قال حسن سليم معترضا، وكان يرمقه طيلة الحديث بنظرة استخفاف داراها بتحفظه الأرستقراطي: ليست الوظيفة وسيلة إلى الرزق دائما. إني مثلا في غنى عن السعي إلى الرزق، ولكن يهمني بلا شك أن أشغل وظيفة سامية، فإنه يجب على الإنسان أن يعمل، وأن العمل السامي هدف يراد لذاته.
وقال إسماعيل لطيف، مصدقا على قول حسن: هذا حق، الأعمال القضائية والدبلوماسية وظائف يتمناها أغنى الأغنياء. (ثم ملتفتا إلى حسين شداد): لم لا تختار لنفسك وظيفة من هذه الوظائف وهي في حدود طاقتك.
وقال كمال مخاطبا حسين أيضا: السلك السياسي حقيق بأن يهيئ لك العمل السامي والسياحي معا.
ولكن حسن سليم قال بلهجة ذات معنى: إنه باب ضيق.
فقال حسين شداد: للسلك السياسي مزايا رائعة بلا ريب، إلا أنه في الغالب وظيفة شرفية فلا يتعارض كثيرا مع رغبتي عن عبودية العمل، وهو سياحة وفراغ يتيحان لي ما أحب من الحياة الروحية والجمالية، ولكنني لا أظنني بالغه، لا لأنه باب ضيق كما قال حسن، ولكن لأني أشك في أني سأواصل التعليم النظامي حتى نهايته.
إسماعيل لطيف، وهو يضحك متخابثا: يغلب على ظني أنك تريد فرنسا لأمور لا شأن لها بالثقافة، وحسنا تفعل.
ضحك حسين شداد وهو يهز رأسه سلبا، ثم قال: كلا، أنت تفكر بأهوائك، إن لرغبتي عن التعليم المدرسي أسبابا أخرى؛ أولها : أنني غير مكترث لدراسة القانون، ثانيا: أنه لا توجد مدرسة يمكن أن تمدني بما أريد الإلمام به من شتى المعارف والفنون، كالمسرح، والتصوير، والموسيقى، والفلسفة. ما من مدرسة إلا وستشحن رأسك بالتراب كي تعثر فيه - إن عثرت - على ذرات من التبر، في باريس يتاح لك أن تشهد محاضرات في شتى الفنون والمعارف دون تقيد بنظام أو امتحان، إلى ما يتهيأ لك من الحياة السامية الجميلة.
ثم مستطردا بصوت خافت، وكأنه يخاطب نفسه: وربما تزوجت هناك كي أقضي العمر سائحا في عالمي الواقع والخيال.
لم يبد على وجه حسن سليم أنه يولي الحديث اهتماما جديا، أما إسماعيل لطيف فرفع حاجبيه الكثيفين، تاركا عينيه تفحصان عما يضطرب في صدره من مكر وسخرية. كمال وحده الذي بدا متأثرا متحمسا، إنه يستشرف نفس الآمال مع شيء من تعديل لا يمس الجوهر، لا تهمه السياحة ولا الزواج في فرنسا، ولكن من له بهذه المعارف التي لا تتقيد بنظام أو امتحان؟ إنها أجدى بلا جدال من التراب الذي سيشحن به رأسه في المعلمين كي يفوز في النهاية بذرات من التبر، باريس؟ غدت حلما جميلا منذ علم بأنها احتضنت عهدا غضا من عمر معبودته، لا تزال تدعو حسين بسحرها، وتفتن خياله هو بشتى وعودها، كيف الشفاء من لوعة الآمال؟
قال بعد تردد وإشفاق: يخيل إلي أن أقرب المدارس في مصر إلى تحقيق ولو جزء يسير من رغبتك هي المعلمين العليا.
صفحه نامشخص