49

فقد ولد العالم بعلاقاته المشتبكة يوم ولدت المطبعة والإذاعة والباخرة والطيارة، وتقررت مبادئ التضامن العالمي عملا في هذا العصر من عصور الصناعة بعد أن طالت دعوة المصلحين إليه، وترددت كلمة «النوع الإنساني» بغير معنى أو بمعناها المصطلح عليه في الألسنة والأوراق، ومهما يقل القائلون في قيمة هذا التضامن الحديث فليس هو اليوم بالحبر على الورق، ولا بالصدى الذاهب بين الألسنة والأسماع: إن العالم الإنساني اليوم أوسع نظاما من أن تحكمه أكبر دولة وأوثق اتصالا من أن تهمل فيه أصغر دولة، وما من كارثة في جزء من أجزائه تؤمن عاقبتها في أجزائه المترامية، على ما بينها من تباعد في المكان وتباين في المصالح والأهواء، ولا يحدث هذا في العالم بغير تضامن «واقعي» بين أجزائه، كائنا ما كان سببه، وكيفما اختلف النظر إليه في دساتير الأخلاق.

فإذا قيل: إن هذا التضامن ضرورة غير مقصودة، لأسباب غير محمودة، ففي ذلك مصداق للحكمة التي تفوق إرادة الإنسان وتسوقه في تاريخه مرحلة بعد مرحلة، وهو جاهل بما يساق إليه.

ونعود فنقول: إن الإنسان لم يصنع الآلة وهو يقصد إلى جميع فوائدها وعواقبها، وإنه قد يقصدها سلاح حرب فلا تلبث أن تصير على غير قصد منه دعامة سلام، وقد صح هذا كثيرا في تاريخ الإنسان الفرد، وتاريخ الإنسان الاجتماعي، ولكنه أصح من ذلك في تاريخه العالمي أو تاريخ هذا التضامن العالمي في الزمن الأخير، فما كانت منافع المواصلات لتقود الإنسان إلى إتقان الطيران هذا الإتقان لولا فعله في الغارات والحروب، وما كانت أمانة العلم لتفلح وحدها في شق الذرة، وإبداع الأقمار الصناعية، وإطلاق الصواريخ، وتركيب سفن الفضاء، وما كانت خصائص المادة وأسرار العناصر والأجسام لتنكشف للعلماء وتنقاد للمخترعين لو لم يكن منها سلاح ووقاء وخوف من عدو أو عزم على اعتداء، فليست هذه الروائع العلمية مما يتاح للعلماء وينقاد للمخترعين بغير القناطير المقنطرة من الذهب، وليس إنفاق القناطير المقنطرة مما تتحمله شركات البيع والشراء أو تتفتح له حزائن الأغنياء، أو يأذن به ولاة الأمر والنهي إذا انكشف عنه الغطاء.

الفصل الرابع

خواص المادة والنظرة «المادية»

النظرة المادية نقيض النظرة المجردة إلى الأشياء في اصطلاح الأقدمين والمعاصرين، سواء كانوا من الفكريين المثاليين أو من الحسيين الواقعيين.

وأساس هذه التفرقة قديم عند الأمم التي اشتغلت بالفلسفة والعلم، مع اختلافها في المزاج والعقيدة ووجهة النظر.

فعند الفيلسوف الهندي القديم: إن المادة وهم باطل، وإننا مطالبون بأن نلغي وجودها ونفرض عدمها إذا أردنا أن ننفذ إلى الحقيقة المجردة التي لا تتلبس بالأوهام والأباطيل.

وعند الفيلسوف اليوناني: إن المادة كثيفة غليظة، وإن الفكر في لبابه صاف خالص من شوائب التجسيم والتجسيد، ولا شك أن الفكرة الجغرافية كان لها عمل كبير في هذه التفرقة من أساسها الأول، لأنها فرفت بين الكائنات الأرضية والكائنات السماوية، أو فرقت بين هذه المحسوسات الكثيفة الترابية، وبين الكائنات العليا التي لا يحس منها غير النور الذي ينبعث منها، وهو بسيط صاف لا تركيب فيه، ولا يعتريه إلا ريثما يختلط بالأجسام، ثم ينفصل عنها فيعود إلى الطهارة والنقاء.

فكل ما تحت القمر فهو مادي غليظ عرضة للفساد والانحلال، ويأتيه الفساد والانحلال من جانب التركيب الذي لا يدوم على حالة واحدة، ومن فقدانه الدوام يتطرق إليه العطب والفناء.

صفحه نامشخص