وقد عرض المؤلف لغير ذلك من الأمثلة العلمية التي يفسرها المنكرون بكلمة لا معنى لها كالغريزة أو المصادفة ويفضل عليها المؤمنون تفسير القصد والحكمة في تدبير أحوال الوجود، ويطلبون ممن يرفض هذا التفسير دليلا على رفضه أقوى من الدليل على قبوله، فلا يسمع منهم دليل.
ولا يخفى أن آراء العلماء والفلاسفة إنما هي سند للإيمان الديني يعززه، ولا يخلقه ما لم يكن له قرار في بديهة الإنسان، فهذه البديهة تسعى سعيها وتتلمس طريقها في هذا العصر كما تلمسته فيما غبر من عصور التاريخ، وستعمل ما تستطيعه وتتزود من العلم والفلسفة بما يصلح لها من زاد تسيغه، ولم تعقم بديهة التدين، ولا يبدو أن العالم اليوم أقل إيمانا مما كان في زمن من الأزمنة الخالية، ولا أن النفوس تطمئن في زماننا إلى شكوك التعطيل التي كانت تقلقها وتحيرها قبل عصر العلم الحديث، وإنما موضع النظر أن المرتابين من الأقدمين كانوا يهجرون دينا ليدخلوا في دين يتلوه، وكانوا يرتابون وينتظرون النبوءات لجلاء شكوكهم واستلهام عقائدهم، فماذا ينتظر المرتابون في عصر العلم الحديث؟ هل ينتظرون نبوءة جديدة تأتيهم بدين جديد؟
قد يكون في المرتابين من أبناء العصر من تخامره هذه الفكرة، فهو في مرد أمره سواء ومن يبحث عن عقيدته على هدى بصيرته وعقله، لأن المهم في مشكلته أن يشعر بالحاجة إلى العقيدة، وأن يعلم أنها معرفة شريفة لا يمنعها العلم الصحيح ولا يعارضها التفكير السليم، ومن صدقت طويته على هذه النية فهو قريب من معتقده الذي يهتدي إليه ببديهته وتفكيره، وليس أقرب من الملقى بين العقائد الإلهية إذا خلصت إلى جوهرها وصفيت من أخلاط الوثنية وقشور التقاليد.
ولا ننسى عمل «الشخصية الإنسانية» في الهداية الروحية، فإن العقيدة تظل معنى من المعاني يحوم عليه الذهن كما يحوم على حقائق الرياضة والحكمة ما لم تتمثل في «شخصية» محبوبة موقرة تنقلها إلى الحياة بما تبعثه من الثقة وتوحيه من القداسة التي تقرب السماء من الأرض، وتعقد الصلة بين الحياة الأبدية التي لا حدود لها وبين هذا العالم المحدود.
كذلك كانت رسالة الأنبياء، وكذلك تكون الرسالة من الهداة المصلحين الذين يترسمون آثار الأنبياء في دعواتهم إلى الخير والكمال، وسيأتي اليوم القريب الذي يكون فيه العلم معوانا ميسرا لذوي الرسالات من الدعاة المصلحين، إنه يغنيهم عن خوارق العادات التي تطلبها الأولون ردحا طويلا من الدهر ليستيقنوا من عالم الغيب ويلمسوا دلائل القدرة التي لم يلمسوها في عالم الشهادة، فمن هذا العلم يتعلم الإنسان الحديث أن العادات كلها خوارق، وأن المحسوسات جميعا مغروسة في الغيب المحجوب الذي لا تدركه الأبصار ولا العقول، وقد تكشف لنا الفترة الباقية من هذا القرن أن المستقبل أصلح للدين من الماضي السحيق الذي ظن أوجست كونت أنه أوان الدين، وظن أن الدين ثمرة من ثمرات جهله وضعفه، وأنها قد انتهت بانتهائه، فنحن نرى من الآن أن التدين لا ينتهي عند ابتداء التعقل والدراية، بل أوضح من ذلك أمامنا أن المعرفة تبلغ بالعقل الإنساني غاية مداه، فتطرق له أبواب الإيمان.
الفصل السادس
العوالم الأخرى
كان العلماء في أول هذا القرن يشكون في إمكان الطيران بجسم أثقل من الهواء، ومضت سنوات على منتصف القرن والطيارة - من كل وزن - تسبق الصوت، ولا تكتفي بما وصلت إليه.
وبعد أن كان السؤال، هي نرتفع في جو الأرض بجسم أثقل من هوائها، أصبح السؤال على ألسنة العلماء والمستطلعين، هي نصل بالطائرة إلى أجواء السماء؟ وهل نصعد بها إلى جو القمر وأجواء السيارات الشمسية من ورائه؟ وهل تقلنا الطائرة يوما ما إلى ما وراء شمسنا وسياراتنا في أجواز الفضاء؟
إن العلماء والمخترعين يخافون كلمة المستحيل بعد ما ثبت من إمكان الأمور الكثيرة التي جزموا باستحالتها ثم تحققت بعد ذلك بقليل من السنوات، ويلوح من جملة الآراء والظنون أن المتنبئين يفضلون التعجل في الجزم بالإمكان على التعجل في الجزم بالاستحالة، وتكاد كلمة «لا مستحيل» أن تعود إلى أفواه قادة العلم والاختراع بعد أن لهج بها قادة الحرب، والحكم على مذهب نابليون الكبير، فإن خيف اليوم شيء في هذه النبوءات، فإنما الخوف من التورط في الأمل، حذرا من كلمة «المستحيل» التي أخلفت الظنون غير مرة في بضع سنوات.
صفحه نامشخص