كان الليل قد جثم في مجثمه، وغشيت الظلمة كل شيء إلا أضواء متباعدة تطل من نوافذ العوامات والذهبيات التي ينتظمها الشاطئان من جسر الزمالك فهابطا، وأنوار خافتة لاحت عند موقع القرية في نهاية الطريق كالسحابة الناضجة بوهج الشمس في سماء ملبدة بالغيوم الدكن.
كان السيد أحمد يجيء إلى العوامة للمرة الأولى على رغم اكتراء محمد عفت لها منذ أربع سنوات - ذلك أن صاحبها خصصها لمجالس الغرام، وقد حرمها السيد أحمد على نفسه منذ مصرع فهمي - فتقدمه علي عبد الرحيم ليدله على المعبر، حتى إذا قارب السلم، قال محذرا: السلم ضيق ودرجاته مرتفعة ولا درابزين له. ضع قدمك على كتفي وانزل على مهل.
هبطا بحذر شديد، وخرير الماء المتلاطم على الشاطئ ومقدم العوامة يداعب آذانهما، وقد فغمت أنفيهما رائحة نباتية مازجها عرف الطمي الذي جاد به الفيضان في ذلك الوقت من أول سبتمبر، قال علي عبد الرحيم وهو يتحسس زر الجرس على جدار المدخل: هذه ليلة تاريخية في حياتك وحياتنا، ينبغي أن نطلق عليها اسما مناسبا احتفالا بها، ليلة رجوع الشيخ؟ ما رأيك؟
قال السيد أحمد، وهو يشد قبضته على منكبه: لكنني لست شيخا، الشيخ الحقيقي كان أبوك.
علي عبد الرحيم وهو يضحك: سترى الآن وجوها لم ترها منذ خمس سنوات.
قال السيد كالمتردد: لا يعني هذا أنني أغير من سلوكي أو أحيد عن خطتي (ثم بعد لحظة سكوت) قد ... قد ... - تصور كلبا يعد بألا يقرب اللحم إذا ترك في المطبخ. - الكلب الحقيقي كان أبوك يا ابن الكلب.
رن الجرس، فتح الباب بعد نصف دقيقة عن وجه نوبي عجوز، تنحى جانبا وهو يرفع يديه إلى رأسه تحية للقادمين، فدخل الرجلان ومالا إلى باب على يسار الداخل فجازاه إلى دهليز قصير مضاء بمصباح كهربائي يتدلى من السقف، وقد حلي جداراه المتقابلان بمرآتين قام تحت كل منهما مقعد جلدي كبير وخوان، وكان في نهاية الدهليز المواجه لمدخله باب آخر موارب وشى بأصوات السمار التي اهتز لها صدر أحمد عبد الجواد، فدفعه علي عبد الرحيم ودخل، فتبعه السيد. ولكنه ما كاد يعبر عتبته حتى وجد نفسه حيال الحاضرين وهم وقوف، وقد أقبلوا نحوه مرحبين مهللين يكاد يطفو البشر من وجوههم. وكان محمد عفت أسرعهم إليه فعانقه، وهو يقول: طلع البدر علينا ...
ثم عانقه إبراهيم الفار، قائلا: أتاني زماني بما أرتضي.
وتنحى الرجال جانبا، فرأى جليلة، وزبيدة، وامرأة ثالثة وقفت متأخرة عنهما خطوتين ما لبث أن تذكر فيها زنوبة العوادة، آه ... الماضي كله قد جمع في إطار واحد، وتطلقت أساريره وإن بدا عليه شيء من الارتباك، ولكن جليلة ضحكت ضحكة طويلة، ثم فتحت ذراعيها وعانقته، وهي تقول بنبرات غنائية: كنت فين يا حلو غايب.
ولما أطلقته رأى زبيدة على بعد ذراع كالمترددة وإن أضاء وجهها نور الترحيب والسرور، فمد نحوها ذراعه فشدت عليها، وعند ذاك زوت ما بين حاجبيها المزجوجين في عتاب، قائلة بلهجة لم تخل من تهكم: من بعد تلتاشر سنة!
صفحه نامشخص