مد الرجل أذنه، فصاح ياسين بنفخة آمرة: إلى قصر الشوق!
طق، طق، طق، طق، تخوض الظلمات ولا أنيس إلا النجوم، في الأفق قلق يلوح، ثم لا يلبث أن يغرق في بحر النسيان كالذكرى المستعصية؛ ذلك أن الإرادة ذائبة في كأس من الخمر، وإذا رفيقة الهناء تساءلت بلسان ملعثم عن: أين يقصد في قصر الشوق؟ أجاب: إلى بيتي الذي ورثته عن أمي، قضت مقادير بأن تعيش فيه للغرام وأن توقفه بعد مماتها على الغرام، استقبل بقلب شيق أم مريم ومريم، والليلة يحتضن سيدة الليالي الخوالي، وزوجك أيها السكران؟ في النوم مغرقة. أليس لكل شيء حساب؟ وأنت مع رجل لا يعرف الخوف قلبه، اقطفي من لآلئ النجوم ما ترصعين به جبينك، وغني في أذني وحدي: هاتيلي حبي يا نينة الليلة. - وأين أقضي بقية الليل؟ - سأوصلك إلى حيث تريدين. - لن تستطيع أن توصل قشة. - باريس في الوجه البحري. - لولا أني أخافه! - من هو؟
بصوت منكسر وهي تلقي برأسها إلى الوراء: من يدريني؟ نسيت.
غشي الجمالية ظلام دامس، حتى القهوة أغلقت أبوابها. وقفت العربة عند مدخل قصر الشوق فغادرها ياسين وهو يتجشأ، وتبعته زنوبة معتمدة على ذراعه، ثم مضيا معا في حذر لم يغن عن الترنح، يتعقبهما سعال الحوذي، وأطيط حذاء الخفير الذي مر بالعربة وهي تدور مستطلعا. وقالت له: إن الطريق وعر. فقال لها: لكن الدار أمان. وقال لها أيضا: لا تشغلي البال. وعبثا حاولت أن تذكره بأن زوجه في الشقة التي إليها يسعيان، فضلا عن أنها كانت تحاول تذكيره وهي تبتسم في الظلام ابتسامة بلهاء، وكادت قدمها تعثر مرتين وهي ترقى السلم، حتى وقفا أمام الشقة وهما يلهثان. بعثت رهبة الموقف في شعورهما المبعثر يقظة عابرة حاولت أن تلم شتاته بقبضة وانية، فأدار المفتاح في القفل بحذر، ثم دفع الباب برفق بالغ، وبحث في الظلام عن أذن زنوبة حتى عثر عليها، فمال نحوها وهمس أن تخلع الحذاء، وفعل مثلها، ثم تقدمها خطوة فوضع راحتها على كتفه، ثم مضى إلى حجرة الاستقبال لقاء المدخل، ثم دفع بابها وانسل إلى الداخل وهي في أثره. تنهدا معا بارتياح، ورد الباب، ثم قادها إلى الكنبة وجلسا معا. قالت متضايقة: الظلام شديد، أنا لا أحب الظلام.
فقال وهو يضع الحذاءين تحت الكنبة: ستألفينه بعد قليل. - بدأ مخي يدور. - الآن فقط؟!
وقام فجأة دون أن يلقي إلى ما أجابت به بالا وهو يهمس في ارتياع: لم أغلق الباب الخارجي. - ومد يده ليخلع طربوشه فهتف: نسيت الطربوش أيضا! في العربة يا ترى أم في توفابيان؟ - الطربوش في داهية، أغلق الباب يا عمر ...!
تسلل مرة أخرى إلى الصالة، ثم إلى الباب الخارجي فأغلقه بحذر شديد، وفي طريق عودته خطرت له فكرة مغرية، فاتجه نحو الكانصول وهو يمد يده أمامه رائدة لتقيه الاصطدام بكرسي السفرة، ثم عاد إلى حجرة الاستقبال قابضا على زجاجة كونياك مملوءة حتى نصفها. وضع الزجاجة في حجرها وهو يقول: جئتك بدواء لكل شيء.
فتحسست يداها الزجاجة، وقالت: خمر؟ ... حسبك! أتريد أن نطفح؟ - جرعة نسترد بها أنفاسنا بعد هذا الجهد!
شرب حتى ظن أنه قادر على كل شيء، وأن الجنون حال تستطاب، وهاج البحر فعلا مع موجه وسفل، ثم دار في دوامة ما لها من قرار، وسلت في أركان الحجرة ألسنة تنطق في الظلمات لغوا وهذرا، وتند عنها ضحكات معربدة، في ضجة كضوضاء السوق حتى الغناء جرى في أثيرها، وهوت الزجاجة على الأرض فأحدثت صوتا كالنذير، ولكن كان أمامه شوط عليه أن يقطعه ولو في بحر من العرق. طال الوقت أم قصر فليس الزمان في حسبانه؛ لذلك تحرك الظلام وشاب إهابه، والجفون المغلقة عنه غافلة، وكما يستيقظ الحالم السعيد وهو يمد اليد ليقطف لذة جديدة استيقظ هو على صوت وحركة، فتح عينيه فرأى نورا وظلا يتراقص على الجدران، وثنى رقبته فلمح عند الباب مريم قابضة على مصباح قد جلا من وجهها ملامح عابسة، وعينين تشعان شرر الغضب. تبودل بين المنطرحين على الكنبة والواقفة عند الباب نظرات طويلة غريبة، زائغة بالذهول من ناحية، مستعرة بالغضب من الناحية الأخرى، ثم لم يعد الصمت مما يستطاع. أعربت زنوبة عن قلقها بأن فتحت فاها لتتكلم ولكنها لم تقل شيئا، ثم غلبها بغتة ضحك طارئ فأغرقت فيه حتى اضطرت إلى إخفاء وجهها بكفيها. وإذا بياسين يصيح بها بلسان ثقيل: كفي عن الضحك! ... هذا بيت محترم!
وبدا أن مريم أرادت أن تتكلم، فلم يسعفها لسانها أو أعجزها الغضب، فقال لها ياسين ولم يكن يدري ماذا يقول: وجدت هذه «الست» في حالة سكر شديد، فجئت بها إلى هنا حتى تفيق.
صفحه نامشخص