ارتسم بين حاجبيها تقطيب التذكر وهي تمد نظرها إلى لا شيء، محركة سبابتها كأنما تحصي من في مخيلتها من الجيران، ثم قالت: إنك تحيرني يا ياسين، هلا تكلمت وأرحتني؟
قال وهو يبتسم ابتسامة شاحبة: جيراننا الأقربون. - من ...؟
ندت عنها في إنكار وانزعاج وهي تحملق في وجهه، فخفض رأسه وأطبق شفتيه متجهم الوجه، فعادت تقول بصوت متهدج، وهي تشير بإبهامها إلى الوراء: أولئك؟ مستحيل هل تعني ما تقول يا ياسين؟
فأجاب بالصمت المتجهم حتى زعقت: خبر أسود ... أولئك الذين شمتوا بنا في أجل مصاب؟
فلم يتمالك أن هتف بها: أستحلفك بالله ألا ترددي هذا القول، إنه وهم باطل، ولو اقتنع به قلبي لحظة واحدة. - طبعا تدافع عنهم، ولكنه دفاع لا ينطلي على أحد، لا تتعب نفسك في إقناعي بالمحال، يا ربي! أي ضرورة تدعو إلى هذه الفضيحة؟ كلهم نقائص وعيوب، فهل من فضيلة واحدة نبرر هذا الاختيار الجائر؟ قلت إنك نلت موافقة أبيك، الرجل لا يعلم عن هذه الأمور شيئا، قل إنك خدعته.
قال ياسين بتوسل: هدئي روعك، ليس أكره عندي من إغضابك، هدئي روعك ولنتكلم في هدوء. - كيف أسمع لك وأنا أتلقى منك هذه اللطمة القاسية؟ قل إن الأمر لا يعدو أن يكون مزاحا سخيفا، مريم؟ الفتاة المستهترة التي تعرف من أمرها ما نعرف جميعا؟ هل نسيت تاريخها الفاضح؟ هل نسيت حقا؟ أتريد أن تجيء بهذه الفتاة إلى بيتنا؟
قال وهو يزفر كأنما يطرد من صدره الكرب والاضطراب: لم أقل هذا قط، هذا أمر لا أهمية له، المهم عندي حقا أن تنظري إلى المسألة كلها نظرة جديدة خالية من التحامل. - أي تحامل يا هذا؟ هل ادعيت عليها بالباطل؟ تقول إن أباك وافق، فهل أخبرته عن عبثها الفاضح مع الجنود الإنجليز؟ ماذا جرى لأولاد الناس الطيبين يا ربي؟ - هدئى روعك، دعينا نتحدث في هدوء، ماذا يجدي هذا الهياج؟
صاحت بحدة لم تكن من طباعها في الزمن الأول: إن روعي لا يمكن أن يهدأ ما دام الأمر يتعلق بالكرامة.
ثم بصوت باك: وأنت تسيء إلى ذكرى أخيك الغالي.
ياسين وهو يزدرد ريقه: أخي؟ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، إن هذا الأمر لا يمس ذكراه في شيء، صدقيني فإني أدرى بما أقول، لا تقلقي مرقده. - لست أنا التي أقلق مرقده، إنما يقلق مرقده حقا أخوه الذي يتطلع إلى هذه الفتاة. أنت تعلم هذا يا ياسين. ولا تستطيع أن تنكره.
صفحه نامشخص