فقال كمال مدفوعا بشعور الفخار الذي دب في قلبه، واستزادة من عطفهما: أجل فقدنا خير أسرتنا.
فعادت تسائله باهتمام: كان في الحقوق ... أليس كذلك؟ كم كان يكون عمره لو عاش حتى الآن؟ - كان يكون في الخامسة والعشرين ... (ثم بلهجة أسيفة) ... كان نابغة بكل معنى الكلمة.
فقال حسين، وهو يفرقع بأصبعيه: كان! ... هذه هي الوطنية، كيف تتعلق بها بعد ذلك؟
فقال كمال باسما: سوف نكون جميعا في خبر كان، ولكن شتان بين ميتة وميتة.
فرقع حسين بأصبعه مرة أخرى دون تعليق، يبدو أنه لا يرى في قوله معنى، ماذا أقحم حديث السياسة عليهم؟ لم يعد به ما يسر، شغل الشعب بعداواته الحزبية عن الإنجليز، سحقا لهذا كله، يخلق بمن يتنسم الفردوس ألا يكرب صدره بهموم الأرض، ولو إلى حين، أنت تمشي في معية عايدة في صحراء الهرم، تأمل هذه الحقيقة الرائعة، واهتف بها حتى تسمع بناة الهرم، معبود وعابده يسيران معا فوق الرمال، العابد من شدة الوله يكاد يذروه الهواء، والمعبود يتسلى بعد الحصى، لو كان مرض الحب معديا، ما باليت بآلامه، الهواء يهفو بأهداب فستانها، ويتخلل هالة شعرها، ويسري في أعماق صدرها ... ألا ما أسعد الهواء! أرواح العاشقين فوق الهرم تبارك القافلة، معجبة بالمعبود، راثية للعابد، مرددة بلسان الزمان: ليس أقوى من الموت إلا الهوى، تراها على بعد أشبار منك، ولكنها في الحق كالأفق تخاله منطبقا على الأرض، وهو في ذروة السماء يحلق ... كم منيت النفس بأن تمس في هذه الرحلة راحتها، ولكن يبدو أنك سترحل عن هذه الدنيا قبل أن تعرف مسها، لم لا تكون شجاعا فتهوي إلى انطباعة قدمها فوق الرمال فتلثمها؟ ... أو تأخذ منها حفنة فتجعلها حجابا يقي من آلام الحب في ليالي الفكر؟ وا أسفاه! كل الدلائل تشير إلى أنه لا اتصال بالمعبود إلا بالتراتيل أو الجنون، فرتل أو جن.
شعر باليد الصغيرة تجذب يده، فنظر إليها، فرفعت نحوه ذراعيها داعيه إياه إلى حملها، فانحنى فوقها ثم رفعها بين يديه، غير أن عايدة قالت معترضة: كلا، بدأ التعب يساورنا، فلنسترح قليلا.
على صخرة عند رأس المنحدر المفضي إلى أبي الهول جلسوا على نفس الترتيب الذي ساروا عليه، مد حسين ساقيه غارزا كعبيه في الرمال، جلس كمال واضعا رجلا على رجل ضاما بدور إلى جنبه، على حين قعدت عايدة إلى يسار أخيها فتناولت مشطها، وراحت تسرح شعرها وتربت خصلاته بأناملها.
وحانت من حسين نظرة إلى طربوش كمال، فسأله منتقدا: لماذا تلبس الطربوش في هذه الرحلة؟
فنزع كمال طربوشه ووضعه في حجره قائلا: ليس من المألوف عندي أن أسير بدونه.
فضحك حسين قائلا: إنك مثال طيب للرجل المحافظ.
صفحه نامشخص