الفصل الثاني والعشرون
على المقاعد الحجرية، في مرفأ القارب جلس فوزي مطرقا مفكرا، أيستطيع أن يصل؟! وكيف؟! أتصبح هناء ابنة سهير هانم ابنة أحمد باشا شكري لي ؟ أيمكن هذا؟ ولم لا؟ وإلا فما مجيئها إلي، وما اهتمامها بي، وحرصها على حديثي؟ نعم، ولكن أيمكن هذا؟ أنسيت من أنا؟ وكيف تلتقي بأمي وأبي؟ كيف؟ أبي! أبي ذلك الرجل الذي لم أعرف في يوم من الأيام نوع تفصيل الحلة التي يلبسها، ذلك الموظف الصغير، الصغير جدا بوزارة الأوقاف، والكبير ... الكبير جدا في العمر يصبح حما هناء، وأمي ... ماذا هي قائلة لها؟ أمي تصبح حماتها؟ أمي التي لم أسمعها يوما تتحدث إلا عن مهارتها في صنع الملوخية، كيف أصل بينها وبين هناء، وفي أي موضوع يمكن أن يدور الحديث بينهما، وكيف ستحس أمي بالراحة وهي تتحدث إلى هناء؟ وأبي ... نعم عودة إلى أبي ... ذلك الرجل الذي لا يزال كل بضعة أيام يدخل إلينا شاحب الوجه، مضطرب الحديث، راعش الأوصال، فنعرف أن رئيس القلم - نعم رئيس القلم فقط - قد استدعاه، وكلفه ببضعة أعمال، أبي هذا يصبح حماها؟ كيف سيحادثها؟ كيف سيكون الحال بينهما؟ كيف سيعاملها؟! ما شأني أنا بكيف سيعاملها، وكيف ستعامله، إنها ستصبح لي، هي بكل أمجادها، وما لي أخشى أن أقول هي بكل ثروتها؟! أليس هذا التفكير برجوازيا؟ نعم، إنه يصبح برجوازيا لو أفصحت عنه، ولكن ما دام في نفسي لا تعرف به إلا نفسي، فهو بعيد عن البرجوازية كل البعد، أظن أنني كنت موفقا كل التوفيق في التأثير عليها، وما أظن إلا أنها ستقبلني ...
ولكن ماذا هي قائلة لأبيها؟ أقصد لأمها، فما أبوها بذي شأن، لا أدري! ولكن أترضى بي؟ ولم لا؟ إنها خيالية في تفكيرها، وقد تقبل الزواج لتحقق آمالها من الزواج بفقير، ما الذي يدعوها إلى هذا؟ لعله زواج أمها الفاشل، ولكن أباها نفسه فقير بالنسبة لأمها فيما أعلم، لا أدري ... إن للأغنياء جنونا، وما أحب هذا الجنون إلي! فبه أستطيع أن أصل إلى الأمل المنشود، وما لي ولأمي حينذاك ولأبي؟ علي أن أشق طريقي في الحياة، فإذا تزوجتها فطريقي رغد وهناء.
وقطعت هناء تفكيره بقدومها: هناء. - تأخرت عليك؟ - نعم. - دقائق. - هي عندي سنوات. - لا، كنت أنتظر تعبيرا جديدا. - وأي جديد تريدين؟ - لا أدري، ولكن هذا التعبير استعمل كثيرا. - وما أدراك؟ - أقرأ. - آه، صحيح ... نسيت أنك تكثرين من القراءة، فأنت من قراءتك في أحلام لا تنتهي. - وأنت، ألا تقرأ؟ - بالقدر اللازم، فالقراءة البرجوازية تفسد الأفكار. - أهناك قراءة برجوازية؟ - نعم قراءة القصص. - كل القصص؟ - لا بالطبع، القصص التي لا تتحدث إلا عن الحب والعشق والهيام، هذه قصص لا فائدة منها. - أرأيت؟! ومع ذلك تحدثني عن الحب. - نعم. - كيف؟ - هذه مشاعر لا يمكن التحكم فيها. - ولكن هذا يخالف مبدأك؟ - لا أبدا، أنا أقصد الحب غير عملي، أما حبي لك فعملي واضح، ولولا أنني أخشى من أشياء كثيرة لطلبت يدك.
وأطرقت هناء في خجل، وأكمل هو حديثه: إن ذكاءك أعظم من الخجل.
وظلت هناء على خجلها، واستطرد هو: طبعا يا ستي، وأين أنا من حسام، أو من جعفر، أو من هؤلاء الأغنياء الذين يتمنون رضاك، أنا رجل فقير، أبي موظف صغير، وسيظل صغيرا إلى أن يخرج إلى المعاش، وأمي امرأة بسيطة، وكل ثروتنا لا تتعدى نصف البيت الذي نعيش فيه ومرتب أبي، أين أنا ...؟
وأحس فوزي أنه يمسك بالخيط البالغ إلى قلبها، فلم يترك هذا الحديث، واندفع فيه في إسهاب وقدرة واستغراق، حتى لم يحس بسيد وهو يطل عليهما من الحديقة، ولم يحس به وهو ينصرف عنهما، لم يحس شيئا من ذلك، ولم يسكت إلا حين رفعت هناء وجهها عن الأرض، والتقت العيون.
كانت سهير جالسة بالدور الأعلى حين أقبل عليها عم دهب، فعجبت من صعوده، فما تعود ذلك إلا إذا كان يريد أمرا هاما. - خير يا عم دهب. - والله يا ست لا أدري. - وكيف لا تدري؟ - السيد بن عبد البديع أفندي. - ما له؟ - يريد أن يقابل سعادتك. - يقابلني أنا؟! - نعم. - لماذا؟ - والله لقد رفض أن يقول لي، رفض رفضا باتا لم أتعوده منه طول عمره. - عجيبة! دعه يصعد.
ولم يتكلف عم دهب أكثر من أن نادى: يا سيد أفندي.
ورجع صدى صوته بسيد، وحيا السيد سهير في أدب ، ثم نظر إلى عم دهب الذي انصرف متعجبا، وأقفل السيد باب الحجرة، ووقف في اضطراب، وقد أخذت لحيته ترتعش مع شفته، حتى استطاع أخيرا أن يقول: يا ستي سهير، أنا وأبي وجدي نشأنا في بيتكم، فإن لم نحفظ لكم الفضل، فنحن كفار. - قل يا سيد ما تريد. - ستي هناء ...
صفحه نامشخص