سمكة؛ كيف يمكنك أن تعرف أن الأسماك فرحة؟

هوي تسو :

وهذا هو الذي قلته أيضا في الحلم.

تشوانج تسو :

شيء غريب! أنا قلت هذا؟

هوي تسو :

وأجبتك قائلا: أنا لست أنا؛ فكيف يمكنك أن تعرف أنني لا أعرف فرحة الأسماك؟

تشوانج تسو :

معقول؛ فأنا لست أنت؛ ولهذا لا أعرفك.

هوي تسو :

وهذا ما قلته أيضا. ثم أضفت إلى ذلك أنك تعرف شيئا واحدا، وهو أنني لست سمكة؛ ولهذا لا يمكنني أن أعرف الأسماك.

تشوانج تسو :

شيء غريب حقا، ولكن لنرجع إلى سؤالك.

هوي تسو :

ورجعت بالفعل إلى سؤالي.

تشوانج تسو :

وماذا قلت؟

هوي تسو :

لقد سألتني: كيف يمكنك أن تعرف فرحة الأسماك؟ الواقع أنك كنت تعرف أنني أعرف، ومع ذلك أصررت على سؤالك.

تشوانج تسو :

وماذا كان جوابك؟

هوي تسو :

هو الذي أجبتك به في الحلم.

تشوانج تسو :

وما زلت تذكره؟

هوي تسو :

نعم، نعم. كأني نطقت به الآن. أعرفها من الفرحة التي أشعر بها وأنا أنظر للماء.

تشوانج تسو :

غريب؛ شيء لا يصدق.

هوي تسو :

أنني تحولت إلى سمكة؟

تشوانج تسو :

ولكنك لست سمكة!

هوي تسو :

وهل أنت فراشة؟

تشوانج تسو :

إنني أراك وأستطيع أن ألمسك، أنت هوي تسو.

هوي تسو :

وأنا أراك وأستطيع أن ألمسك، أنت تشوانج تسو.

تشوانج تسو :

إنسان أنت ولست سمكة.

هوي تسو :

وأنت إنسان ولست فراشة.

تشوانج تسو :

ولكني تحولت إلى فراشة.

هوي تسو :

وأنا تحولت إلى سمكة.

تشوانج تسو :

كان هذا في الحلم، أستطيع الآن أن أهز كتفيك أو أضربك على رأسك فتستيقظ منه.

هوي تسو :

أنا أيضا أستطيع أن أهز كتفيك أو أصفعك على وجهك وأوقظك من الحلم.

تشوانج تسو :

وهل يثبت لك هذا أنك لا تحلم .

هوي تسو :

ما دمت لا أتلقى الصفعة.

تشوانج تسو :

إذن فخذ هذه (يصفعه)

هل أنت الآن في اليقظة أم في الحلم؟

هوي تسو :

وأنت، خذ هذه (يركله ركلة شديدة في بطنه)

هل ما زلت تحلم أم استيقظت؟ (يدخل طفل يجري ليمسك بفراشة وهو يصيح):

الطفل :

الفراشة، الفراشة! أمسكها أيها السيد، ساعدني، أنت يا سيد.

هوي تسو :

ألست فراشة؟ ساعده أن يمسك بك.

تشوانج تسو :

تعال يا ولدي، تعال.

هوي تسو :

تقدم يا بني، هذه هي الفراشة.

تشوانج تسو :

من حسن الحظ أنني لست سمكة.

هوي تسو :

ولكنك لا زلت تحلم.

تشوانج تسو :

وأنت؟ هل استيقظت من حلمك.

هوي تسو :

على الأقل عندما ركلتك في بطنك!

تشوانج تسو :

كانت ضربة شديدة.

هوي تسو :

وصفعتك أشد!

تشوانج تسو :

معذرة يا صديقي هوي تسو، لا بد أنني كنت أحلم.

هوي تسو :

معذرة يا صديقي تشوانج تسو، اختلط علي الحلم واليقظة (يتعانقان، الطفل ينظر إليهما متعجبا، تدخل أمه على عجل) .

الأم :

ولدي ولدي، ماذا تفعل؟

هوي تسو :

ها هو ابنك، لا تخافي.

تشوانج تسو :

كان يجري وراء الفراشة!

هوي تسو :

لقد حسب هذا السيد فراشة وأراد أن يمسك به.

تشوانج تسو :

ولو كانت معه سنارة لأمسك بك!

الأم :

معذرة أيها السيدان، أخشى أن يكون قد أزعجكما؛ كنتما في شجار على ما أظن.

تشوانج تسو :

أبدا، أبدا؛ مجرد اختلاف في الرأي.

هوي تسو :

أو في الحلم.

الأم :

اختلاف في الرأي أو في الحلم؟

تشوانج تسو :

رأى هذا السيد في الحلم أنه سمكة.

هوي تسو :

ورأى هذا السيد أنه فراشة.

الأم (ضاحكة) :

فراشة وسمكة؟ كنتما تحلمان!

هوي تسو :

ولا نعرف حتى الآن إن كنا في حلم أم في يقظة.

الأم :

في حلم أم يقظة.

تشوانج تسو :

ألا تحلمين أيتها المرأة؟ ألا يحلم طفلك؟

الأم :

هذا الغبي! كم رأى في الحلم أنه تحول إلى فراشة!

تشوانج تسو :

سمعت؟

هوي تسو :

وأنت يا سيدتي، هل تحلمين أيضا؟

الأم :

أنا لا أحلم أيها السيدان، نحن الفقراء لا نحلم، إنني أوقظ ولدي من حلمه.

تشوانج تسو :

ولماذا توقظينه؟ لماذا لا تتركينه يحلم بأنه فراشة .

هوي تسو :

أو بأنه سمكة؟

الأم :

آه! الحياة قاسية بما فيه الكفاية.

تشوانج تسو :

تقصدين أنك في يقظة دائمة.

هوي تسو :

أم إنك لا تستطيعين التفرقة بين اليقظة والحلم.

الأم :

أقصد ... لا أدري ماذا أقصد؛ أمثالنا ليس لديهم الوقت ليفكروا في هذا.

تشوانج تسو :

أسألك بكل احترام: ماذا تعنين بقولك هذا؟

هوي تسو :

وأنا أسألك بكل خضوع نفس السؤال!

الأم :

تعال يا ولدي؛ إنني لا أفهم السؤال ولا أعرف الجواب، لا أعرف إلا أن أمثالنا لا يفكرون في هذه الأمور؛ إنهم يشقون فحسب!

تشوانج تسو :

تشقون فحسب! هذا مفهوم، ولكن في الحلم أم في اليقظة؟

هوي تسو :

نعم نعم، في الحلم أم في اليقظة؟

الأم :

تعال يا ولدي.

الطفل :

الفراشة يا أمي، الفراشة!

الأم :

قلت تعال، تريد أن تحلم مثلهم. (تشد طفلها بعنف وتمضي.) (تشوانج تسو ينظر صامتا إلى هوي تسو.) (هوي تسو ينظر في صمت إلى تشوانج تسو.)

هوي تسو :

هل تعرف يا صديقي تشوانج تسو؟

تشوانج تسو :

ماذا يا صديقي هوي تسو؟

هوي تسو :

لقد شعرت بالخجل أمام هذه المرأة.

تشوانج تسو :

وأنا شعرت بالخجل أمام الطفل.

هوي تسو :

لأنك لم تكن فراشة كما أراد.

تشوانج تسو :

ولأنني لا أعرف إن كنت فراشة تحولت إلى إنسان، أم أنني إنسان تحول إلى فراشة، وأنت أيضا؟

هوي تسو :

نفس الشيء يا صديقي، ما زلت لا أدري إن كنت الإنسان الذي شعر بفرحة السمكة، أم السمكة التي أحست بفرحة الإنسان! هل تدري السبب في حيرتنا.

تشوانج تسو :

وما هو السبب؟

هوي تسو :

كلانا لم يتحول بعد.

تشوانج تسو :

نعم، نعم. كلانا لم يتحول بعد.

هوي تسو :

ما زلنا أطفالا في بداية الطريق.

تشوانج تسو :

وليتنا استطعنا أن نتحول إلى أطفال؛ هل تذكر معلمنا العجوز.

هوي تسو :

كونج-فو-تسو؟ ومن يمكنه أن ينساه.

تشوانج تسو :

وتذكر الحوار الذي دار بيني وبينه، ورحت أبكي بعد انتهائه وأنت تربت على ظهري وتمسح دموعي.

هوي تسو :

كم فعلت هذا! لقد كنت كما قال طفلا صغيرا، أنا أيضا كنت طفلا على بداية الطريق.

تشوانج تسو :

ما زلت أذكر ذلك الحوار كأنه دار بيننا صباح اليوم.

هوي تسو :

أما أنا فقد نسيت؛ مرت سنوات طويلة شاب فيها شعر الأطفال.

تشوانج تسو :

وما زلنا أطفالا لم نتعلم بعد؛ دخلت عليه في صباح ذلك اليوم، فوجدته كما تعودنا أن نراه، وديعا ساكنا كأنه شجرة عظيمة، شجرة ممتدة الجذور وارفة الظلال، لم يتحرك من مكانه ولم ينظر إلي! سألت نفسي يومها: هل صار المعلم سحابة محلقة فوق العالم. أم أصبح أما تحتضن الكائنات والأشياء كأنها تحتضن أولادها.

هوي تسو :

وتربعت على الأرض أمامه ورحت تنظر إليه؛ كانت هذه هي عادتك، بدلا من أن تسأله عن حاجته.

تشوانج تسو :

بل تشجعت في ذلك اليوم وتقدمت منه وسألت: سيدي، إنك تجلس في هدوء فأجلس في هدوء مثلك. تمشي خطوة فأمشي خطوة. تسرع في السير فأسرع معك. تركض فأركض، ولكن عندما تخرج من حدود التراب أرتبك وأتوقف، وأكتفي بأن أحدق فيك. ضحك وقال:

تشوانج تسو (مقلدا صوت المعلم) :

أجل أجل، كما تفعل الآن.

تشوانج تسو :

كيف يحدث لك هذا؟

صوت المعلم :

ماذا تقصد بسؤالك؟

تشوانج تسو :

أقصد هذا؛ عندما تتكلم أتكلم، وعندما تقيم الحجة أقيم الحجة، وعندما تعلم الطريق، أعلم الطريق مثلك، ولكن عندما تخرج من حدود التراب أتوقف مذهولا وأحدق فيك.

صوت المعلم :

سألتك ماذا تقصد؟ ماذا تريد أن تقول؟

تشوانج تسو :

أريد يا معلمي أن تفسر لي هذا السر؛ إنك تلوذ بالصمت ولا تتكلم، ومع ذلك يصدقك الجميع، لا تتحمس ولا ترفع صوتك، ومع ذلك يوافقك كل إنسان، لا تحاول أن تجذب أحدا، ومع ذلك ينجذب الجميع إليك. هذا هو اللغز الذي لا أفهمه؛ اللغز الذي يؤرقني ويلسعني كالشوكة.

صوت المعلم :

اللغز؟ الشوكة؟ ولماذا لا تحاول أن تصل إلى أصله وجذوره؟ توقعت أن تجهد عقلك وروحك لتعرفه؛ فليس في الدنيا شيء أدعى إلى الحزن من موت العقل والروح. إن موت الجسد لا يقاس بموت الروح.

تشوانج تسو :

تهورت ورفعت صوتي قائلا: أهو لغز آخر يا معلمي؟ تطلع في صمت أمامه ولم يحرك شفتيه. حدق في الفراغ حتى شعرت أنه أصبح جزءا منه. بعد لحظات نظر إلي وقال:

صوت المعلم :

إن الشمس تشرق في الشرق وتغرب في الغرب. ما من شيء يفلت من تأثيرها. ما من حي يمكنه أن يخرج على نظامها. وكل من له عيون وأقدام يتعلق بها ليحيا حياته ويتم عمله. فعندما تظهر تظهر الحياة، وعندما تختفي تختفي معها الحياة.

تشوانج تسو :

سألت في حيرة: وما العلاقة بين الشمس والروح؟

ما العلاقة بينهما يا معلمي؟

صوت المعلم :

العلاقة واضحة يا بني؛ في كل إنسان شمس تشرق وتغرب؛ شمس الروح التي تتعلق بها حياته وموته؛ إن ذهبت مات، وإن رجعت عادت إليه الحياة. هذا هو الذي أسميه التحول الذي يجدد الحياة ويحافظ عليها. فإن جررت جسدي نحو النهاية دون أن أحقق ذلك التحول الذي يجدد الحياة، إن تركت نفسي أستهلك ليل نهار كأني شيء من الأشياء، إن لم أشعر بالموت الأبدي الذي يتم في كل لحظة، إن أحسست أن شمس الروحية قد انطفأت وأنه لا يوجد شيء يمكنه أن ينقذني من القبر؛ عندئذ تضمحل شمس وتصبح شمعة ضعيفة تذبل وتلفظ أنفاسها. حتى يفاجئنا الموت فنشعر أنت وأنا كأن أكتافنا قد تلامست مرة واحدة قبل أن نفترق إلى الأبد! أليس هذا شيئا محزنا؟

تشوانج تسو :

قلت: هو شيء محزن يا معلمي، غير أنني لا زلت لا أفهمك.

صوت المعلم :

قل إنك لا تفهم نفسك؛ إنك الآن تنظر إلي.

تشوانج تسو :

بل أحدق فيك يا معلمي، ألم أقل إنني أفعل هذا كلما شعرت أنك تخطيت حدود التراب؟

صوت المعلم :

نعم قلت هذا، ولكنك تحدق ببصرك الآن لكي ترى في شيئا قد اختفى عندما نظرت إلي. ومع ذلك ظللت تحدق في بحثا عن شيء قد تلاشى، وكأنك رجل ذهب إلى السوق ليبحث عن خيول بيعت قبل وصوله! انظر!

تشوانج تسو :

قلت: ما زلت أنظر يا سيدي.

صوت المعلم :

إن ما يعجبني فيك قابل للتحول، وما يعجبك في قابل للتحول.

لماذا تحزن إذن؟ إذا كانت نفسي تموت في كل لحظة، فعلي أن أحولها في كل لحظة لكي تكون أبدية. وإذا كنت تريد الأبدية فعليك أن تتحول!

هوي تسو :

نعم، نعم. صدق معلمنا العجوز؛ ما زال علينا أن نتحول.

تشوانج تسو :

وما زال الطريق بعيدا عنا! (يبكي.)

هوي تسو :

ونحن بعيدون عنه؛ ربما كان هذا هو سر حزنك يا تشوانج تسو!

تشوانج تسو :

وحزنك أيضا يا هوي تسو؛ هل تنكر؟

هوي تسو :

وحزني أيضا (يبكي)

ولكنني تحولت إلى سمكة!

ألم أشعر بفرحة الأسماك؟

تشوانج تسو :

كان مجرد حلم؛ أنا أيضا ...

هوي تسو :

لا تقل تحولت إلى فراشة!

تشوانج تسو :

مثلك تماما؛ في الحلم!

هوي تسو :

ولهذا لم يستطع الطفل المسكين أن يمسك بك.

تشوانج تسو :

وهذا هو سر حزني.

هوي تسو :

وحزني أيضا؛ هل يغرك أنني أضحك؟ لقد تحولنا في الحلم.

ثم عجزنا أن نتحول في اليقظة.

تشوانج تسو :

عدت إلى الحلم واليقظة؟ أين الحلم من اليقظة؟ وأين اليقظة من الحلم؟ آه! أكاد أجن.

هوي تسو :

بدلا من أن تجن حاول أن تتعلم كيف تتحول.

تشوانج تسو :

وأنت، هل حاولت هذا؟ هل تحولت منذ أن مات معلمنا؟ هل وصلت إلى الأبدي؟ هل أصبحت الأبدي؟

هوي تسو :

أصبحت سمكة، أي إنني الآن على الطريق.

تشوانج تسو :

سمكة أم إنسان، إنسان أم سمكة.

هوي تسو :

لأنك لم تتحول، لأنك ما زلت مثاليا.

كما كنت!

هوي تسو :

وأنا واقعي.

تشوانج تسو :

ولكنني مثالي واقعي مثالي.

تشوانج تسو :

بل أنا الواقعي،

والموضوعي.

هوي تسو :

أنا موضوعي مثالي.

تشوانج تسو :

وأنا مثالي موضوعي.

هوي تسو :

وهل هنالك فرق؟

تشوانج تسو :

وأي فرق؟!

هوي تسو :

قله إذن أيها الفراشة!

تشوانج تسو :

قله أنت أيها السمكة!

هوي تسو :

أنا يقظ يحلم، وأنت تحلم في اليقظة!

تشوانج تسو :

بل أنت الذي تحلم؛ هل يمكن أن يشعر إنسان بفرحة الأسماك ؟

هوي تسو :

وهل يمكن أن يتحول سمين مثلك إلى فراشة؟

تشوانج تسو :

تعيرني بشحمي ولحمي؟! أشرف لي على كل حال أن أكون فراشة.

هوي تسو :

وأشرف لي أن أترك بلدك وأسبح في مياه نهر هاو!

تشوانج تسو :

يقظ يحلم مفتوح العينين!

هوي تسو :

أفضل من حالم لا يستيقظ!

تشوانج تسو :

مثالي موضوعي.

هوي تسو :

موضوعي مثالي. (يوشكان أن يتضاربا عندما يدخل الطفل الصغير فجأة ووراءه أمه التي تحاول أن تلحق به.)

الطفل :

لن تمسكيني قبل أن أمسك الفراشة.

الأم :

تعال، قلت لك تعال!

الطفل :

ساعداني أيها السيدان!

الأم :

دعي السيدين في حالهما!

تشوانج تسو :

تعال يا صغيري، تعال!

الطفل :

هل وجدت الفراشة؟

تشوانج تسو :

أنا الفراشة، إذ أردت صرت فراشة!

الطفل :

أنت؟! أنظري يا أمي! هذا السيد فراشة!

تشوانج تسو :

وإذا أردت صرت طفلا.

الطفل :

طفل أم فراشة؟ تعالي يا أمي.

الأم :

معذرة أيها السيد، معذرة!

تشوانج تسو :

إنه لا يزعجنا على الإطلاق.

الأم :

لقد قطع حديثكما؛ معذرة يا سادة!

هوي تسو وتشوانج تسو :

بل أيقظنا من حلم طويل، نحن الآن ...

الأم :

معذرة معذرة؛ ليس لدينا وقت، لا بد أن أشقى لأطعم هذا الطفل اليتيم، تعال أيها الملعون، العمل ينتظرنا ويحلم بأنه فراشة!

الطفل :

هذا السيد هو الفراشة.

تشوانج تسو :

أعاهدك على هذا يا بني، سأكون فراشة إذا شئت.

هوي تسو :

وأنا أيضا، ألا تحب السمك يا بني؟!

الطفل :

أمي، أريد سمكة، هذا السيد سمكة!

الأم :

عفوا أيها السيدان، هذا الصغير لا يعرف ما يقول، إنه لا يريد فراشة ولا سمكا، هل تعرفان ما يريد؟

تشوانج تسو وهوي تسو :

ماذا يريد؟

الأم :

يريد رغيفا يملأ بطنه، سقفا يدفئ جسده!

تشوانج تسو :

حقا، حقا! رغيف يملأ بطنه، سقف يدفئ جسده!

هوي تسو :

حقا، حقا! رغيف يملأ بطنه، سقف يدفئ جسده!

الأم :

تعال يا بني، تعال! (تسحب ابنها من يده بشدة وتنصرف.)

تشوانج تسو :

أيتها الأم المبجلة!

هوي تسو :

أيتها الأم الحكيمة، نعدك أن نتعلم.

تشوانج تسو :

نعدك أن نتحول.

هوي تسو :

أن نتحد بكل شيء.

تشوانج تسو :

ونعانق كل شيء.

هوي تسو :

أن نصبح مثلك أما تحتضن جميع الأطفال.

تشوانج تسو :

تحتضن جميع الأشياء.

هوي تسو :

أن نصبح أرضا وسماء.

تشوانج تسو :

سقفا ورغيفا.

هوي تسو :

لابنك ولكل الأبناء.

تشوانج تسو :

سأكون أنا فراشة.

هوي تسو :

وأنا سمكة.

تشوانج تسو :

الفراشة أولا.

هوي تسو :

بل سمكة، سمكة.

تشوانج تسو :

قلت فراشة؟

هوي تسو :

وأنا قلت سمكة.

تشوانج تسو (ضاحكا) :

عندما نتحول سنكون كل شيء!

هوي تسو (ضاحكا) :

نعم، نعم، كل شيء!

تشوانج تسو (يمسك يده) :

كل الفراشات والأسماك، كل الأطفال ...

هوي تسو :

كل الأطفال الفقراء. (يضحكان، يضع كل منهما يده في يد الآخر وينصرفان.)

السيد والعبد

(قاعة فسيحة، تتوسطها منضدة كبيرة يجلس إليها رجل على مشارف الكهولة. أمامه ومن حوله ألواح مسمارية كثيرة، ولوحات معلقة على الجدران تطل منها نقوش بابلية بارزة لملوك وآلهة ومناظر من الحياة اليومية والاجتماعية. نافذة كبيرة تبدو من ورائها خرائب مدينة قديمة. يتململ الرجل في جلسته، يحاول أن يبدأ عمله ثم ينفض يديه من المحاولة وينهض على قدميه صائحا):

السيد :

أيها العبد، أيها العبد! (يتأخر عليه العبد فيقول لنفسه)

ما هذا؟ ماذا جرى لي؟ أنا الذي فكرت وكتبت أكثر من عشرين سنة لم أعد قادرا على تفكير ولا كتابة. حتى المخطوطات القديمة التي كنت أجد متعتي وسلواي في نسخها أصبحت لا أطيق النظر إليها. وتمر الأيام والليالي وأنا أحاول بيتا واحدا من الشعر فلا يستجيب، مع أني كتبت للملك عشرات الحكايات والحكم والأمثال والأشعار، حتى أطلقوا علي اسم شاعر القصر. نعم، نعم. يا عبدي! أنت أيها العبد! (يظهر العبد داخلا مسرع الخطى. وهو شاب لا تفارق الابتسامة شفتيه.)

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.

السيد :

أسرع، أسرع، نفذ ما أقوله لك.

العبد :

أمرك يا سيدي أمرك!

السيد :

هيا أحضر المركبة وأعدها لأمضي إلى القصر.

العبد :

امض يا سيدي، امض، سأكون تحت تصرفك. (يتلكأ قليلا. السيد يكتشف أنه لم يتحرك من مكانه. يرفع حاجبيه ويفتح فمه دهشة ويهم بالكلام فيسأله العبد.)

العبد :

معذرة يا سيدي، هل قلت القصر ؟

السيد :

ألم تسمع ما قلته؟ لماذا لا تتحرك؟

العبد :

أي قصر تقصد يا سيدي؟ قصر الملك، أم الحاكم، أم الوزير، أم كبير الكهنة؟

السيد :

ما أغرب أسئلتك في هذا الصباح الغريب!

العبد :

اعذرني يا سيدي؛ فلا بد أن أعرف لأي قصر ستتجه. إن الزينة التي أضعها على المركبة والخيل ستختلف في كل حال.

السيد :

تقول أي قصر؟! الذي تعودت أن أذهب إليه.

العبد :

اعذرني مرة أخرى إذا ذكرت سيدي بأن هذه العادة قد توقفت منذ شهور (ينظر إليه مشفقا، ثم يسير خطوات نحو الباب ويقف عنده. السيد يحول وجهه عنه وينظر من النافذة وهو يكلم نفسه):

السيد :

نعم، نعم؛ كيف غاب هذا عني؟ لقد تنافسوا على طعني وتسديد حرابهم إلى صدري وظهري، أولئك الشعراء الصغار والكتبة الأوغاد! حتى الملك الذي كان يجلسني بجواره ويستعذب سماع شعري لم يستطع أن يفعل شيئا. وعندما أسرعت إليه غاضبا ثائرا قال وهو يتحاشى النظر في عيني: لقد أحكموا المؤامرة عليك، أعدوا القوس والسهم ووضعوه في يدي لأصوبه إلى قلبك! اذهب، اذهب، لكن لا تنس أبدا أنني أحب شعرك.

العبد (مقاطعا) :

سيدي!

السيد :

لا أيها العبد، لن أذهب للقصر، لن أذهب أبدا!

العبد :

لا تذهب يا سيدي، لا تذهب؛ ربما يوقعونك في حفرة جديدة، أو يلفون حبلا آخر حول رقبتك، ستسير في طريق لا تعرفه، وستندم على ذلك ليل نهار!

السيد (لنفسه) :

أندم؟ وهل سأكون حيا لكي أندم؟ ما زلت طيبا أيها العبد، وربما جعلتك الأيام والمحن المتوالية حكيما. (للعبد بعد فترة صمت)

أنصت إلي أيها العبد، أنصت إلي.

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا (يقفز مقتربا منه في خشوع) .

السيد :

أسرع، أسرع، سنتجه وجهة أخرى.

العبد :

وإلى أين يا سيدي؟

السيد :

إلى الخلاء؛ إلى الريف الواسع المفتوح، أريد أن أشم رائحة الخضرة، أريد أن أتنفس هواء نقيا.

العبد :

هل أجهز أدوات الصيد؟

السيد :

وكلاب الصيد أيضا، هل كنا نفعل غير هذا في الخلاء؟

العبد :

اذهب يا سيدي، اذهب؛

فالصياد يملأ جوفه ،

وكلاب الصيد ستكسر عظام الفريسة،

والصقر سينقض عليها،

والحمار الوحشي سيعدو مسرعا!

الحراب ذات العيون النافذة ستتعقبه وتخترق لحمه!

السيد (بعد قليل يكلم نفسه متأففا، لا يلحظ أن العبد يسمعه) :

لا يا عبدي، لا، لن أذهب للخلاء، لن أمضي في رحلة الصيد. (ملتفتا إلى النافذة)

في كل مرة اصطدت فريسة كنت أقول لنفسي: إنني أنا الفريسة، أنظر في عيونها الميتة التي تحدق في وأقول: عبث وباطل ما فعلت، عبث وباطل! وهل أنسى العيون الجائعة التي كانت تلتهم أجساد الفرائس الذبيحة على طريق العودة؟ عجائز وصبية وأطفال تجرحني نظراتهم الخرساء وتتهمني: لعنتك الآلهة ولعنت كل الصيادين! وتظل العيون المحرومة تتابعني حتى أصل إلى عتبة داري وأتخفى في فراشي (ملتفتا إلى العبد وهو يصيح)

لا يا عبدي، لن أذهب أبدا!

العبد :

لا تفعل يا سيدي، لا تفعل؛

إن حظ الصياد متقلب،

وكلب الصيد ستتكسر أسنانه،

وصقر الصياد سيرجع إلى عشه،

والحمار الوحشي سيهجع في حظيرته،

حظيرته الآمنة ببطن الجبل العالي.

لا تذهب يا سيدي، لا تذهب!

السيد :

معك الحق، سأبقى، سأبقى. ولكن أنصت إلي أيها العبد.

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.

السيد :

أحضر الماء لأغسل يدي.

العبد :

على الفور يا سيدي، على الفور، هل تريد ...

السيد (بغضب) :

أريد أن أتناول طعامي.

العبد :

أجل يا سيدي، أجل، تناول طعامك مرة ومرة؛ لقد أعددت كل شيء؛ الإفطار الذي نسيته، والغداء الذي لم تطلبه. إن الطعام الشهي يريح الذهن من متاعبه، و«شمس»

1

نفسه يرعى من يطهر يديه (يذهب ليحضر الماء) .

السيد :

إفطاري وغدائي معا! يا لك من عبد طيب القلب! أم أن الحكمة قد فاضت منك فأغرقتك في بحار السذاجة؟ ألم تلاحظ إنني أغص باللقمة والشربة التي تحضرها إلي؟ إفطاري وغدائي؟! في كل يوم أسأل نفسي: لماذا كتب علي أن آكل وأشرب وحدي؟ كانت الكلمة هي خبزي، كان الشعر هو إكسير حياتي، وها أنا لم أشبع ولم أرتو! كلما وضعت اللقمة في فمي رأيت العيون الجائعة تلاحقني كأنها تمد مخالبها لتسحبها من حلقي، وأبصرت عيون الأطفال الذين لم أنجبهم وهي تصرخ باكية: لماذا لا يكون لنا نصيب في هذه اللقمة؟ لا يا عبدي، لا، لن آكل ولن أشرب!

العبد (يرجع وينحني أمامه ويريد أن يصب الماء على يديه) :

ولكنك ستغسل يديك يا سيدي!

السيد (مفاجئا) :

ولا هذا أيضا، لن أغسل يدي، ولن آكل ولن أشرب!

العبد :

لا تأكل يا سيدي، لا تأكل.

الجوع والأكل، العطش والشرب،

ماذا أفاد الإنسان منها؟ (يتطلع من النافذة إلى الأفق البعيد حيث تلوح أكوام الخرائب القديمة.)

اسأل هؤلاء؛

ماذا أفاد الإنسان؟

ماذا أفاد الإنسان؟

السيد (الذي لم ينتبه لما قصد إليه العبد) :

اسمع يا عبدي، اسمع!

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.

السيد :

قررت أن أكون أسرة!

العبد :

مرحى! مرحى! تكون أسرة؟!

السيد :

نعم، وأنجب أطفالا.

العبد :

خيرا تفعل يا سيدي، لتكن لك أسرة وأطفال!

فالرجل الذي يبني بيتا ويربي أطفالا،

يجعل من نفسه ملكا،

على عرش مملكة صغيرة،

يسكنها شعب صغير.

يصبح راعيا مسئولا،

عن مصير قطيع محبوب،

يعتمد عليه في زاده ومائه،

وصحته ومرضه، ونومه ويقظته،

افعل يا سيدي! افعل!

ستجد طعاما ينتظرك، وسراجا يضيء بيتك، وفراشا يدفئ جسدك!

كون أسرة وأنجب أطفالا؛

فما أحلى أن يجروا حولك في هذه القاعة!

وهم يقفزون ويتصايحون:

علمنا أن نقرأ هذي الألواح،

أسمعنا شعرك يا أبتاه!

السيد (لنفسه) :

أقرأ لهم الألواح التي لا يقرؤها أحد؟ أسمعهم شعري الذي لا أطيق سماعه؟ أواه! ما أشد سذاجتك أو حكمتك!

العبد :

ماذا تقول يا سيدي؟

السيد :

أقول لا، لا يا عبدي!

العبد :

لن تكون أسرة؟

السيد :

ولن أنجب أطفالا!

العبد :

لا تفعل يا سيدي، لا تفعل!

تفتح بابك لعروسك،

فيصير الباب هو الفخ المطبق بالفكين عليك،

تحملها يوما لفراشك،

وإذا بك في اليوم التالي،

تحمل جبلا يرهق كتفيك،

ويمر الزمن على العذراء الضاحكة العين،

الباسمة الفم،

فيخرج من شفتيها النصل المسنون الحد ،

أو الأفعى النافثة السم!

لا، لا تفعل! لا تبن بيتا، لا تستسلم!

لا تغرق نفسك في بحر الدين!

السيد :

لا، لن أفعل، لن أستسلم! هل تعرف ماذا أنوي الآن؟

العبد :

أمرك يا سيدي، أمرك!

السيد :

سأعشق امرأة!

العبد :

اعشق يا سيدي، اعشق؛

العاشق ينسى الحزن ويطرد خوفه،

يحيا في حلم وردي يصحو منه،

على حلم آخر وردي،

يخطو العاشق للمعشوق وتسكره الخفة،

يحدوه الأمل وتعروه الرجفة!

يضنيه اليأس وتتجدد في الصدر اللهفة.

اعشق؛ ما أحلى العشق إذا حاول،

أن يفتح أسوار العفة!

ويعود ومعه الصيد الرائع،

إن ساعدت الصدفة!

السيد :

هل هذا رأيك يا عبدي؟

العبد :

رأيي؟ ألم تقله لك هذه الألواح؟ ألم تسمعه من هذه الأشعار؟ أين أغانيك يا عشتار الجميلة؟ أين ذهبت ألحانك التي عزفتها للراعي البريء فخلبت لبه؟ (يتجول بين الألواح والتماثيل ويبتعد قليلا.)

السيد (لنفسه) :

وأين لعناتها الرهيبة على رأس جلجاميش وفوق أطلال أوروك؟ أيها العبد المسكين! إنك لا تعرف هذا. ويعود ومعه الصيد الرائع إن ساعدت الصدفة! لكن الصدفة لم تساعد، وعشتار الجميلة لم تغن لي لحنا ولم تصب على رأسي لعنة. كم ذهبت إليها أحمل أثقال الألواح التي دونت عليها شعري! كانت تضحك في طيش وهي تردها بيدها قائلة: شعرك صعب جدا؛ يبدو أنك ضليع في اللغة! وليلة وقفت معها تحت بوابة المدينة، كانت عين الإله الأكبر مردوخ تطل غاضبة علينا، وسيل المطر ينهمر بلا رحمة فوق رءوسنا، ويحيل أشعاري إلى طين عكر يتساقط على الأرض. مددت يدي لأدفئ يدها فأبعدتها. حاولت أن أدفئها بثوبي وأنفاسي فأدارت وجهها وظهرها. عرفت ليلتها أنها ليست لي. وفي ضحى اليوم التالي لمحتها تدخل معبد الإله «شمس» وذراع الكاهن الأكبر القوية تلتف حول خصرها كما تلتف شبكة الصياد حول حمامة بيضاء، وما هي إلا ليلة حتى تركها الكاهن الأكبر لتنهشها الأنياب! وعندما دفعت المبلغ المحدد ودخلت عليها حجرتها رفعت رأسها ببطء ونظرت إلي طويلا، ثم خفضته وجرت الدموع على وجنتيها! لملمت ثوبي واستدرت خارجا في صمت، هذا هو الصيد الرائع أيها العبد الخبيث! لا، لا، لم تساعد الصدفة ولم أساعدها؛ ولذلك امتلأت داري بهذه الألواح.

العبد (يرجع وهو يمد يده بأحد الألواح) :

وجدتها يا سيد.

السيد :

وأنا لم أجدها ولن أبحث عنها، أعد هذا اللوح إلى مكانه.

العبد :

ألا تريد؟

السيد :

قلت أعده إلى مكانه؛ لا أريد أن أقرأ، ولا أريد أن أعشق!

العبد :

كما تشاء يا سيدي، لا تعشق، لا تعشق! (يضع اللوح جانبا وينظر إلى النافذة.)

فالمرأة جحر أو حفرة،

فخ، مصيدة، هاوية خطرة!

المرأة خنجر حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل! المرأة ...

السيد :

أرجوك، الزم الصمت!

العبد :

أمرك يا سيدي؛ ما دمت تريد هذا.

السيد :

أريدك أن تطيع صمتي كما تطيع كلامي.

العبد :

هل أتركك لصمتك يا سيدي؟

السيد :

نعم، أريد أن أكون وحدي (يصمت. يتحرك العبد للخروج فيناديه فجأة):

أنت!

العبد :

أمرك يا سيدي.

السيد :

لا، لن أصمت، لن ألزم الصمت!

العبد :

علي أن أطيع كلامك كما أطيع صمتك.

السيد :

أسمع يا عبدي.

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا!

السيد :

سأقود ثورة!

العبد :

ماذا يا سيدي؟!

السيد :

قلت لك: سأقود ثورة!

العبد :

ثورة؟!

السيد :

نعم، نعم. لا يمكن أن أبقى هكذا كمؤشر الميزان الذي تميل به كفة وتخفضه أخرى! قلت لك لقد صممت.

العبد :

على أن تقود ثورة؟

السيد :

لا بد، لا يمكن أن أنظر وأسكت.

العبد :

قد ثورة يا سيدي، قد ثورة؛

لأنك إن لم تفعل،

فمن يثأر لك؟

من يخلص حقوقك؟

من يفضح الكذابين والمزيفين؟

من يفتح عين الشعب عليهم؟ (يتقدم نحو النافذة مشيرا إلى مدينة الموتى.)

السيد :

الشعب؟ هل قلت الشعب؟

العبد (مستطردا في حماس، بينما السيد غارق في رؤاه) :

نعم، نعم؛ هؤلاء، كلهم منسي في مدن منسية! لو وجد الأموات من يثور لأجلهم ما ماتوا تعساء إلى هذا الحد، ولو وجد الأحياء من ينصفهم وينتقم لهم ما عاشوا كالأموات!

السيد (لنفسه، في نفس الوقت تقريبا مع العبد) :

الشعب؟ أين هي عينه التي تتكلم عنها؟ هل رأتني أو شعرت بي؟ لو ذهبت إليه فلن أنجو منه. سيسلمني أو يسخر بي! (ثم بصوت مرتفع )

لا يا عبدي، لا!

العبد (كأنه يستيقظ من حلم، يسرع إليه) :

ماذا يا سيدي؟ بماذا تأمر؟

السيد :

لن أقود ثورة، لن أقود ثورة.

العبد :

كما تشاء يا سيدي؛

فالثائر إما أن يقتل،

أو يسلخ جلده،

تسمل عيناه،

ويلقى القبض عليه،

وينسى - كالكلب الميت -

في السجن!

لا تفعل يا سيدي، لا تفعل!

السيد :

لن أفعل؛ معك الحق (بعد قليل)

ولكن (لنفسه)

كيف أنظر في وجوه أهلي؟ كيف ألاقي المساكين عندما أزور قريتي وأتجول في ضيعتي؟ لا، لا. اسمع يا عبدي.

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.

السيد :

سأعطي المساكين يا عبدي،

سأقرض الفقراء في قريتي،

وأتصدق بالطعام على أهل ضيعتي.

العبد :

تصدق يا سيدي تصدق،

أعط المساكين وأقرض الفقراء؛

من يتصدق تزدد غلته،

ويكثر مكسبه.

ومن يحسن للفقراء،

يبق قمحه هو قمحه!

السيد :

لا يا عبدي، لن أقرض أحدا، لن أتصدق على أحد!

العبد :

أمرك يا سيدي، أمرك!

لا تتصدق ولا تحسن إلى أحد؛

فالإحسان كالعشق،

واسترداد القرض مثل إنجاب الأطفال؛

سيأتون على قمحك،

ثم يصبون اللعنات على رأسك،

ويسلبونك الفوائد التي جنيتها.

السيد (لنفسه) :

معك الحق!

فعلوا هذا دائما،

فعلوه دائما! (يسرح ببصره خلال النافذة.)

العبد (لنفسه) :

نسي سيدي أنه لا يملك ما يقرضه،

وأنهم أخذوا منه ضيعته!

السيد :

أنصت إلي يا عبدي، أنصت إلي.

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.

السيد :

لا يصح أن أفكر في قريتي وضيعتي، وأنسى بلدي.

العبد :

ماذا تنوي أن تفعل يا سيدي؟

السيد :

سأقدم خدمة عامة إلى بلدي!

العبد :

قدم يا سيدي، قدم؛

من يفعل ذلك يبارك «مردوخ» عمله.

السيد (لنفسه) :

بلدي وشعبي؟

ما أغرب هاتين الكلمتين،

حين تخرجان من فمي!

العبد (الذي سمعه بصوت خفيض) :

حقا حقا!

ما أغرب هاتين الكلمتين،

حين تخرجان من فمك!

السيد :

هل قلت شيئا؟

العبد :

لا يا سيدي، لا.

السيد :

لن أقدم خدمة إلى بلدي،

لن أفعل شيئا ولن أتبرع بشيء.

العبد :

لا تفعل يا سيدي، لا تفعل! (مشيرا إلى النافذة.)

اصعد فوق أكوام الخرائب وتمش هناك،

وانظر لجماجم الأعلين والأدنين؛

من كان الظالم منهم ومن المظلوم؟

من كان الشرير ومن كان الطيب؟

كلهم منسي في مدن منسية.

السيد :

كلهم منسي في مدن منسية!

ألم تقل هذا من قبل؟

العبد :

ربما يا سيدي، ربما ... (لنفسه):

من ذا الذي طالت قامته،

حتى صعد إلى السماء؟

ومن ذا الذي أتسع منكباه،

حتى احتضن العالم السفلي،

وأحتوى العالم بذراعيه؟

السيد :

هل قلت شيئا؟

العبد :

لا شيء يا سيدي، لا شيء!

السيد :

إذن فأنصت إلي!

العبد :

ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.

السيد :

أحضر ماء لأغسل يدي!

العبد :

هل أعد الطعام لسيدي؟

السيد :

لا، لا، أريد أن أضحي لإلهي!

العبد :

ضح يا سيدي، ضح.

قدم القربان لإلهك؛

فمن يقدم الأضاحي لإلهه

يسر للصفقة التي يقوم بها،

أنه يبادل قرضا بقرض،

ويرد دينا بدين!

السيد :

حقا يا عبدي! ما أصدق قولك!

العبد :

خلق الإنسان ليكون عبدا للآلهة،

هو خادمهم، يطلب منهم الحماية،

ويتوقع الجزاء،

الذي يتوقعه الخادم من سيده؛

فطريق الطاعة والعبادة،

هو طريق النجاح والتمتع بالحياة.

السيد (لنفسه) :

كم ضحيت لإلهي الخاص!

كم خاطبته قائلا:

لم أهملتني؟

لم غادرت معبدك في بيتي؟

من ذا الذي يعوضك عني؟

بواحد يطيعك ويعبدك مثلي؟

كم تضرعت إليه وقبلت قدميه!

كم توسلت إليه،

أن يذكرني عند الإله «مردوخ»؛

لعل مردوخ يتوسط لي عند «شمس»، وشمس يسترحم «إنليل» من أجلي، وإنليل يستعطف سيد الإلهة «إيا»!

لكن عونه تأخر عني،

وها أنا ذا كما يقول عبدي،

منسي في مدينة منسية!

قبر بلا شاهد منصوب فوقه،

ولا زائر يطوف عليه.

اسمع يا عبدي، اسمع.

العبد :

نعم يا سيدي، نعم!

لك الأمر وعلي الطاعة.

السيد :

لن أضحي لإلهي! لن أفعل أبدا.

العبد :

لا تضح يا سيدي، لا تضح!

علم إلهك الخاص أن يركض وراءك،

سواء سألك أن تقدم له الطقوس،

أو طلب منك أن تؤدي له فريضة،

أو توسل إليك لأي شيء آخر!

السيد :

صدقت يا عبدي، سأعلمه أن يسعى ورائي، سأهمله كما أهملني، وعليه أن يعلم أنه محتاج لعبادتي كما أنا محتاج لطاعته، لكن يا عبدي، لكن.

العبد :

أمرك يا سيدي، أمرك!

السيد :

لا يمكن أن تكون صادقا وكاذبا في وقت واحد. لا يمكن أن تكون خيرا وشريرا، عاقلا وأبله، حكيما ومخادعا في نفس واحد؛ ماذا أفعل إذن؟

العبد :

أمرك يا سيدي، أمرك!

السيد :

هل أذهب للقصر أو لا أذهب؟ أرحل للصيد أو لا أرحل؟ هل آكل أو لا آكل؟ أكون أسرة أو أبقى وحيدا؟ أعشق أو لا أعشق؟ أتصدق أو لا أتصدق؟ أقدم خدمة عامة أو لا أقدم؟ أضحي لإلهي أو لا أضحي؟ هل يمكن أن يستوي الفعل وعدم الفعل؟! أن يتكافأ الخير والشر والظلم والعدل؟!

العبد :

أنت الذي تسأل يا سيدي!

السيد :

وأريدك أن تجيبني بلا مواربة.

العبد :

تفضل يا سيدي، تفضل.

السيد :

ما الخير إذن؟

العبد :

الخير؟!

السيد :

نعم، الخير. إذا كان كل شيء يتساوى مع كل شيء: الصدق والكذب، الإحسان والإساءة، العشق والكره، الزواج وعدم الزواج، الوفاء والجحود، العبادة والتجديف. أين الخير إذن؟

العبد :

في مدن منسية كهذه المدينة؟

السيد :

ما شأننا بهذا؟ لقد قلت هذا من قبل.

العبد (رافعا صوته بالتدريج) :

أنا الذي يسأل الآن.

في حضارة محتضرة كهذه الحضارة؟ وسط خرائب القيم التي تشبه هذه الخرائب؟

السيد :

ليكن، ليكن، المهم أين الخير؟

العبد (رافعا صوته) :

الخير أن أدق عنقك!

السيد (مقاطعا) :

كيف تجرؤ على هذا القول؟

العبد (مستمرا) :

أو تدق عنقي!

أن ألقيك في البحر،

أو تلقيني فيه!

السيد :

ما هذا؟ ماذا أسمع؟

العبد :

ما لا بد أن أقوله ولا بد أن تسمعه؛ لقد استمعت حتى الآن يا سيد، عشرون عاما وأنا أسمع وأطيع، وعليك من اليوم أن تستمع!

السيد :

عبدي، إنني أحذرك؛ سأقتلك قبل أن تقتلني، سأرسلك إلى هناك قبل أن ترسلني!

العبد :

لا بأس؛ أنا راض بهذا، المهم أن تفعل شيئا، أي سلاح تختار؟ بأي شيء ستقتلني؟ (يقلب أدوات مختلفة ينتقل بينها بسرعة.)

بهذه الفأس؟ هذا الإزميل الذي طالما نحت به كلماتك؟ هذه المطرقة وهذا المخراز وهذه المسامير التي لم تستخدم حتى الآن في عمل مفيد؟ المهم أن تفعل يا سيد. حتى لو كان هذا الفعل هو قتلي، تكلم، تكلم.

السيد (يرتج عليه) :

لا أصدق، لا أصدق!

العبد :

بل صدق كل شيء، لا بد أن تتكلم!

السيد :

وماذا تريدني أن أقول؟

العبد :

تقول كيف تفعل هذا وأين!

السيد :

أفعل، ماذا أفعل؟

العبد :

هذا السؤال الأوحد؛ تفعل، تفعل، تفعل ... حتى ولو كان هذا الفعل هو قتلي؛ هل اخترت هذا الإزميل؟ هذه المطرقة؟ هذه الفأس؟ أتفضل واحدا من هذه التماثيل لتهشمه فوق رأسي أم لوحا من الألواح المزدحمة بأشعارك؟

السيد :

فظيع، فظيع!

العبد :

أم تختار مكانا آخر تتنفس فيه للمرة الأخيرة هواء نقيا؛ على شاطئ النهر مثلا، أو بعيدا في الخلاء، وسط الأحراش التي تعودت أن تذهب إليها في رحلة الصيد؟

السيد :

ما هذا الذي تطلبه مني؟ كيف تتصور أن أفعل هذا؟

العبد :

المهم أن تفعل شيئا، هل تؤثر أن أقتلك أنا؟

السيد :

تقتلني؟!

العبد :

نعم نعم، إما أن تفعل أو لا تفعل؛ بهذا الإزميل؟ هذه الفأس؟ هذه المسامير؟ هذه التماثيل؟ هذه الألواح ...

السيد (مذعورا) :

أيتها الآلهة! أين أنت يا إلهي الخاص؟ إلي يا مردوخ!

العبد :

تعلم أنك استجرت بهم فلم يكترث بك أحد، تعلم أنك رفضت أن تقدم لهم الأضاحي أو تمتنع عن تقديمها!

السيد :

حقا، حقا، لكن ماذا أفعل؟

العبد :

أنت وحدك تجيب على هذا السؤال!

السيد :

تكلم أنت؛ فلم أعد أقوى على التفكير!

العبد :

اسمعني إذن للمرة الأولى والأخيرة؛ فلتكن شاهدا على هذه المدينة الميتة؛ ما دمت لا تستطيع أن تنقذها، فلتكن على الأقل شاهدا عليها!

السيد (كأنه يكلم نفسه) :

شاهدا عليها؟

العبد :

وتخرج من سأمك ومللك، تفعل شيئا بدلا من أن لا تفعل.

السيد :

وأنت يا عبدي، ماذا ستفعل؟

العبد :

لم أعد عبدك، ولا أسأل هذا السؤال!

السيد (مستعطفا) :

تعلم أنني لا أحتمل العيش بعدك ثلاثة أيام ، تعلم أنني لا أستغني عنك!

العبد :

أنا أيضا كنت كذلك.

السيد :

كنت كذلك؟! والآن ؟

العبد :

الآن لم أعد عبدا لك، ولم تعد سيدا لي!

السيد :

ماذا أسمع؟!

العبد :

لقد سمعت بالفعل.

السيد :

ولكنه فظيع، فظيع!

العبد :

المهم الآن أن تبدأ؛ أن تكون شاهدا.

السيد (مقاطعا) :

فهمت، وأنت؟

العبد :

ماذا ستفعل؟ حسبتك في غنى عن هذا السؤال، سأخرج إلى هذه المدينة، وإذا لم تكترث بي فسوف أمضي إلى القرى والحقول، هنا أو هناك، ينتظرني الكثير، ينتظرني الكثير.

السيد :

وتتركني وحدي؟ ألن تعود لسيدك أبدا؟

العبد (متهيئا للخروج) :

نعم نعم، عندما لا يقول أحد يا سيدي ولا يقول أحد يا عبدي!

السيد :

لك هذا، المهم أن تعود.

العبد :

عندما تبدأ شهادتك.

السيد :

سأبدؤها من الآن؛ ها أنا ذا أدون أولى كلماتي. (يمسك الإزميل، يبدأ الكتابة.)

العبد :

الآن بدأت تفعل! الآن يمكنني أن أذهب.

السيد :

قبل أن تعدني بأنك ستعود؟

العبد :

أعدك بهذا، وأودعك أيضا! (يتجه العبد إلى سيده، يمد يده إليه فيعانقه السيد. يغيبان في عناق طويل قبل أن يتجه العبد نحو الباب.)

السيد :

الوداع، لا تنس وعدك!

العبد :

الوداع، ولا تنس أن تفعل ما اتفقنا عليه!

السيد :

لقد بدأت بالفعل.

العبد :

وأنا بدأت قبل أن أبدأ. (يضع الفأس في كيس فيه ملابسه.)

السيد :

الوداع يا ...

العبد :

الوداع يا ... سيد!

رؤيا ننجال

ترتيلة مسرحية في خمسة مشاهد

1 (ننجال، ملكة أور، في حجرة نومها. تصحو من كابوس خانق وتدور حول نفسها كالمجنونة. بعد قليل تفتح النوافذ المطلة على المدينة السومرية النائمة في أحضان إله القمر الشاحب ننا أو تنهار.)

ننجال (مذعورة مضطربة الشعر والأنفاس والثياب) :

ماذا جرى لي؟

ماذا جرى لأمي ومدينتي أور؟

وهذا الذي رأيته الآن، هل يمكن أن يكون حقيقة؟

هل دمر ملكي وخربت مدينتي وضاع شعبي المسكين؟

آه! مذعورة أصحو من نومي الآن!

والرؤيا سلبتني الأنفاس وحرمتني الأحلام!

زلزال ينفضني، نار تشتعل في ثيابي وقصري وكنوزي.

بروق ورعود وجيوش السحب السوداء.

إعصار يقتلع الشجر والبشر والمعابد والبيوت! حيات الوادي وعقارب الجبل وجراد الصحراء،

راحت تطاردني من طريق إلى طريق.

وأنا أصرخ وأستغيث، أبكي وأولول :

آه يا مليكتي ننجال!

آه يا مدينتي أور!

كيف حدث هذا كله؟

كيف أمكن أن يحدث؟ (تستريح على أريكة وتلتقط أنفاسها، تنهض بعد قليل متجهة إلى مرآة مثبتة على الحائط وتتأمل وجهها.)

أهذه هي ننجال ملكة أور؟

أهي التي وضع إنليل على رأسها التاج وسلمها الصولجان ونظر إليها بعين الرضا وقال:

لتخرج من فمك أوامر العدالة؟

الوجه ورقة خريف صفراء،

والعين حفرة غائرة،

والجبين شعلة مطفأة،

والجسد الناصع كالجدول،

غطته الأتربة وملأته أخاديد!

لا، لا، ليست هي ننجال! ليست هي ننجال!

ما أنا إلا قصبة هشة تذروها الأعاصير،

ما أنا إلا مركب واهن في ماء آسن،

هجره الصياد وتخلت عنه الريح! (تتجه إلى النافذة وتفتحها وتطل منها.)

وأنت يا مدينتي،

هل ما زلت سيدة المدن وسيدة الأقدار؟

والإعصار الذي هب عليك الآن،

هل أبقى على بيت أو معبد أو إنسان؟

سمعته وهو يهدر كالطوفان،

والرعود تزمجر كطبول الغزاة المتوحشين،

والبروق مشاعل تقذفها الشياطين؛

لتضيء طريق البرابرة القادمين.

لكني أنظر في الليل ولا أرى،

هل أنطفأ الحريق؟

أمد أذني كحيوان أعمى،

هل سكن الرعد والبرق إلى حين؟

وأنت يا إلهي ومليكي وزوجي،

أنت يا نانا الحبيب!

أرفع عيني إليك فأراك كعهدك؛

تبتسم كالحكيم العجوز أو الطفل الرضيع!

هل تسخر مني ومن رؤياي،

أم تنعي أور وملكة أور؟

آه! اختلطت العلامات والإشارات!

سكتت الآلهة وطويت ألواح الأقدار!

لكن ما زال الرعد يدوي في أذني،

ما زال الطوفان يسيل،

وللإعصار هدير. (تترك النافذة وتتوسط الحجرة وهى تصرخ):

يا حراس! أنتم يا خدمي وعبيدي؟

من رأى منكم ما رأيت؟

من سمع ما سمعت؟

تعالوا إلي.

احموني منها واحموا أور،

لا أحد يتحرك، لا أحد يجيب!

هل مات جميع الحراس؟

هل غرقوا في الطوفان؟ (تذهب إلى الباب وتفتحه وتخاطب حارسا لا نراه):

أنت، أنت!

إنه نائم، الجميع نائمون،

والكارثة تقع على رأسي ورأس أور!

أنت، أنت! (نسمع صوت الحارس.) - مولاتي؟! ماذا أيقظك من النوم الآن؟ - الرؤيا يا غبي! الكارثة التي تزحف علينا! - رؤيا؟ كارثة؟ أية كارثة يا مولاتي؟ - يفرك عينيه ويتثاءب.

حين تنام عيون الحراس،

ماذا يمنع الكوارث الزاحفة على الأبواب؟!

ماذا يمنعها من تدمير البيوت وإهلاك النفوس والنباتات والحيوان؟!

أصرخ فيه صائحة: ألم تسمع الرعود؟

ألم تر البروق؟

ألم تشعر بالإعصار والطوفان،

والجراد الذي هبط علينا من الصحاري والجبال؟ - الجراد؟ والإعصار والطوفان؟

البروق والرعود؟

ماذا تقولين يا مولاتي؟

ماذا تقولين؟ - أقول ما ينبغي أن يفزعك أيها الحارس النوام. - باقي الحراس كذلك نائمون! - والقصر ينهار وتتناثر أحجاره؟ - القصر بخير يا مولاتي.

مدد جسده وتغطى بالليل والسماء. - والليل يلد الكوارث يا غبي!

والسماء ترسل النذر والعلامات.

وملكتكم تصرخ وأنتم نيام. - نامي أيتها الملكة،

وليحرسك ويحرسنا إنليل!

ننجال :

شعرت بالحنين إلى مربيتي، ذهبت إلى حجرة نومها الملحقة بجناحي. ها هي ذي نائمة في فراشها، ووجهها الطيب الحبيب يشع منه الرضا والأمان، كأنها مستسلمة لرعاية إلهها الخاص. ناجيتها هامسة وأنا أتأمل قسماته الهادئة: حتى أنت يا مربيتي ومرضعتي الحنون! حتى أنت لا تفزعك رؤياي ولا تقفين إلى جواري؟ أنت يا مرفئي ومينائي. على أي شاطئ ترسو سفينتي التائهة إن لم ترس على شاطئك؟! - أغلقت الباب ورجعت إلى حجرتي.

رجعت وكلي دمع وبكاء،

لا أحد يشاطرني ألمي!

لا أحد يرى رؤياي!

هل يمكن أن تكذب؟

هل يمكن أن تخدعني العلامات؟

وبكائي في الليل ودمعي،

رجفة جسدي كالشجرة في فك الإعصار!

رعشة قلبي كالطير الواقع في شبكة صياد؟

والألم الحارق بذراعي وأعضائي،

وأنا أتشبث بالدفة والمجداف!

لا لا لا، لم تكن مجرد رؤيا،

حومت تهاويلها في قفص الرأس،

ولا مجرد حلم،

تقلب كالطفل الصريع في تابوت القلب!

لقد ظللت أياما طويلة أتوقع يوم العاصفة ذاك!

يوم العاصفة المقدر لي،

وفي الليل وأنا في فراشي،

وعندما حرمت الأحلام وحرمت النسيان،

وحط على كاهلي الخوف من دمار العاصفة والطوفان!

عرفت أن لا مهرب من يوم العاصفة ذاك،

وأن البكاء المر لم يقدر على وحدي،

أن البكاء المر قد قدر لبلادي.

صرخت فيه قائلة: عد يا يوم العاصفة!

عد إلى صحرائك!

ارفع يدك عنى يا يوم الهلاك!

ارفع يدك يا يوم الهلاك المقدر لي ولبلادي!

بسطت جناحي كالطير،

وكالطير طرت فوق مدينتي.

توقف أيها الإعصار!

تراجع أيها الطوفان!

رحت أبحث عن شعبي؛

عد أيها القطيع المشرد في الجبال والوديان!

عد لتحمي أسوار مدينتك!

ورأيت ويا لهول ما رأيت:

تحولت أبواب المدينة ومداخلها إلى طين،

الحقول والمروج العظيمة تراكم فوقها التراب!

عادت أشجارها ملعونة إلى الغابات!

بدت كحقل متفحم بعد الحريق.

مصايد الأسماك أصبحت بركا ومستنقعات،

البساتين المروية جفت من العسل والخمر!

القصور المشيدة تحولت إلى خراب!

رجع آجرها الطيني إلى حالته الأولى في الماء،

وفي المواضع التي كانت تقام فيها الشعائر والطقوس،

راحت الثعالب التي تأوي الخرائب تهز ذيولها!

وعلى الضفاف التي كانت تجر فيها القوارب،

لم تنبت سوى الأعشاب الضارة والأشجار الباكية!

وفي السهول لم ينبت سوى قصب الدموع!

ولم تسع إلا الديدان وعقارب الجبل والحيات.

وبدلا من المياه العذبة،

جرت المياه المرة.

امتلأت طرق المدينة باللصوص.

ومن الجبال البعيدة انحدر البرابرة الوحوش؛

سرقوا الزوجة من زوجها والبنت من أمها!

ذبحوا الطفل الرضيع والجد العجوز!

والمجاعة فتكت بالجميع.

وأنا التي كنت ملكة على الجهات الأربع،

همت على وجهي في الدروب التي ملأتها الجثث،

حاولت أن أستعيد قطيعي الذي طاردته الذئاب!

وعندما رأيت أن يوم العاصفة المقدر ذاك،

يوم العاصفة العاتية المحتوم قد كتب على شعبي وعلي،

رجعت إلى خرائب قصري!

وعندما انزويت في الركن المظلم سمعت من ينادي:

توجهي إلى مجمع الآلهة الكبار.

اذهبي إلى إنليل القوي المقطب الجبين!

أجبت وكلي دمع وبكاء:

كيف وقد كسر جناحاي؟

كيف وقد قدروا يوم العاصفة ذاك؟

قال الصوت: لا تيئسي يا ننجال!

إلى مجمع الآلهة قبل أن يصدر القرار!

وذهبت على جناح الرؤيا إلى هناك؛

كانوا في مجمع المقدس يشربون ويأكلون ويتناقشون،

وعندما رأوني أشار إليهم آنو الجليل؛

آنو سيد الآلهة رفع يده فخيم السكوت.

ركعت أمامهم وبكيت

رفعت يدي الفارغتين من النذور والقرابين:

أيها الآلهة العظام،

تريثوا قبل أن تصدروا القرار!

انتظروا بحق الأرملة واليتيم والضعيف والرضيع!

ألمح العلامات في كل مكان.

ألقى رسل الدمار على كل الوجوه وفي كل الأركان.

لكن ترجوكم ننجال التي سلمتموها الحكم والصولجان،

ترجوكم باسم الورقة في الشجرة والسنبلة في الحقل،

باسم المحراث وباسم المنجل والفأس،

باسم المكيال وباسم الميزان،

باسم المرضعة وباسم الطفل الراقد في الحجر،

باسم البيت وباسم الكوخ ولوح الآجر

باسم العبد والسيد، والكاتب والكاهن،

باسم البناء وباسم الصياد

لا تصدروا القرار! لا تصدروا القرار!

سكبت دمعي أمام «آنو»!

نعيت حالي أمام «إنليل».

قالت لهما دموعي وزفراتي:

ألا يجوز لأور ألا تدمر؟

ألا يجوز أن تنجو مدينتي من الدمار؟

ألا يجوز لأهلها ألا يذبحوا؟

أيتها الآلهة العظام! يا من في أيديكم ألواح القدر المحتوم!

ألا يمكن أن تراجعوا المكتوب؟

ألا يمكن أن تغيروا الخطة وتعدلوا المسار؟

وأنت يا إنليل! يا قائد قواد القوة والجبروت!

ألا يمكن أن تبعد عينك عني؛

عين الموت؟

هل يمكن ألا تنطق بالكلمة ضدي؛

كلمة الموت؟

لكن «آنو» لم يحرك إصبعا في يده ولا قدمه،

وإنليل المقطب الجبين لم ينظر إلي،

لم تبد على شفته بسمة ولا كلمة.

لم يقل آنو: نعم! فليكن ما تريدين!

لم ينطق إنليل: «يسرني ذلك».

أيتها الآلهة! هل صممتم على القرار؟

هل أطلقتم العاصفة وأمرتم أن يزحف الطوفان؟

والبرابرة أيضا؟ هل أمرتم أن يهبطوا علينا كالجراد؟

ماذا أفعل؟

الآلهة صامتون، والعاصفة في الطريق.

إلي يا شعبي المسكين!

انتظر! لا تمت من الرعب واليأس!

لا تشرد في كل سبيل،

انتظر يا شعبي المسكين!

أيتها الأبقار والثيران، والخيل والحمير،

أيتها المحاريث والفئوس، والرحى والأنوال،

أيها الآجر في الجدران والأعمدة والسقوف،

أيتها المراكب والمجاذيف والعربات،

أيتها الأشجار الباكية على الغدران،

والقصبات الدامعة على الشطآن،

انتظروا ملكتكم ننجال!

انتظروا!

انتظروا، (تهب على قدميها واقفة وتجري مسرعة من الباب.)

2 (الوقت قبل الفجر بقليل وننجال حافية القدمين مهوشة الشعر زائغة الملامح والعيون، متعثرة بلا دليل على دروب أور.)

ننجال :

أسرعت إلى الطريق والرؤيا وحش يطاردني، نير يعصب عيني ويمسك بخناقي. كان الغسق الأصفر الجاف كالوردة الذابلة تمد خدودها وعنقها إلى الندى والشعاع. والبيوت والأبراج والأشجار غاصت في النوم ولم ترفع غطاءها الأسود البليل. كل شيء ساكن حولي. لكن السكوت وحش مريب، رحم أو قبر يمكن أن تخرج منه مسوخ ومسوخ، هل خدعتني الرؤيا؟ هل كانت جنينا انتفض في جوفي ولم يشعر بمخاضه سواي؟ أم أشباحا رقصت واضطربت وتصايحت في تابوت الرأس المتعب؟ إنني أتسمع؛ لا صوت. أتطلع للسماء؛ لا برود ولا جذوة نار، بل سحب شاحبة تسبح فوق وجه القمر الشاحب، وجه إلهي «ننا» وإله أور. وهذه قدمي العارية تطأ الأرض الباردة ولا تغرق في السيول. إذن فما زال القضاة الأعلون صامتين؛ هل نطقوا بالحكم وبقي على إنليل الجبار أن يقوم بالتنفيذ! من يدري يا ننجال! ربما كان الشرطي الآلهة الأكبر يعد الأسلحة ويجهز الجيوش ويصف مواكب الأفاعي والعقارب والتنانين قبل أن يضرب ضربته. آه! أم تراني أهذي من أرقي وبكائي طول الليل على نفسي وعلى أور؟ أفقت على صوت خلصني من شبكة أسئلتي، من عقدة مشنقة جدلتها أفكاري السوداء. كان صوتا ممتدا في الليل كمركب بعيد يتقاذفه الموج ويتشبث بالدفة والمجداف المكسور، كطائر بحري تحاصره العاصفة، وتلطمه هامات الموج الهادر، ويفتش في لهفة عن مرفأ أو سفين. لم يكن صوت غضب ولا احتجاج، لم يتردد فيه صدى قوة ولا اندفاع. كان عجوزا كحيوان معمر يزحف بنفسه إلى مكان يموت فيه، مرهقا لا أثر فيه لرغبة أو أمل. وسرعان ما وقع بصري على صاحبه العجوز المرهق مثله. كانت امرأة مثقلة بحمل السنين والأحزان، وثوبها المسدل على الجسد الضامر المتخشب يشف على الضوء الشحيح عن نخلة عجفاء. وامتد الصوت كحبل ملوي يجهد كي يلتف على:

الصوت (تردده ننجال نفسها) :

يا من تتحلين بإكليل من حجر اللازورد أو الياقوت،

زين بالأوراق والفواكه والزهور الذهبية،

لا تضعي الإكليل على صدرك؛

فعاصفة إنليل على وشك الهبوب.

ننجال :

خيل إلي أنها تكلمني، شعرت أنها تتهمني. تسللت يدي دون وعي إلى صدري. حمدا لك يا إنليل! لم يكن الإكليل على صدري، لقد خرجت من قصري عارية من تاجي وزينتي، من يراني يظنني خادمة مهملة في بيت كبير أو أمير، أمة في معبد آنو أو ننا أو إنليل. تلوى الصوت وزحف نحوي.

يا من تقود عربتك المطهمة بأربعة حمير،

وتجد لتصل بحمولتك إلى بيتك القريب،

اهرب واترك العربة والحمير؛

فعاصفة إنليل على وشك الهبوب!

يا من ترعى قطيعك من البقر والأغنام،

وتسوقه إلى الحظيرة ليهنأ بالقصب والأعشاب،

ويستريح تحت ظلها من لفح الشمس وتعب النهار،

اترك القطيع وابحث عن مأوى تختبئ فيه؛

فقد أوشكت عاصفة إنليل على الهبوب.

ننجال :

كانت حبال الصوت تتلوى كالأفاعي السوداء، وتدور في دوائر كدوامات مؤبدة تطبق علي. خرجت من مخبئي وواجهت العجوز وأنا أهتف بصيحة لم تخف الفرحة بصدق رؤياي: أيتها العجوز! أيتها العجوز! إذن فقد رأيت رؤياي؛ إذن فلم تكن رؤياي وحدي، لم تدو الرعود ولا زمجرت العاصفة في سمعي أنا وحدي، أيتها العجوز، لكنها لم تحفل بي.

استمرت تقول كأنها لم تر أحدا ولم تسمع شيئا:

يا من خرجت لتوك من رحم الأم،

واستقبلت الهواء في أور بالصراخ والعويل،

للموت أتيت يا ولدي، وإليه تعود!

للعبودية أتيت بعد أن صارت الحرية الوحيدة في أور أن ترجع للأم الأرض قبل أن تلوث بالآثام وتوضع في القيود! ولتسرع يا ولدي قبل أن تبدأ عاصفة إنليل.

ننجال :

هممت أن أصرخ فلم تتفتح بوابة الرعب لينطلق لساني. حاولت أقول إن الآلهة نفسها قدرت ألا يولد طفل بلا إثم أو خطيئة. لكنها لم تتوقف عن ضرب الوتر المشدود:

الصوت :

إلى أين تنظر وماذا تنتظر؟

وراءك ظلام وأمامك ظلام،

وعندما تبلغ عمر الشباب وتجتاز عتبة الحياة،

ستجد في انتظارك الجوع والذل والغدر والإحباط!

انج بنفسك يا ولدي قبل أن ينفخ إنليل في الأبواق،

قبل أن يهدر الإعصار ويزحف الطوفان.

ننجال :

تقدمت من العجوز حتى كادت أنفي تلامس أنفها المجعد كالبلحة الجافة. قلت لها في همس كالفحيح: رأيت الرؤيا مثلي، أليس كذلك؟ قالت وهي تحول عينيها عني: ورآها الألوف بعد الألوف، ثم استمرت في نشيدها تقول:

يا من تحتالون على الفقراء وتظلمون الأرملة واليتيم،

يامن تبخسون الكيل وتغشون الميزان،

وتسرقون الأرض وتنسون أنها قبر السارق والمسروق،

ألم تروا إنليل يمتطي صهوات العواصف والرياح؟

ألم تسمعوا صوته المزمجر في الجبال والسهول والبطاح؟

ننجال :

أسرعت أقول قبل أن تختفي من أمامي: أنا سمعته ورأيته أيتها العجوز، أنا وأنت قد سمعناه ورأيناه، والآلهة التي قررت المصير في لوح القدر المقدور، قد نطقت بالحكم ولم يبق سوى التنفيذ.

تعالي أيتها العجوز، تعالي ومعك الأبناء والبنات والسادة والعبيد.

تعالوا نقرأ ما في اللوح ونفهم الأسباب؛ قالوا ...

الصوت :

يا من تتأمل النجوم وتكتب على لوح من طين،

قصة أور التي دمرها الإعصار وداس عليها التنين،

وساقها البرابرة مغلولة إلى بوابة الذل المهين،

اترك اللوح والمسامير والإزميل والطين؛

فعاصفة إنليل على وشك الهبوب!

عاصفة إنليل على وشك الهبوب.

ننجال :

صرخت محاولة أن أوقفها، فارتد إلي الصوت وغاب الشبح المتثاقل في الظلام.

ناديت عليه أن ينتظر، سألته أن يدلني على الفاسدين والمغرورين، والمتكبرين والظالمين، ولصوص الأرض والأرملة واليتيم. دعوت أن يضع يده في يدي، أن نرفع مع الألوف والألوف ميزان العدل، ونقيم بيت الحق في البلاد، أن نقف بوجه الإعصار ونبني السور أمام الطوفان. لكن الوتر المشدود انسحب كما ينسحب الثعبان الخائف في جوف الليل، الليل المطعون بسهم الفجر الطالع في الأفق المغبر الشاسع، الأفق المنذر بالخطر الداهم والويل القادم. وقفت وحيدة على طريق موحش في مدينة آيلة للسقوط. من يتأملني لا يعرف أني الملكة في القصر العالي، أتأمل حالي في غبش الفجر فأنكر أني الملكة راعية العدل وحامية السور! أني فوضني إنليل وسلمني التاج ووضع بكفي الميزان. وأنا واقفة وحدي أنتظر الغضب القادم مع إنليل. والصوت الذي سمعته من العجوز يلتف حول رقبتي ويرن في صدر خاو كالقصر المهجور. وقبل أن أردد السؤال القديم: ماذا أفعل؟ سمعت الصوت الآخر يسقط كالصاعقة أو الجمر المتقد بنار اليأس علي، كأن صاحبه يتقدم على صداه. أدركت من النظرة الأولى أن صوته هو عينه التي تضيء له في الظلام. أخذ يطلقه من فمه كالشرر المتطاير ثم يلقي قدميه وجسده الضئيل في أثره. واقتربت منه وحركت يدي أمام وجهه. حدقت في الوجه المحفور المجدور، في العينين الغائرتين كقبرين صغيرين. لم يشعر بأن أحدا اقترب منه أو تحرك أمامه. وانهمرت الشرارات المتقدة كعيون القطط المتربصة في ركن من أركان الليل:

أنت الذي وهبتني العناء المتجدد على الدوام!

دخلت البيت وروحي مثقلة بالأحزان،

خرجت إلى الطرقات وقلبي مفعم بالآلام.

ننجال :

تقدمت منه وتأملت وجهه الجامد كوجه التمثال. قلت وأنا أنظر في عينيه المطفأتين وقسماته الميتة: تتهمني ولا أعرف من أنت. بحق إلهك إلا أجبتني وعرفتني بنفسك!

الصوت :

أنا الحكيم، لم أقيد مع السفهاء؟

أنا الذكي لم أعد مع الجهال؟

الطعام وفير وفي كل مكان، لكن طعامي الجوع!

في اليوم الذي قسمت فيه الأنصبة على الناس،

كان نصيبي هو العناء!

ننجال :

أمسكت يده شأن من يريد أن يساعد شحاذا أعمى على عبور الطريق.

أطبقت يده على يدي فشعرت بالدفء يسري في دمائي. تشجعت وسألته: من هذا الذي سبب لك العناء؟ سمه لتقتص منه العدالة، صفه لأحضره لقضاة العدل. قطب جبينه ورفع وجهه إلى السماء قبل أن يفتح فمه الحجري ويطلق منه طير السر الغامض.

الصوت :

الرجل المخاتل غطاني بالريح الجنوبية،

حول كلمتي الصادقة لأكذوبة،

خان العهد وسلط قوات الشر علي!

وتآمر - وهو المخدوع الخادع - هو والأوغاد علي

فلم يحبط راعي العادل عمله.

قلت له بعد أن عبرنا الطريق وصرنا وحدنا: نطقت ولكن لم تقل شيئا؛ ألا تسمي الاسم؟ ألا تصف الآثم؟

الصوت :

أقف في حضرتك وكلمتي أنين،

أريد أن أتكلم إليك،

لكن كلامي بكاء ونواح.

ننجال :

ضغطت على يده وأسررت إليه: أنا أيضا كلمتي أنين، أنا مثلك أبكي وأنوح! لكن بعد قليل يشع النهار على البلاد، بعد قليل تنقطع الشكوى وتجف الدموع.

الصوت :

إن كان النهار يشرف على البلاد فنهاري مظلم !

إن كان الحظ يبتسم لغيري فقد اختارني للدموع!

وأنت يا من تضجرك شكاتي وتحول وجهك عن جروحي،

إن كان الجرح النازف في روحي قد خفي عليك،

فانظر ما فعل المرض بجسمي،

والمس إن شئت قروحي!

ننجال :

إلهك سيخفف عنك.

الصوت :

بل أهملني وتخلى عني!

ننجال :

أمك تدعو لك.

الصوت :

بل تندب حظي منذ ولدت!

ننجال :

مدينتك ستثأر لك.

الصوت :

وهل ثأرت لنفسها حتى تثأر لي؟! انظري حولك إن كنت قادرة على فتح عينيك. انظري حولك لتري الظلم الذي أعمى عيني.

ننجال :

والظلمة، من هم؟

الصوت :

ألوف وألوف وألوف.

ننجال :

أين أجدهم؟

الصوت :

سيري في الطرقات، امضي للأسواق، اذهبي للحقل والمعبد والمتجر والحان، ادخلي البيوت وانفذي في الصدور؛ ألوف وألوف وألوف.

وتسألين عن الظلمة والمظلومين؟ افتحي عينيك، سيري في الطرقات، امضي للأسواق.

ننجال :

نفض يده في غضب من يدي، واقتحم ستائر الظلام والضباب وهو يصيح:

تقول مدينتك ستثأر لك،

ومتى يا أور ثأرت لنفسك،

والظلمة يا أور ألوف فوق ألوف؟!

سيري في الطرقات، سيري في الطرقات.

وامضي للأسواق، امضي للأسواق.

3 (ننجال مستندة بظهرها إلى جدار معبد إنليل. آثار التعب على جسدها المهدود، ووجهها المنهوك، وقدميها المعفرتين بالتراب، وقت الغروب.)

ننجال :

تعبت من السير في الأسواق والطرقات؛ طفت الحقول وعبرت الأنهار ووقفت أمام الأسوار والبوابات، وقادتني قدماي إلى المقابر والجبانات.

في كل مكان كنت أقول لنفسي:

أور، يا مدينتي أور،

لا أم لي؛ أنت أمي،

لا أب لي؛ أنت أبي،

أهذه هي أنت يا أور؟

شعبي يذرف الدموع،

يلقي بنفسه في الرغام،

ينام كإناء مهشم،

وأنت تتكفئين على وجهك وتبكين!

أهذه هي أنت يا أور؟

عندما كنت في طريقي إلى قصر «الإنسي» الحاكم رأيتهم من بعيد يدورون ويدورون. سمعت أصوات السياط وهي تلسع الظهور، ورأيت أجساد العراة المشدودة بالحبال وهي تدور. وقبل أن أتبين ملامحهم تردد في أذني أغنية تقول:

دوري أيتها الطاحونة دوري،

العبيد حول حجر الرحى يبكون،

الزراع خلف المحراث يبكون،

الرعاة على مزامير القصب يبكون،

دوري أيتها الطاحونة دوري .

اتجهت إلى المشرف على العمال وسألت: من هؤلاء؟ - أنت ترينهم ولا يرون. - ما معنى هذا؟ - هم عميان؛ قبض جنود الإنسي عليهم. - ليعاملوا كالحيوانات؟ - ليرووا الأرض فيخضر الحقل ويزدهر البستان. - أرض الإنسي؟ - بالطبع؛ فهو السيد والكل عبيد. - من أمر بهذا؟ - ما شأنك أنت بهذا أو بسواه؟

لولا أنك مبصرة لربطتك معهم في النير! هيا ابتعدي عن هذا السوط.

وفرقع السوط يشوي الجلود التي راحت تلمع بسيول العرق وتتأجج بلهيب الشرار. وانسابت الأغنية ترجع الشكوى والأنين:

دوري أيتها الطاحونة دوري،

دوري أيتها الطاحونة دوري.

آه يا أور! من أمر بجلد الأعمى كالحيوان؟ من جعل الإنسان يهان؟ مشيت أجر ساقي إلى الحقل الكبير، لم أكن في حاجة إلى سؤال أحد؛ فالحزن يقابلني في عيون الإنسان والحيوان، والحزن يكشف ما تطويه قلوب الحكام والنبلاء والأغنياء والأعيان: استولى على الأرض وجعلها ملكه الخاص. - ثيران الآلهة تحرث حقوله،

وحقوله هي أجود أرض الآلهة. - موظفو القصر يأخذون أموال الفقراء،

ينهبون حميرهم وشياههم وبيوتهم وبساتينهم،

وإذا اشتروها منهم اضطروهم لبيعها بأبخس الأثمان! - القصر ينتفخ ويزداد ثراء،

وأكواخ القصب تزداد فقرا وجوعا! - انظري! هذا هو قصر «الإيشاكو»

1

وهذا قصر حريم «الإيشاكو»،

وهذه قصور أطفاله،

وهذه قصور حجابه وحراسه وموظفيه. - هل نظرت في الناحية الأخرى إلى الخرائب والقبور؟

نعم نعم؛ هذه هي دور الفقراء!

تنحني على الأرض وتعانق التراب.

تتوارى من الخجل وتتماسك كالأيتام،

الأيتام الذين يبكون في الظلام. - هل تعلمين أنهم فرضوا الضرائب على كل شيء،

وأن جباة الضرائب والرسوم في كل مكان؟ - عندما تزوجت امرأتي دفعت الضريبة،

وعندما طلقتها ضاعفوا الضريبة، - إذا أحضرنا الأغنام لجزها في ساحة القصر،

طالبنا المشرف على الأغنام بالضريبة،

والضريبة تسدد بشيقل من الفضة،

وهو أغلى من ثمن الرأس من الأغنام!

وإذا ذهبنا للمعبد وقدمناها للسدنة والكهان،

مدوا أيديهم وطالبونا بالضريبة على القربان. - هل تعلمين ما يحدث لجارتي الآن؟ - وهل تعلمين أنت من هذا المكان؟ - بل قرأه في لوح القدر المسطور. - لوح القدر المسطور بيد إنليل.

رب الحكمة والعدل وحامي أور. - والراعي المسئول عن الأرملة الثكلى،

عن كل يتيم وضعيف وفقير. - بالطبع. هذا يعرفه كل صغير وكبير. - ها ها! يبدو أن المسكينة ليست من أور! - ولماذا؛ ماذا حدث لأور؟ - ما عادت أور هي أور.

انقلب الحال وصارت ألواح القدر المسطور،

يكتبها الإنسي مع الكاهن وينفذها الحارس والشرطي المأجور! - هذا كفر، تجديف، كيف جرؤت على هذا؟! - أنا لا أتجرأ؛ كيف تواتي الفقراء الجرأة؟

ولساني ينطق عما شاهدت العين. - شاهدت العين؟ وأين؟ - في الجبانة فجر اليوم.

أسرعت إلى الطريق الضيق المؤدي إلى الجبانة، كان الصمت يحتويني في ردائه الناعم المخيف مع كل خطوة، والأشواك تنغرز في قدمي كلما لاحت الشواهد والأضرحة والمزارات، وأشجار الصنوبر والنخيل الثابتة في أماكنها كالحراس السود، أو تماثيل الآلهة تحت وهج الشمس المحرقة. تناهت إلي أصوات كلام وبكاء وصياح ولغط شديد. ولم يكن من الصعب أن أهتدي إلى مصدر الأصوات المضطربة، وأن أرى أمامي جنازة صغيرة وقف أصحابها عند قبر مفتوح، وجلست النساء والأطفال برءوسهم المسندة على أيديهم، والنشيج المتقطع ينفجر كشلال مفاجئ بين الحين والحين. اقتربت من الجمع المحتشد، بينما وقع بصري على جثمان الميت الممدد أمام فتحة القبر في كفن مغبر فقير. رفعت الأرملة رأسها عندما لمحت ظلي يفترش الأرض، ثم أطرقت صامتة. قلت: هذا زوجك، مات اليوم. قالت صبية واسعة العينين: هو أبي، مات من الجوع والإعياء. رفعت المرأة رأسها وحدقت في وجهي بعينين مطفأتين: بل أنا التي مت مع الأيتام. سألتها: ماذا تعنين؟ نظرت إلي وأدركت من صمتها أنها تقول: وماذا تملكين أنت لي؟ تلفت حولي فوقع بصري على حشد من الرجال، تعرفت من بينهم على كاتب يحمل في يده لوحا من طين، وشرطي تتدلى من حزامه عصا معدنية ثقيلة يطل من مقبضها رأس ثور حاد القرنين. نظروا جميعا إلي، كان من الواضح أنهم فوجئوا بحضوري وهيئتي، وربما لمحوا على وجهي آثار مجد قديم. قال رجل غليظ الوجه واليد: نحن لا نعترض على دفنه، لكن الأوامر والقوانين. - الأوامر والقوانين؟ - نعم نعم، لا بد من دفع الضريبة.

صرخت الأرملة : وهل تأخرنا؟ هذا كل ما نملك.

قال الرجل ذو الوجه الغليظ: لا يكفي، لا يكفي!

سألت الرجل: ولهذا أرسلتم من يفتشون البيت؟

قال الرجل والأرملة في وقت واحد: إن وجدوا شيئا فيه.

سألت مرة أخرى: ويبقى الميت هكذا؟

أسرع موظف آخر نحيل الوجه واليدين بصورة ملحوظة: الأوامر والقوانين. تدخلت الأرملة ورن صوتها كجرس خافت معلق في رقبة شاة عجوز: هل تعلمين ماذا فعلوا؟ لم نكد نضع الميت على الأرض، ولم تكد شفاهنا تختم الضراعة لآلهة العالم السفلي أن لا تضر به شياطين «الجالا» بالسياط ولا تمرغه في الوحل والتراب، حتى ظهروا كجيش من الغزاة المتوحشين انقضوا علينا وعلى الميت، منعونا من وضعه في هذا القبر الذي كلفنا مئونة شهور.

قلت: ومن هؤلاء؟ من أرسلهم؟

ردت الأرملة ساخرة: تقولين من؟ كأنك غريبة عن أور!

قلت أداري خطئي: هم جباة الضرائب والرسوم؟

قالت الأرملة وهي تشير بسبابتها إليهم واحدا بعد واحد: بل حشد من الذئاب يسمونهم الموظفين والمحصلين والمرابين والمتطفلين.

لو كان لدموعي ثمن لتقاضوا عليها الرسوم! لو دموع أطفالي وحسراتهم تباع لأسرعوا بدسها في الجيوب والأكياس! ومع ذلك نهبوا ما معنا من الخبز والنبيذ، بعد أن حضروا للبيت مساء وزوجي يحتضر وسلبونا المخزون من الغلة والجعة والشعير.

قلت وأنا أقلب عيني فيهم: وما زالوا ينظرون ما يتمخض عنه البحث والتفتيش.

قالت الأرملة قبل أن يذكرها أحدهم بالأوامر والقوانين:

ويظل المسكين،

هكذا حتى يرجعوا خائبين!

ضحك أحدهم وكشر عن نابه: لا هو من أهل الأرض ولا العالم السفلي!

مرت أصابعي مسرعة على ذراعي وأذني وصدري. وفي لمح البرق كنت أناولهم قطعة من الحلى الذهبية لم أعرف حتى الآن ماذا كان النقش المرسوم عليها. تكالبوا على اليد التي وضعتها فيها وصاحوا كالخنازير وأنا أعطيهم ظهري وأسرع على الطريق: ذهب! ذهب من مقبرة الملكة ننجال!

ننجال :

آه يا أور!

هل أنت مدينة أور؟

والذين أقسموا القسم أمامك يا ملكة أور!

لماذا خانوا العهود ونكثوا الوعود؟

لم قلبوا ميزان العدل،

وهدموا الناموس؟

كان المعبد والقصر والحقل والبستان ملكا للآلهة،

والآلهة عندما خلقت الإنسان من الدم والطين،

طبعت صورتها عليه وقالت:

لم تخلق إلا لتخدم الآلهة وتعبدها؛

فلماذا جاء «الإنسي» ووضع الآلهة والبشر في خدمته؟

لماذا استحوذ المشرف على الحقول على محاصيل الحقول؟

واستأثر ناظر الحظائر بالماشية والقطعان؟

ونهب رئيس الشرطة حق الأرملة واليتيم؟

وانتشر الزبانية من حدود البلاد إلى البحر الأعلى؟

ومن البحر الأعلى إلى حدود البلاد؟

آه يا أور!

لماذا أكل الجميع لحم الجميع؟

واستعبد الجميع الجميع؟

وأنت يا ننجال، يا ملكة أور،

يا من وكلك «إنليل» عنه لإقامة العدل في البلاد لماذا سقط من يدك الميزان؟

وفي التراب وقع السيف والتاج والصولجان؟

لماذا صدقتهم وتركتهم يحكون لك القصص والأساطير:

الحاكم والوزير، والقائد والناظر، والمشرف على الحقول والمصايد والبساتين؟

وبقيت بقصرك حتى باع الأب أولاده،

وسلم الرجل أفراد عائلته للدائنين،

وصار الرعاة سجانين والرعية مساجين!

ماذا أقول للطفل حين ينظر في عيني وتقول دموعه:

ولدت في أور وليتني ما ولدت في أور!

وبعد أن كنت أعاقب المذنبين والمجرمين والأشرار،

وآمر برجم السارق والمجرم اللئيم،

وأرضي قلب إنليل بالسكائب والأضاحي والقرابين؛

أصبحت أطوف شوارع أور فلا يعرفني العبد ولا الأمير!

أكلم الناس فيحسبونني خادمة أو بغيا في معبد إنليل!

هل يرضيك ما حدث لأور يا إنليل؟

هل هذا هو غضبك على أور وملكة أور؟

كثرت علامات الشؤم في كل مكان،

فسرها يا إنليل.

قل كلمتك، تكلم!

يا من أستند من التعب على حائط محرابك،

ساعدني، ساعد أور!

إني أتضرع لك:

ارفع غضبك،

أوقف إعصارك،

وافعل بي ما شئت؛

فأنا خادمة لك.

دمرني أو أهلكني،

لكن لا تهلك أور.

لكن لا تهلك أور!

4 (في معبد إنليل. ننجال تقف باكية مشعثة الشعر في المحراب المقدس أمام تمثال ضخم للإله إنليل.)

ننجال :

كلمني يا إنليل،

يا من كلمتك مقدسية،

وكلامك لا يتبدل،

رد على أسئلتي الحيرى؛

هل تذكر يوم وضعت على رأسي التاج وسلمتني الصولجان،

وائتمنتني على القوانين المقدسة،

وكشفت عن أمرك الذي هو كلمة قلبك؟

بكلمتك فاضت الأنهار بالماء،

ووضع سمك البحر بيضه في أدغال القصب،

وبنت طيور السماء أعشاشها على الأرض الفسيحة،

وجادت الغيوم السائرة بمائها،

ونمت الأعشاب والنباتات في السهول،

وازدهر القمح الوفير في المراعي والحقول.

يومها قلت «لأور» وأنت تباركها:

أيتها المدينة الموفورة الزاد،

أيتها المدينة العميقة المياه،

الراسخة كالثور القوي الثابت،

أنت يا منصة خير البلاد،

خضراء أنت كالجبل،

وارفة الظلال كالغابة،

ليرتفع اسمك إلى قلب السماء!

وليعل مقامك فوق الأقطار!

ليبحر في أعيادك السمن واللبن!

ولتجلب مخازنك السعادة والأفراح!

هذا ما قلت يا إنليل،

يوم اتخذت أور مسكنا لك،

وباركت أسرابها وقطعانها،

وبيوتها ومعابدها،

وجعلتها بلدك المقدس المختار،

فلماذا تأخذ كلمتك وتتركنا للصمت؟

لماذا جفت الأنهار،

وذبلت المراعي والحقول،

وهجرت سماءنا الغيوم والأطيار؟

كلمني يا إنليل،

أيها الراعي المبجل الجليل!

ويوم وضعت في يدي الميزان،

وقلت لي يا ننجال:

كوني راعية الأرملة واليتيم،

كوني مأوى الضعفاء وملاذ الفقراء،

اطردي الأشرار والسيئين،

آويت في حضني الفقير واليتيم،

واسيت الأرملة والمسكين،

نصبت الميزان، وأوقفت أمامي الصالحين والطالحين،

وبجانبي وقفت الإلهة «نيدابا» إلهة الكتابة والحساب،

تنقش الأعمال وتسجلها على ألواح الطين،

ويشهد عليها «خاي» مع شهود عديدين.

سلمت القوي للضعيف،

وعينت المكان الذي يهلك فيه الطغاة،

نفذت إلى قلوب الأشرار،

وعاقبت من سلك سبيل العدوان،

من تخطى الحدود ونقض العهود،

أدبت من اغتصبت يده ما لا يملك،

من نظر نظرة الرضا إلى مواطن السوء،

من بدل الوزن الصغير بالوزن الكبير،

والكيل الصغير بالكيل الكبير،

من أكل ما ليس له ولم يقل أكلته،

ومن شرب ما حرم عليه ولم يقل شربته.

منعت رجال السلطة من أن يقترفوا إثما،

في حق يتيم أو أرملة أو مسكين،

حرمت على تابع الملكة أن يقبض على الرجل الأعمى ليروي حلقه بالمياه ثم يحرمه من الطعام،

ويحرم حماره من الماء،

فرضت على السارق أن يرجم بحجارة كتب عليها قصده الشرير،

وأمرت أن تعلق الممتلكات المسروقة على البوابة العظيمة،

يستدل عليها مالكها الشرعي ويستردها،

والمرأة التي تخون رجلها والرجل الذي يخون امرأته ،

كانت أسنانهما تهشم بآجر محروق،

وكان هذا الآجر الذي كتب عليه ذنبهما يعلق على البوابة العظيمة.

أمرت يا إنليل ونفذت أوامرك؛

لم أسمح للجائر والظالم والخوان،

أن يقف أمامك،

لم أسمح للمتكبر والمتسلط والغدار،

أن يفلت من شبكتك،

وفاض الخير والرخاء على أور،

واعتز الإنسان بالخير والصدق،

والاستقامة والأمانة،

والرأفة والعدل والإحسان.

لكنك حولت وجهك عنا يا إنليل،

سكت وقطبت جبينك كما تقطبه الآن،

وأجزت أن يفلت الظالم الشرير من شبكتك،

ويضع أور وساكني أور في جوفه:

فالمشرف على العمال يستغلهم في أعماله،

والموكل بالملاحين يغتصب السفن لنفسه،

ورئيس الرعاة يسلبهم الحمير والماشية والأغنام،

وكاهن المعبد يستحوذ على الأضاحي والسكائب والقرابين،

ورئيس الشرطة يتقاضى الفضة حتى على ترديد الأنفاس،

وجباة الضرائب المنتشرون من البحر إلى أقاصي البلاد؛

يحصلون الرسوم والأقوات حتى من الأموات!

وأنا التي تعرف قلب الأرملة واليتيم،

وتنشد العدالة لأفقر الفقراء،

أنا التي تعرف ظلم الإنسان للإنسان،

أسألك يا إنليل وأسأل نفسي:

ماذا شوه هذا الإنسان؟

ماذا حوله ذئبا يفترس أخاه،

كلبا مسعورا يغرز فيه نابه؟

ماذا يجعله يتلذذ بالغدر وسوء النية؟

يرتكب الذنب الفادح ويبرر ذنبه؟

يظلم باسم العدل، ويضطهد لأجل الحرية؟

أتقول بأني قصرت؟

أتقول لزمت القصر ونمت؟

لا لا لا. أنا ما قصرت،

أنا يا إنليل عجزت!

قالوا أور بخير، صدقت.

حتى امتدت ألسنة النار إلى عتبة قصري حرقت بابي وثيابي،

فأفقت،

لكن بعد فوات الوقت!

بعد فوات الوقت!

قل يا إنليل، تكلم!

لا تتركني في هذا الصمت.

يا راعي الضعفاء وحامي الفقراء،

يا من تسلمنا العدالة من يدك،

كما تلقينا النور من الشمس،

هل آن لنا أن نتخبط في الليل؟

هل هبطت في هذا الليل شريعة الظلام؟

قل كلمتك، تكلم.

من يرفع يده غيرك؛

كي يوقف مرتكب الإثم،

ومنتهك الحرمة؟

قل كلمتك تكلم.

يا من تمسك لوح القدر،

وتنفذ عينك من حجب الغد،

هل قررت قرارك أن تهلك أور؟

هل صممت ولم يبق سوى نطق الحكم؟

الأمر بيدك، ولك ما شئت!

عاقبني، بدد ملكي ،

أهلكني إن أحببت،

لكن لا تهلك أور!

لكن لا تهلك أور!

هل يرضيك أن يهجم علينا البرابرة ذوو اللحى الطويلة والقلوب القاسية من الجبال الشمالية ويغطوا أرضنا كالجراد؟ إن كان يرضيك أن يسوقني «سرجون» جديد مغلولة العنق إلى بوابة إنليل، إن كان يرضيك أن أقتاد من خشبة تطوق رقبتي إلى البوابة العظيمة لألعن وأضرب بالسوط ويبصق علي كل الذين أعبر بهم في طريقي إلى الأسر أو الموت، فهل يرضيك أن يجري هذا لأور وشعب أور؟ هل يرضيك أن تخرب مدينتي وتهدم أسوارها وييتم أطفالها ويغسل البرابرة أسلحتهم بدماء أبنائها وبناتها؟ هل يرضيك أن تقتلع أسس بيوتنا وجذور أشجارنا ونحرم من بذورنا، هل يرضيك أن تؤخذ الزوجة من زوجها، ويذبح الرضيع على حجر أمه ومرضعته؟

يا إنليل تكلم!

قل كلمتك! تكلم!

هل هذا هو إعصارك،

رعدك، برقك، والطوفان؟

هل صدقت رؤياي وحط علينا الهول؟

أرجوك تكلم!

قل يا ننجال،

بل هي وهم.

أو هي أضغاث الأحلام.

يا إنليل تكلم،

لا تتركني في هذا الصمت.

حول وجهك عني،

انزع ملكي،

أو عاقبني بالموت،

لكن لا تسكت عني،

لا تتركني في هذا الصمت،

لا تتركني في هذا الصمت!

5 (فجر أزرق جاف، في الأفق لمعان ينبئ عن وهج نهار شديد القيظ. ننجال تقف تحت «البوابة العظيمة» في أطراف أور. تستند إلى جدار وتحدث نفسها بينما تظهر أشباح رجال ونساء وصبية وأطفال يفدون إلى الساحة من كل جانب دون أن تشعر بهم.)

ننجال :

آه يا ننجال!

في صدرك تتصارع نفسان؛

واحدة تدعوك: اذهبي للبعيد البعيد،

هناك خلف الأفق ووراء الحدود،

ولا تفكري يا ننجال أبدا أن تعودي!

والأخرى تهتف بك: بل تبقين يا ننجال في أور،

تبقين لتواجهي الشر المستطير،

وتقضي على سارق الأرملة واليتيم والضعيف والفقير،

والظالم والكاذب والنمام والمغرور!

آه يا ننجال!

تحت قدميك يمتد طريقان،

تضطرب وتتعثر تحتهما خطوتان:

تريد إحداهما أن تأخذك إلى أعدائك،

في «أوما» أو «أكد» أو «عيلام»،

وهناك تصرخين أمام عرش الملوك القساة:

ساعدوني فقد عجزت عن حكم البلاد،

سقط الميزان من يدي وفي الدم والوحل والتراب،

مرغه السفلة والجهلة والأنذال والأوغاد !

آه يا ننجال!

في حلقك يحتبس ويتقابل صوتان؛

أحدهما يعول وينوح: سقطت أور!

سقطت أور ولا أمل هناك ولا نور!

والآخر ينذر ويحذر ويقول: لا، لم تسقط أور.

ولن تسقط أور،

لن يهدم هذا السور،

ولن تقتلع من الأرض جذور.

آه يا ننجال!

عندما حضرت إلى هذه الساحة كان الليل قد بدأ يغطي أور بستاره الكئيب. خيل إليك أن الرؤيا تأخذك إلى الماضي وتطوق حاضرك المختنق، ثم تطير بك على جناحي نسر أسود إلى الغد المجهول. ورأيت نفسك في الماضي عندما كان موكبك يبدأ من هذه البوابة العظيمة، ليعبر الساحة تحت الأقواس المزينة بالرياحين وباقات الزهور، ووسط الهتافات والدعوات بالنصر والبشر والرخاء ليمر بشوارع وبيوت أور. كان مهرجان الاحتفال يبعث الأرض والخصب هو مهرجان ملكي المتجدد وعدالتي الساهرة بالليل والنهار. وتذكرت الميزان المنصوب في الساحة، وجثث الأشرار المشنوقين على الأسوار والأعمدة والأشجار، والكتبة المشغولين بوسم ذنوبهم على جباههم، وتدلية مسروقاتهم وآثار جرائمهم وبقايا أسلحتهم من أقواس البوابة وأركانها، ثم تذكرت خاتمة الحفل وذروته في معبد إنليل، وأنا أحمل الشاة السمينة والحمل الوديع على صدري وأقدمه لكبير الكهنة والحجاب ليسرع بتقديمه مع السكائب والقرابين. كانت الرءوس السود تطرق رهبة أمام الميزان، والقلوب تخشع إجلالا للناموس، والسيئون والأشرار يرتجفون لمرأى التاج والصولجان.

آه يا ننجال!

وماذا رأيت اليوم وأنت تقطعين ميادين وطرقات أور؟ ماذا قلت للتائهين الذين وجدتهم في هذه الساحة من جائعين وضائعين وعاجزين: يا أبنائي، لم تسيرون في الليل الأعمى كأنكم لا تبصرون؟! - اسألي أور؛ فقد ضيعتنا أور! - يا أرباب الحرف، لماذا تقفون هنا ولا تعملون؟ - أصبحت حرفتنا الوحيدة هي التسول في الطريق! - هل يتسول من يتقن عمله؟ - لا يتسول إلا من يتقن عمله؛ ما دامت صنعته لا تملأ جوفه، ما دام الإنسي والشرطي والمشرف والناظر والنبيل والكبير يسرقون، ما دام الإتقان يجر عليه الحسد والهوان. - وممن تتسولون والكل جائع وفقير؟ - ممن أجاعنا وأفقرنا! - من تقصدون ؟ - قد يتعطف علينا موكب الإنسي العابر ببعض الفضلات، قد يلقي الكهنة من فوق جدار المعبد بنفايات القربان، وأخيرا ... - أخيرا؟ - قد يأتي الحل على أيديهم! - أيدي من؟

ويقهقه العاطلون والمتسكعون والعجزة المكتئبون والمشلولون والمجدورون والمجذومون الذين يتجولون في الساحة أو ينتظرون.

ويقول واحد منهم: ألم تعرفي بعد؟ - ألم تسمعي؟ - ألم تشعري؟ - ماذا أعرف أو أسمع؟ وبماذا أشعر؟

وتعلو ضحكاتهم وهم يسعلون ويبصقون: البرابرة قادمون!

البرابرة قادمون!

وتدور الفكرة في رأسي وتدور. يوشك أن يخرج من حلقي الصوت الصارخ ويقول: أنا ننجال ملكتكم، وملكة أور، ضائعة وسط الساحات،

وتائهة بين الدور،

وأدور أدور أدور؛

كأني قطعة صلصال،

في يد فخار مخمور،

من يحضر ثوبي الملكي،

وسيفي المشهور؟

من يضع التاج على رأس

أثقله الحزن،

فسقط كالطير الهالك،

في شبكة قدر مستور!

قدر ينذر بالويل القادم،

والخطر الداهم كالديجور!

يا أبناء أور وبنات أور! ها أنا أتقدمكم إلى البوابة العظيمة. أجلس على كرسي الملك وأضع التاج على رأسي، أجلس منتظرة وفي يدي مفتاح المدينة؛ هل هم قادمون؟ نعم. لا بد أنهم قادمون؛ من الجبال الشمالية كالجراد زاحفون. وعندما تبدو جيوشهم من بعيد وهي تثير سحب الغبار والدمار الزاحف على أور، سأقول في نفسي كما تقولون: آه! إنهم قادمون، إنهم قادمون. ربما يكون حضورهم هو أحد الحلول.

وتمر أمامك المرأة المثقلة بحمل السنين والأحزان كأنها نخلة عجفاء، ويتمدد صوتها القاتم ويتلوى كحبل يلتف عليك:

يا من تضعين التاج على رأسك،

وفي يديك السيف والصولجان،

اخلعي التاج والمجد والشارة والوسام،

واهدمي خيمة الملك والأبهة والسلطان؛

فالبرابرة على وشك الوصول،

البرابرة على وشك الوصول!

يا من تقود عربتك المطهمة بأربعة حمير،

وتجد لتصل بحمولتك إلى بيتك القريب،

ابحث عن جدار تأوي إليه واترك العربة والحمير؛

فالبرابرة في الطريق، وهم على وشك الوصول!

يا من تقف على عتبة الحياة وتنظر للبعيد البعيد،

فترى الظلام وراءك وأمامك،

ولا شيء غير الحاضر المنكود والغد الموءود،

تعال إلى البوابة العظيمة؛

لتكون في استقبال المواكب والحشود؛

فالبرابرة - كما سمعت - على وشك الوصول!

والبرابرة - كما علمت - هم أحد الحلول!

آه يا ننجال!

لكن النفس الأخرى تقفز في الصدر كوحش مسعور. تثبت وتتحدى وتثور، والقدم الأخرى تقف وتتصلب كالحجر الراسخ في فتحة نفق مهجور.

والصوت الآخر يرتفع ويزعق، ينذر ويحذر، يشكو ويقول:

أيتها الملكة التي هدمت مدينتها، كيف تقدرين الآن على البقاء؟

أيتها المرأة التي هلكت بلادها، كيف أبقى عليك قلبك؟

بعد أن هدمت مدينتك، كيف تقدرين على البقاء؟

وبعد أن دمر بيتك، كيف أبقى عليك قلبك؟

ذوو الرءوس السود تحول غناؤهم إلى بكاء،

حقولهم وبساتينهم صارت أرضا جرداء،

مدينتك التي كانت مدينة الخير والصلاح أصبحت خرائب!

بيتك الذي كان بيت العدل سلم للمغول!

كيف أبقى عليك قلبك؟

كيف تقدرين على البقاء؟

الخادم لم يعد لك الآنية المقدسة،

عندما حلت أعيادك لم يحتفلوا بالأعياد على طريقك الذي أعد للمواكب والعربات تنمو الأشواك،

وتشكو العجوز المثقلة بالأحزان ويئن الأعمى المتجدد العناء.

آه! كيف أبقى عليك قلبك،

كيف تقدرين الآن على البقاء؟

ننجال يا مليكتي، مدينتك تنتحب بين يدي أمها،

كطفل يتيم في شارع خرب، تبحث عنك أور،

والبيت الصالح المشيد بالآجر يمد يده إليك،

كرجل فقد كل شيء وهو يقول:

إلى أين تتركينني، كيف أبقى عليك قلبك؟

غادرت البيت يا مليكتي، غادرت المدينة،

خرجت إلى الساحات والطرقات ككاهن طرده إلهه،

وراح يمشي تائها في العراء،

كيف طاوعك قلبك أن تقفي عند البوابة العظيمة وتخاصمي المدينة؟

كيف تقدرين على الجلوس هناك في انتظار البرابرة القادمين؟

هل يرضيك أن تذبح الأرملة واليتيم والضعيف والفقير؟

هل يرضيك أن يخطفوا الزوجة من زوجها والابنة من أبيها؟

ننجال أيتها الأم والمليكة،

عودي كثور لإسطبلك،

كشاة لحظيرتك،

كطفل صغير لحجرة نومك.

أيتها العذراء، عودي إلى بيتك!

يا راعية العدل، عودي إلى بيتك وارفعي الميزان.

وفجأة يا ننجال وأنت غارقة في رؤياك،

فجأة وأنت تنتظرين البرابرة وزحف الإعصار والطوفان،

فجأة يجلجل صوت صارخ كأنه صوت إلهك إنليل:

طاردي السيئين والأشرار!

طهري أور من اللصوص والأوغاد! عودي أيتها الشاردة إلى قصرك!

عودي أيتها العذراء إلى بيتك!

ورأيت جموعا تتزاحم مقتربة كالأمواج الهادرة. وعندما اقتربت من البوابة العظيمة لمحت على رأسها وجها أعرفه. كان هو وجه مرضعتي ومربيتي العجوز. أعرف هذا الوجه الطيب الحبيب، بل أوشك في همي وحزني ألا أعرف سواه أو أثق بسواه. لكن ماذا تحمل في يدها المرتفعة فوق زحام الحشود كالعلم الخفاق؟ كان في يدها السيف والتاج والصولجان. تلمع في وهج الشمس الساطعة كأنها شموس وكواكب صغيرة. وتردد الصياح الحاد ودوى كالرعود.

ننجال! عودي إلى مدينتك،

مليكتي! عودي إلى أور،

إن كان اللصوص والأوغاد في كل مكان،

إن كان هذا هو غضب إنليل،

ونذيره بالسيل الماحق والطوفان،

فها هو صوت إنليل راعي العدل والأمانة والأمان،

يرتفع من قلب اليتيم الفقير والعامل والزارع والكاتب المهان!

يعلو في أذنيك ويعلو ويصيح:

عودي يا ننجال!

عودي يا ننجال!

باسم الحقل وباسم السنبلة الخضراء،

باسم المحراث وباسم المركب والمجداف،

باسم الأشجار وباسم الأسوار،

باسم الماضين وباسم الآتين،

عودي يا ننجال إلى أور، وردي أور إلى أور،

خذيها من فك الأفعى والتنين،

وأعطيها للطفل الضاحك للمستقبل،

ولكل شريف وأمين عودي يا ننجال!

ها هو سيفك، تاجك،

مدي يدك ليضع الشعب الحكمة فيها والميزان!

عودي يا ننجال إلى أور،

قولي معنا: لن تسقط أور!

لا لا لا، لن تسقط أور!

قمت مذعورة من مكاني كأني حيوان ضرب على رأسه أو قطع لسانه بسيف المفاجأة. زاغت عيناي ولم أفهم شيئا مما يدور حولي، وانحسرت ظلمات الرؤيا شيئا فشيئا وتسللت أشعة الضوء إلى صدري ورأسي وعيني، ففتحتهما على الطوفان الهادر من حولي، والإعصار المدوي في سمعي.

وامتدت يداي إلى يد مربيتي لتستقبل الحب ومعه التاج والسيف والصولجان والميزان. وقبل أن ينفتح فمي ويخرج منه الصوت الغاضب كالإعصار شعرت بجسدي محمولا فوق الطوفان.

شكرا يا إنليل! هذا هو إعصارك والطوفان. ولا بد أنني قد نطقت وصحت وصرخت؛ إذ راح الصوت يهدر ويزمجر ويزحف مع الموكب الزاحف على أور:

لا لا لا، لن تسقط أور!

أبدا لن تسقط أور !

لن تسقط أور!

صفحه نامشخص