وبينما هو في طريقه إلى الدور الأسفل، لقيته أم وديدة على السلم، فقال لها في لهفة: هيه!
فهزت أم وديدة رأسها نفيا، فلم يزد، ونزل إلى سليمان.
لقي سليمان وصفي بترحاب كبير، فأدرك وصفي أنه يريد منه أمرا، ولكن أخفى إدراكه هذا، وراح يجيب الترحاب بترحاب. - والله يا وصفي أنت لا تعرف كم فرحت بانتخابك سكرتيرا للمجلس. - يا أخي المسألة لا تستحق فرحا. - كيف؟ ثقة زملائك بك، وبلوغك إلى هذا المنصب وأنت في سنك هذه لا تستحق فرحا؟ - لا تكبر المسألة يا سي سليمان، المهم عندنا أن تستطيع الحكومة عمل شيء مع الإنجليز، أما أن أكون سكرتير المجلس أو لا أكون، فوحياتك ما اهتممت بهذا، ولقد اعتذرت وبالغت في الاعتذار، ولكن إخواني ألحوا فقبلت، على كل حال أشكرك على زيارتك! كأنما كان لا بد لك أن تجد سببا لتزورني! أين أنت يا أخي، ولماذا تختفي هكذا عنا؟ - والله الوظيفة يا وصفي تبتلع وقتي كله. - وكيف رضاك عن الوظيفة؟ - وهل رأيت صاحب حق ينال حقه في هذا البلد؟ - لماذا كفى الله الشر؟ - يا سيدي الوزارة تأبى إلا أن تساويني بزملائي الذين عينوا معي. - وما البأس في ذلك؟ - ما البأس؟! يا أخي أنا سافرت لأوروبا، ونلت شهادات من أعظم الجامعات هناك. - آه، من هذه الناحية أظن أنك محق. - بالله يا وصفي - إن كنت لا ترى بأسا - كلم الوزير، فهو صديقك، وما أظن أنه سيخيب لك رجاء. - أكلمه بكل سرور. - أشكرك، ومتى تتناول الغداء عندي؟ - وما المناسبة؟ - المناسبة؟! وهل لا بد من مناسبة؟ - لا، أبدا، في أي وقت! - بعد غد. - وهو كذلك، نقبل هذه الرشوة يا سي سليمان من أجل خاطرك. - يا أخي العفو، يا ليتك كنت ممن يرشون، إذن لأرحت قوما كثيرين. - نعم، وتعبت أنا. - أبدا وحياتك، الرشوة تتعب في المرة الأولى تعبا بسيطا، ما تلبث الرشوة الثانية أن تمحوه، أما الرشوة الثالثة، فهي الراحة والهناء والمال والسعادة. - الله الله يا سي سليمان، تتكلم كأنك خبير! - خبير بماذا؟ وظيفتي ليس فيها ما أرتشى عليه. - فإذا كانت؟ - فيها نظر. - احذر يا سليمان، الرشوة كالقتيل، تختفي يوما أو بعض يوم، ثم ما تلبث الرائحة النتنة أن تفوح منها. - يا عم صل على النبي. - عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا هو الحق. - المرتشون يملئون المناصب الكبيرة. - ولكن لا يحترمهم أحد. - بل يحترمهم الجميع وحياتك. - لأنهم يرجون منهم خيرا، فهم يظهرون لهم الاحترام، ولكن لا يكنون لهم إلا الاحتقار. - وماذا يعرف الناس عن ضمائر الناس؟ المهم ما ظهر، وأما ما خفي فالله به عليم. - الاحترام، أعظم الاحترام، أن يحترم الإنسان نفسه، ويعلم أن الناس يحترمونه في دخيلة نفوسهم، كما يحترمونه في ظاهر أمرهم، ولا تصدق أن إنسانا يكبر وسمعته ملوثه، ولا تصدق أن إنسانا يكبر بغير احترام. - نعم، نعم، أعرف مثلك العليا. - هذه ليست مثلا عليا، إنها المستوى الطبيعي للأخلاق، وما أقل منها سفالة، المثل العليا سمو عن طبيعة الأخلاق، ليست الأمانة مثلا أعلى، وإنما هي طبيعة، انتشار الفساد جعل هذه المعاني العادية مثلا عليا، لا تعتقد أنك حين تكون أمينا تستحق المديح، فهذا هو المفروض. - فما المثل العليا إذن؟ - أن أرتفع بالمستوى العادي للأخلاق، أن أعطي كل ما معي لفقير مثلا، وأظل بلا مال، أن أضحي بحياتي في سبيل الصالح العام. - هذا تهور. - بل هذه هي المثل العليا، لا عليك أن تبلغ إليها، ولكن عليك ألا تسفل. - يا أخي أنت لا تعرف شيئا عن الدنيا. - لكل دنياه يا سي سليمان، تلك هي الدنيا التي أعرفها، النهاية، لقد جعلتني ألقي خطبة طويلة وأنت لا تحب الكلام، أنت رجل مهندس تضع القالب على القالب فتبني بيتا. - أما تزال تذكر؟ يا أخي، يا أخي ارحم الناس من لسانك، النهاية، لا تنس الغداء عندي بعد غد. - وهو كذلك.
واستأذن سليمان وانصرف، وفي الطريق راح يفكر في هذا النجاح الذي أصابه من زيارته تلك، فهو قد ضمن أن وصفي سيكلم الوزير بشأنه في غد، لأنه من غير المعقول أن يأتي للغداء عنده دون أن ينبئه بما تم عند الوزير، وقد قصد سليمان أن يكون الغداء بعد غد، حتى يترك له الغد ليلقى فيه الوزير، وسليمان يعلم أن مثل هذا لا يخفى على ذكاء وصفي، وسليمان مسرور بنجاحه هذا أيضا، لأنه لن يخسر في هذه الدعوة شيئا، فزوجه هي التي ستقوم بإعداد الغداء، وسليمان مسرور أيضا، لأن هذه الدعوة ستوطد الصداقة بينه وبين وصفي، وهي صداقة يرى أنه أصبح محتاجا لها دائما، نجاح باهر إذن الذي أصابه في زيارته تلك، وهو مصمم على تمكين هذا الانتصار والمحافظة عليه، وبلغ سليمان القصر، فوجد زوجه كما تركها، لم يزد عليها إلا ابنتها هناء، وقد تركت لها صدرها تقبلها فيه هذه القبلة الطويلة التي تثير الغيرة في نفس أحمد . - يا ستي، وصفي سيتناول الغداء عندنا بعد غد.
ونظرت إليه سهير نظرة طويلة لم يرها هو، ولو كان رآها لما فهم منها شيئا، وكيف له أن يفهم؟ إنه لا يفكر في شيء إلا أن يبلغ من نجاحه أقصاه، وإلا أن يمكن هذا النجاح فيستقر به المقام، وترسخ أقدامه في أعماق مستقبله، لا شيء إلا هذا، وهل الحياة إلا هذا؟ ينظر إلى سهير ويقول: سهير ...
فتجيبه سهير بعض مفيقة: نعم. - ما المانع أن تقابلي وصفي؟
وأفاقت سهير إلى زوجها إفاقة تامة: ماذا؟ - وما المانع؟ إنه ابن عمك.
وقالت سهير في لهجة من لم يسمع، وفي غير استنكار: ماذا؟ - أقول إنه ابن عمك، وأنا رجل درست في أوروبا، ولا أوافق مطلقا على هذه الرجعية. - ولكن رأيك هذا لم تبده إلا اليوم. - نعم لأنه سيتغدى معنا، ولا أرى معنى أن يأتي ابن عمك إلى هنا، وتقفلي أنت الباب في حجرتك، وأظل أنا وابن عمك وحدنا. - لا أرى في ذلك بأسا، إلا إذا كنت ترى في مقابلتي له فائدة. - الحقيقة نعم، أرى في ذلك فائدة، فأنا لا أجيد الكلام، ولن تمر دقيقتان حتى أجد نفسي عاجزا عن الحديث معه. - من هذه الناحية، اطمئن فهو الذي سيتكلم.
ثم استدركت قائلة: فإنهم يقولون إنه كثير الكلام.
وأصابت نفسها غصة أن اضطرت إلى مهاجمة وصفي لتعمي على زوجها، فقالت: ويقولون إن حديثه جميل. - نعم ولكن بماذا أجيب حديثه، إنه يتكلم في أمور لا أفهمها ولعلك أنت أن تفهميها، فإنك منذ تزوجنا وأنت لا تكفين عن القراءة، أنت تقرئين الجرائد، وهو يكتب فيها، وأنت تقرئين كتب الأدب، وهو يهوى الأدب، ولن يخرج حديثه عن سياسة وأدب، وأما أنا فلا أحب السياسة ولا الأدب. - وماذا يقول الناس يا سليمان؟ - الناس؟ وهل تنتهي أقوال الناس؟ الناس عندك هم أنا، وما دمت أنا موافقا فلا شأن لك بالناس. - أخشى أن يقولوا إنك جعلتني أقابله، لأنك تريد الدرجة. - بل جعلتك تقابلينه، لأنه ابن عمك، وأنا لا أوافق على الحجاب. - ولكنك تعلم أنه هو رجعي، ولن يسمح لزوجته بمقابلتك. - لكل رأيه يا ستي، هو من أنصار الحجاب، وأنا من أنصار السفور. - هذا رأيك، ولكنك تنسى العائلة وكثرة كلامها، وتنسى أن رأيك هذا لم يظهر إلا مع ظهور رغبتك في الدرجة. - سهير، الحقيقة أنني لا أريد لك هذا الحجاب إطلاقا، ولن تقتصر مقابلتك على وصفي وحده، بل إنني أحب أن تقابلي الجميع، إنني رجل متعلم في أوروبا، ولا أحب هذه الهمجية، لا يا ستي إنك ستقابلين الجميع، الجميع!
صفحه نامشخص