وتربص سيد بالطريق، وما هي إلا دقائق حتى مرت فتاة أخرى، إن تكن أقل أناقة من سابقتها، إلا أنها لا بأس بها، ولو أنها كانت أقل من هذا بكثير لما تورع عنها، وأين أولئك النسوة، أين هن جميعا من أجمل فتاة بقرية العواسجة، أين هذه الملابس المهفهفة، والنحور العارية، والأثداء المشرئبة؟ أين هذا جميعا من ذلك الثوب الأسود الذي ترتديه فتيات العواسجة؟ خيبة الله عليهن، واقتربت الفتاة من مكانه، فسارع إليها قائلا: مساء الخير.
ونظرت إليه الفتاة في سخرية، وسارت في طريقها دون أن تجيبه أو تشعره أنها أحست به، ولكنه وقد بدأ الحديث، أبى أن يترك الفرصة، فهو يترك مرصده ويسير خلفها: مساء الخير.
ولم تلتفت إليه الفتاة، بل ظلت سائرة في طريقها، وأعاد هو التحية مرات ومرات، والفتاة على حالها من الجمود والتجاهل، وظن سيد أنها ما دامت لم تزجره، لن تلبث أن تجيب تحيته، وعلى هذه الأمنية سار خلفها دقائق، وسمعها تقول شيئا: يا شاويش، أبعد هذا الأفندي عني.
وسمع السيد ما قالت، فثبت مكانه كالتمثال المنصوب، ولم يفق من ذهوله إلا على الشاويش ساعيا إليه، فإذا هو ينفض الجمود الذي أمسك بأقدامه ويروح يعدو عائدا، حتى إذا وجد الطوار مزدحما بالمارة، وخشي أن يلحق به الشرطي، قطع عرض الشارع غير آبه بالسيارات التي تسعى فيه، ولولا أنه كان يعدو كالصيد يروغ من صائده، ولولا لطف الله لما وصل السيد إلى الشارع الجانبي سالما.
ووقف سيد يلتقط أنفاسه، ويفكر في هذه المصيبة التي كانت موشكة أن تصب عليه، لن أعود لهذا، لن أعود أبدا، وفي خطوات حازمة مشي السيد إلى هدف آخر، وقد تحدد مقصده، وتبين له الطريق.
وقف السيد أمام شاب وقور السمت، نامي اللحية، في وجهه عزم وإصرار، وفي عينيه ثورة يخفيها هدوء يغشى ملامحه جميعا. وكان يجلس إلى مكتب متواضع، وقف أمامه سيد يقول: أريد طلب انضمام. - وأين تحية الإسلام؟ - السلام عليكم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ما اسمك؟ - السيد عبد البديع الدكر. - تشرفنا، أنا عبد العاطي بسيوني.
والتقت يدان في مصافحة قوية.
الفصل الثامن عشر
كان أحمد جالسا إلى فوزي في حجرة المكتب التي خصصت لأحمد في القصر، إنها حجرة جده ذاتها، وكان فوزي جالسا في عظمة، وقد وضع ساقا فوق ساق، حين قال له أحمد في مرارة: أرأيت؟! لقد رفضت المجلة نشر مقالتي الأخيرة أيضا! - طبعا يا أخي، إن كتابتك تقدمية لا تقبلها هذه المجلات البرجوازية. - إن جعفر ينشر مقالاته بانتظام بها. - وفيم يكتب جعفر؟ مقالات تافهة لا أفكار فيها ولا جرأة. - نعم، ولكنه ينشرها. - لا بد أن أباه أوصى به رئيس التحرير. - أبدا يا أخي، عمي وصفي لا يتدخل في هذه الأمور أبدا. - إذن فرئيس التحرير يجامله من أجل أبيه. - فلماذا لا يجاملني أنا من أجل عمي؟ - مقالاتك لا تصلح لمثل هذه المجلات التافهة. - فأين أنشر أذن؟ - سيأتي اليوم الذي تكون لنا فيه مجلة، وسأنشر أنا لك فيها، ولكن اسمع ... - ماذا؟ - الليلة اجتماع الخلية، وستلتقي هناك بفؤاد زين العابدين قبل سفره إلى موسكو، فقد عين في السفارة المصرية بها. - يا أخي دائما تخطئ، إن اسمه زكي. - هذا اسمه الحركي. - والمفروض أننا لا نعرف إلا اسمه الحركي. - طيب يا سيدي، علمني، علم. - وأين الاجتماع؟ - في مكانه. - ألم يتغير بعد؟ - لا، لم تصدر الأوامر بالتغيير. - يا أخي أنا غير مرتاح لهذا المكان. - أنت محق. - وبعد؟ - لا شأن لنا، علينا أن ننفذ الأوامر. - الأوامر ... الأوامر، أليس لنا رأي؟ - الرأي رأي المحترف يا أحمد، ماذا؟ أنسيت؟ - لا، لم أنس، ولكني أخشى. - المفروض أننا لا نعرف الخشية. - أعرف. - موعدنا الليلة الساعة التاسعة مساء.
وطرق باب الغرفة، ودخل سيد: السلام عليكم ورحمة الله. - أهلا أبا السيد، ذقنك! - ما لها يا سي أحمد؟ دع ذقني في حالها، يكفيني ما بي. - خير يا سيد. - من أين يأتي الخير؟ - من ذقنك يا أخي. - يا أخي صل على النبي! - لا، لا لزوم لذلك. - أنت حر، الليلة اجتماع الأسرة.
صفحه نامشخص