فقالت كالمتهكمة: ربنا يصلح الحال.
وقامت مرة أخرى قبل أن تتم جملتها، فاتجهت إلى النافذة المطلة على العطفة الجانبية، وفتحتها لتفتح لنور الأصيل بعد أن بات باب المشربية غير كاف لإضاءة الغرفة، وجد نفسه على رغمه وحذره يسترق النظر إلى كنزها النفيس وهو يطالعه كالقبة. رآها وهي تعتمد على الكنبة بركبتها ثم تميل على حافة النافذة لتشبك مصراعيها فرأى منظرا عجبا ترك في نفسه أثرا داميا، تساءل وهو يشعر بجفاف حلقه: لم لم تدع الخادم لتفتح النافذة؟ كيف ارتضت أن تعرض أمام ناظريه - اللذين باغتتهما منذ قليل في حالة «تلبس» - هذا المنظر الذي لا يخفى عنها مغزاه؟ لم وكيف؟ وكيف ولم؟ كان فيما يتصل بالنساء مرهف الحس سيئ الظن، فلاح له شيء كالشك يتردد على عتبة إدراكه لا يريد أن يدخل، ولا يريد أن يختفي، ولكنه بادر فأغمض عينيه متأثرا بخطورة الموقف، إما أن يكون مجنونا، وإما أن تكون - هي - المجنونة، أو لا هذا ولا ذاك؟ من له بمن ينتشله من حيرته! استقام جسمها المائل، فوقفت، ثم تحولت عن النافذة متجهة إلى مجلسها، فبادر إلى رفع عينيه صوب البسملة - قبل تحولها - متظاهرا بالاستغراق في تفحصها، ولم يلفت رأسه نحوها حتى صدرت عن الكنبة طقطقة تنبئ بجلوسها، وعند ذاك التقت عيناهما، فرأى في عينيها نظرة باسمة ماكرة أشعرته بأنه لم تخف عنها خافية، وكأنها تقول له بأفصح لسان «رأيتك.» لبث حينا مضطرب النفس والخاطر، ولم يكن على بينة من شيء فخاف أن يكون ظلمها أو أن يكون عرض نفسه أمامها للاتهام، وبدا له أنه سيحاسب على كل حركة تبدر منه، وأن أي هفوة قد تنقلب فضيحة. - ما زال الجو مائلا إلى الحرارة والرطوبة.
جاء صوتها هادئا طبيعيا ودل - إلى ذلك - على رغبتها في إزاحة الصمت، فقال بارتياح: أجل إنه كذلك.
عاودته الطمأنينة، غير أنه ما لبث أن تخايل لعينيه المنظر الذي رآه عند النافذة، وجد نفسه على رغمه يجتره ويتيه في جاذبيته، ويتمنى لو كان عثر على مثله في إحدى مغامراته، لو كان لمريم مثل هذا الجسم، ألا في مثله فليتنافس المتنافسون، ولعلها ظنته - لصمته - لا يزال مشغولا بما أثارته من حديث خلافه مع امرأة أبيه، فقالت فيما يشبه الدعابة: لا تشغل بالك، لا شيء في هذه الدنيا يستحق شغلة البال.
ثم لوحت بيديها ورأسها - واهتز جسمها فيما بين ذلك اهتزازة خاصة - كأنما لتحثه على الاستهانة بالهموم، فابتسم مطاوعا وهو يغمغم: «نطقت بالحق.» غير أنه كان يبذل قصاراه ليملك نفسه، أجل؛ فقد حدث أمر جلل، لم يكن في ظاهره إلا تلك الحركة الشاملة التي أرادت بها الإفصاح عن الاستهانة وحثه عليها، إلا أنها كانت حركة بالغة الخطورة من حيث دلالتها على الخلاعة والدلال والاستهتار، وقد ندت عنها في لحظة نسيان فخرجت بها عما التزمته طوال الجلسة من تأدب واحتشام، وكشفت عن خبيئة طبيعتها وهي لا تدري، أو وهي تدري؟ لا يستطيع أن يقطع بهذا أو بذاك، ولكنه لم يعد به شك في أنه حيال امرأة جديرة حقا بأن تكون أم مريم ذات التاريخ القديم، أبى أن يتراجع عن رأيه مهما يكن من أمر، فهذه الحركة الراقصة المغناج لا يمكن أن تصدر عن سيدة مصونة! ولم يكن إزعاجه إلا لحظة عابرة، فسرعان ما حل محله إحساس بسرور شهواني ماكر، وراح يتذكر أين ومتى رأى هذه الحركة من قبل، على زنوبة؟ جليلة ليلة اقتحمت على أبيه المنظرة ببيت آل شوكت؟ آه ... هذه هي، وخيل إليه أنها رغم سنها أشهى من مريم وألذ، وغلبته فطرته فحدثته نفسه بأن يجس النبض، وألا يقف إن أمكن عند حد، وشعر برغبة في الضحك من غرابة أفكاره، وبأنه سيسلك طريقا وعرا لم يطرق من قبل، ولكنه لم يعتد يوما أن يزجر النفس عن هوى ... أين يتأدى به هذا المسلك؟ هل يمكن أن يعدل عن مريم إلى أمها؟ كلا، إنه لا يضمر ذلك قط. ولكن تصوروا كلبا قد عثر على عظمة وهو في طريقه إلى المطبخ، فهل يتعفف؟ ... بيد أنها مجرد أفكار وتخيلات وفروض، فلأنتظر! ... وتبادلا ابتسامة في الصمت الذي عاد فسحب ذيله بينهما، أما ابتسامتها فكانت فيما بدا تحية مضيف لضيف، وأما ابتسامته فقد انفغمت على فم حائر بهمسات الاعتداء المختنق. - نورت بيتنا يا ياسين أفندي. - يا ستي بيتك لا ينقصه النور، أنت تنورين البلد وما فيها.
ضحكت ضحكة مالت برأسها إلى الوراء، وهي تتمتم: الله يكرمك يا ياسين أفندي.
كان ينبغي أن يعود إلى الحديث عن طلبه أو أن يستأذن في الانصراف على أن يسمي موعدا آخر لمواصلة الحديث، ولكنه لم يعد إلى الحديث، ولم يستأذن في الانصراف ... بل راح يحدجها بنظرات ريبة تطول حينا وتقصر حينا دون انقطاع وفي صمت مريب. النظرات معان لا تخفى على ذي عينين، لا بد من إيصال أفكاره إليها بالنظرات وحدها حتى يرى رد الفعل ... اعرف لقدمك قبل الخطو موضعها وليسقط اللنبي، خذي هذه النظرة النارية وخبريني إن كنت صادقة عن أي مجنون يسعه أن يتجاهل سوء مقصدها أو يدعي براءتها؟ انظر ها هي ترفع عينيها وتخفضهما كالشاردة، وعلى حال بينة من الفهم المريب، تستطيع الآن أن تقول إن الفيضان وصل إلى أسوان وأنه لا مناص من فتح الخزان، وأنت تخطب إليها ابنتها؟ مجنون من لا يؤمن بالجنون بعد اليوم، أنت الآن أشهى شيء إلى نفسي، وليكن بعد ذلك الطوفان ... منظرك لا يوحي باليأس أبدا. - هل تقيم في قصر الشوق بمفردك؟ - نعم. - قلبي عندك.
جملة قد تصدر عن شيطان، وقد تصدر عن ملاك، ترى هل تتصنت مريم الآن وراء الباب؟ - أنت جربت الوحدة بنفسك في بيتك هذا، إنها شيء لا يحتمل. - حقا لا يحتمل.
وفجأة امتدت يدها إلى خمارها فنزعته من حول رأسها وعنقها وهي تقول كالمعتذرة: «لا تؤاخذني الدنيا حارة!» فبدا رأسها في منديل برتقالي وأسفر عنقها الوضيء، رنا إلى عنقها مليا في قلق متزايد، ثم لحظ الباب كالمتسائل عمن عسى أن يكون رابضا وراءه، أغيثوا الذي جاء يخطب البنت فوقع في الأم، وقال ردا على اعتذارها: خذي راحتك، أنت في بيتك، ولا غريب في البيت. - ليت أن مريم كانت في البيت لأزف إليها الخبر!
خفق قلبه خفقة حادة كإشارة الهجوم، وتساءل: وأين هي؟ - عند جماعة من معارفنا في الدرب الأحمر.
صفحه نامشخص