وما يدري إلا والصوت العذب يجيء من الوراء قائلا: وبالاختصار فإن حسين يحبك كما تحبك بدور.
نفذت هذه الجملة المعطرة بالحب الملحنة بالصوت الملائكي في قلبه فطيرته نشوة وطربا، كالنغمة الساحرة التي تند فجأة في تضاعيف أغنية فوق المنتظر والمألوف والمتخيل من الأنغام، فتترك السامع بين العقل والجنون. المعبود يعبث بألفاظ الحب سادرا، يلقيها عليك غافلا عن أنه يلقي مغنسيوما على قلب يحترق، استرجع صداها لتستعيد رنين الحب في أوتار ثغره، والحب لحن قديم غير أنه يضحي جديدا عجبا في ترنيمة خالقة، يا إلهي! إنني أفنى من فرط السعادة، قال حسين معلقا على قول أخته: عايدة تترجم أفكاري بلغتها النسائية الخاصة.
انطلقت السيارة إلى السكاكيني فإلى شارع الملكة نازلي، ثم إلى شارع فؤاد الأول، ومنه مرقت إلى الزمالك في سرعة عدها كمال جنونية: في السماء غيم، ولكنا في حاجة إلى مزيد منه لنضمن نهارا سعيدا في سفح الهرم.
وعلا الصوت البديع وهو يخاطب بدور فيما بدا قائلا: انتظري حتى نصل إلى الهرم، وهنالك اجلسي معه كيفما يحلو لك.
فسألها حسين ضاحكا: ماذا تريد بدور؟ - تريد يا سيدي أن تجلس مع صاحبك!
صاحبك! لم لم تقولي «كمال»؟ هلا أسعدت الاسم بما لا يطمح إليه صاحبه؟ وخاطبه حسين قائلا: أمس سمعها بابا وهي تسألني: هل يجيء معنا أنكل كمال إلى الهرم؟ فسألني من يكون كمال؟ ولما أجبته سألها: «أتحبين أن تتزوجي أنكل كمال؟» فأجابته بكل بساطة «نعم!»
فالتفت كمال إلى الوراء، ولكنها تراجعت حتى التصقت بمسند المقعد، وأخفت وجهها في كتف أختها، فتزود كمال من الوجه البديع بنظرة خاطفة، ثم أعاد رأسه، وهو يقول بلهجة الرجاء: لعلها عند الجد لا تنسى كلمتها.
ولما بلغت السيارة طريق الجيزة ضاعف حسين من سرعتها فعلا أزيزها، وساد الصمت، رحب كمال بالصمت ليفرغ إلى نفسه، ويتملى سعادته. كان أمس حديث الأسرة فاختاره ربها زوجا للصغيرة، يا أغاريد الزهور والسعادة، احفظ عن ظهر قلب كل كلمة تقال ... املأ نفسك بعبير باريس، زود أذنك بالهديل والبغام. علك تعود إليها إذا عادت ليالي السهاد، كلمات المعبودة عاطلة عن حكمة الحكماء ودرر الأدباء، فما بالها تهزك حتى الأعماق، وفي فؤادك تفجر ينابيع السعادة! هذا الذي جعل السعادة سرا تتيه فيه العقول والأفهام، أيها المجدون اللاهثون وراء السعادة إني وجدتها في الكلمة الفارغة، والرطانة الغامضة، والصمت أيضا، وفي لا شيء. رباه ما أعظم هذه الأشجار الباسقة على الجانبين! تتعانق أعاليها فوق الطريق فتنتشر سماء من الخضرة اليانعة، وهذا النيل الجاري مكتسيا من وشي الشمس غلالة من اللآلئ، متى رأيت هذا الطريق آخر مرة؟ في رحلة إلى الهرم وأنا في السنة الثالثة، في كل رحلة عاهدت نفسي بالعودة إليه منفردا، وراءك تجلس من ترى بوحيها كل شيء جديدا جميلا، حتى مجرى الحياة الأثرية في الحي العتيق، هل لك أمنية فوق ما أنت فيه؟ ... نعم، أن تواصل السيارة انطلاقها على هذه الحال التي نحن عليها إلى الأبد، رباه، أهذا هو الجانب الذي طالما أعياك وأنت تتساءل عما تريد من هذا الحب؟ هبط عليك من وحي الساعة يكتنفه المحال، اسعد بالساعة المتاحة، ها هو الهرم يلوح من بعيد صغيرا، وعما قليل تقف عند قدميه كالنملة عند أصل الشجرة الفارعة. - نحن ذاهبون إلى زيارة قرافة جدنا الأول.
فقال ضاحكا: لنقرأ الفاتحة بالهيروغليفية.
فقال حسين ساخرا: وطن أجل مخلفاته قبور وجثث ... (وهو يشير صوب الهرم) انظر إلى الجهد الضائع.
صفحه نامشخص