76

إن أربعين سنة مضت منذ الحرب العالمية الأولى قد صنعت الأعاجيب في قضايا القارتين الأفريقية والآسيوية، فماذا تصنع السنون الأربعون التي تمضي من الآن إلى نهاية القرن العشرين؟

لقد كانت القارتان سلعة تباع وتشرى، فأصبحتا بعد الحرب العالمية الثانية على الخصوص شريكتين في سياسة العالم، وإن لم تكونا موفورتي الأسهم في مشاركتها.

ولم يحدث هذا التحول في هوادة ومطاوعة، ولا كان حدوثه مفاجأة بغير مقدماته الطوال، وإنما فصل العالم في هذه القضية بعد أن فصل في قضاياه المتشعبة التي تتوقف عليها، وهي قضية تقرير المصير، وقضية اللون والعنصر، وقضية الاحتكار، وقضية العزلة السياسية، فكانت قضية القارتين هي مجموعة هذه القضايا في دور التفاهم والاتفاق.

ونظرة سريعة - بل نظرة مملوءة بالتدبير والروية - إلى حالة القارتين في مطلع القرن العشرين وحالتهما في منتصفه ترينا أن العالم غير واقف في هذه القضايا، وأن حلوله لها ليست كلها من قبيل الخداع والتمويه كما يحلو لبعض المتحذلقين أن يرددوا ويعيدوا ويبدئوا في الحكم على كل مرحلة كبيرة من مراحل الانتقال، وليست الغفلة في الظن والاتهام بأقل من الغفلة في الثقة والتصديق، بل ربما كان الاتهام الأعمى أضل وأضيع للفكر وللمصلحة من الثقة العمياء.

إن نظرة مملوءة بالتدبر والروية فيما حدث في القارتين منذ الحرب العالمية الأولى ترينا أن الخضوع للحكم الأجنبي كان هو القاعدة المطردة في القارتين قبيل منتصف القرن العشرين، وكان الشذوذ فيهما هو الحكم المستقل أو الحكومة الذاتية، ومن مسائل الحساب - لا من مسائل السياسة - أن نحصى الآن عدد الأمم الخاضعة للحكم الأجنبي، وعدد الأمم المستقلة بحكمها والمشتركة في حكومتها، فنعلم أن الأمر قد تحول من نقيض إلى نقيض، فأصبح الخضوع للأجنبي شذوذا، وأصبح الاستقلال على درجاته قاعدة يعترف بها المتنازعون عليه وغير المتنازعين.

ومن الحذلقة أن يقال: إنه استقلال لم يحققه العمل ولم يثبته الواقع، فإن الفرق فيه كالفرق بين الحدث الناشئ الذي لا يملك التصرف لقصوره وإنكار حق التصرف عليه، وبين الرجل الرشيد الذي يشق عليه أن يفعل ما يشاء وهو يملك أن يفعل ما يشاء عند مؤاتاة الفرص، وملاءمة الظروف، كلاهما قد يشبه صاحبه أمام الواقع الذي لا يقدر عليه، ولكن الفرق بين القاصر والرشيد فرق صحيح في الواقع لا يستهان به، ولا يزهد فيه .

إن الاستعمار القائم على السلام والاحتكار صفحة مطوية لا يقوى أحد في العصر الحاضر على نشرها، وإن العلاقة بين الأمم اليوم علاقة مشاركة يقع فيها الغبن كما يقع فيها الإنصاف ولكنها - كيفما كان الحال - علاقة غير علاقة السلعة التي تباع وتشرى وتحتكر أو تبذل في الأسواق.

وفيما عدا شعوبا قليلة سيأتي موعدها من تقرير المصير لا محالة، يستطيع من يحقق النظر أن يعلم أن حدود الاستقلال قائمة على أساس واحد في جميع القارات، وإنما حدوده القدرة التي تتفاوت كلما تفاوتت حظوظ الشعوب من الحضارة والصناعة والثروة والتربية السياسية، فليس في العالم أمة محكوم عليها بالخضوع الدائم؛ لأنها غير أهل للاستقلال، وليس في العالم كذلك أمة مستقلة تمام الاستقلال إذا كان معنى ذلك أنها تفعل ما تريد وتستبد بالرأي في كل ما تبتغيه، ولكنها تملك من الاستقلال بمقدار ما تملك من العلم والثروة والكفاية السياسية، وكذلك يستقل الآحاد الراشدون في حقوق التصرف والمعاملة فلا حجر عليه بحكم الشريعة، وإنما يصيبه الحجر أو يرتفع عنه إذا أصابه النقص في قدرته، أو عوفي من نقص القدرة بعمله وعمل سواه.

إن الأقوياء في عصرنا هذا يحتاجون إلى من هو أقوى منهم، ومن هو أقوى منهم لا يسمح لهم، ولا يقبل منهم أن يحتكروا الأسواق والميادين، ولا يرى ضرورة لاحتكار الأسواق والميادين لنفسه؛ لأنه قادر على المنافسة والمناظرة بغير احتكار، وهذا هو دستور العلاقات الدولية الجديد بعد دستور الاستعمار القائم على الاحتكار بقوة السلاح. فلا مناص مع هذا الدستور الجديد من علاقة المشاركة كيفما كان اختلاف الأنصباء فيها، وكيفما كانت قسمة الشريك من الغبن والخسارة أو من الربح والغنيمة.

طويت صفحة السلعة التي تباع وتشرى، ونشرت بعدها صفحة المشاركة بين الأكفاء وغير الأكفاء، وهي أشرف وأربح في جميع الأحوال من الصفحة المطوية، وهي - بعد حين - مرهونة بمصير التضامن العالمي إلى التعاون على اضطرار أو التعاون على اختيار.

صفحه نامشخص