ولكن الفائدة غير المقصودة من استخدام الصخرة أو فرع الشجرة أكبر جدا من هذه الفائدة التي تكفل له البقاء وحماية النفس بين الأعداء؛ لأنها فائدة تتقدم به وتزيد في قدرته، وتنمي ملكاته، وتنقله من الحيوانية إلى الإنسانية، وتخطو به الخطوة التي يقف عندها الحيوان فلا يتقدم، ويبتدئ منها الإنسان فيبلغ ما هو بالغه اليوم من تمييز وامتياز.
فاستخدام الآلة في رأي العلماء جميعا هو الذي جعل اليدين في الإنسان أتم وأقدر من اليدين في ذوات الأربع، وهو الذي شحذ العلاقة الفكرية والمادية بين الدماغ وسائر أعضاء الجسد وحواسه، ولا اختلاف بين الباحثين في علم الإنسان على ذلك، وإنما يختلفون في التقديم والتأخير بين سائر الإنسان على قدميه منتصب القامة وبين ارتقاء دماغه وابتدائه في التفكير.
فمن العلماء من يرى أن الإنسان ارتقى فكرا، فهداه التفكير إلى استخدام الآلة واكتسب المرونة الجسدية والفكرية من توفيقه بين الأغراض، والمجهودات التي يستخدم من أجلها الآلات، ويرى علماء آخرون أنه استوى قائما على قدميه، واستطاع أن يمشي معتدل القامة، فتمكن من استخدام الآلة، واستعمال اليدين في حملها وتصريفها، وتسديدها إلى غاياتها، وتعلم من ذلك كيف يوفق بين حركات الجسم وهداية الدماغ، فكان هذا سببا لنموه واطراد تقدمه، وازدياد قدرته على الفهم والحركة الجسدية في وقت واحد.
فالأستاذ واشبرن
Washburn
أستاذ علم الإنسان «الإنثروبولوجي» في جامعة شيكاغو يقول في فصل كتبه سنة 1941: «إن المعروف عن الأجزاء الأخرى من الهيكل العظمي قليل، ولكن يستطاع أن نعتبر من المقرات البينة الآن أن اعتدال القامة وكل ما يصاحبه مما يساعد عليه في تركيب الجسم هو مرحلة بلغها الإنسان قبل وصوله إلى هيئته التي استقر عليها.»
1
وقد لخص الدكتور أشلي مونتاجو طرفي الرأي حول هذه المسألة في عجالة علمية سماها: «الإنسان في أول مليون سنة»، قال فيها عند الكلام على نسب الإنسان:
في أفريقيا الجنوبية - وبخاصة في أخريات السنوات العشرين - كشفت هياكل عظمية من متحجرات القردة سميت قردة الجنوب، وأدعى ما فيها إلى الالتفات أنها في كل شيء قردية، إلا في سعة الجمجمة، وعظام الفخذ والساق والقدم؛ فإنها شبيهة بالعظام البشرية، ويتحقق من عظام الفخذ والساق أن قردة الجنوب كانت تمشي معتدلة أو على نحو من الاعتدال، ومن ثم نشاهد لأول مرة علامات ثابتة تدل على ترتيب تطور البنية الإنسانية، وقد حدث هذا الاعتدال قبل نمو الدماغ إلى الحجم الذي يماثل دماغ الإنسان، وكان بعض الثقات يحسبون أن الترتيب مختلف، ولكننا الآن نعلم يقينا أن سلف الإنسان اعتدلت قامته أولا قبل أن يبلغ مبلغ الإنسانية.
كم عاشت هذه القردة الجنوبية؟ لا نعلم علم اليقين لأن طبقات الأرض في الإقليم الذي وجدت فيه بقايا تلك القردة لم تدرس دراسة وافية، إلا أن الأكثرين من المختصين يرجحون أنها عاشت في العصر المحدث الأخير
صفحه نامشخص