عالم ليس فيه صغير يكبر، ولا ناقص يتم، ولا جزء يستوفيه جزء آخر، ولا حاضر يأتي بعده مستقبل، ولا مجهود يبذل، ولا فارق بين موجودين يتسلل من جانبه الشعور بالحاجة والسعي إلى تداركها، والحيلة في دفعها وإصلاحها من حين إلى حين، ومن مكان إلى مكان.
عالم كهذا كيف يكون؟ وإذا كان كيف يكون أصلح وأكرم لوجود الإنسان؟
أناس يتساوون جميعا في السعادة والرضى، ويتساوون جميعا في السن والميلاد، وفي الصحة والفكر والقوة والأخلاق والجمال.
أناس على هذه المساواة نفرض وجودهم، فنفرض أنهم يوجدون هكذا كما توجد المصنوعات في قوالب الصناعة، وليت هذا الفرض متيسر بغير فرض آخر أصعب منه، وأبعد من الإمكان، وأقرب إلى الاستحالة والامتناع.
ذلك الفرض الآخر هو المساواة بين الأماكن والأوقات، ومن وراء ذلك المساواة بين الأيام والأفلاك والعناصر والأشياء، ومن وراء ذلك عالم لا شيء فيه؛ لأن الشيء لا يوجد في عالم تمتنع فيه الفروق وتتشابه فيه جميع الموجودات.
ما البديل المفضل إذن من هذا العالم الذي نحن فيه؟
ليس ثمة إلا بديل واحد، وهو أن يوجد الناس بطبائع الخير والسعادة، كما توجد المعادن والجمادات بخصائصها وتراكيبها.
والناس يوجدون كذلك - إن أمكن وجودهم - في عالم لا تتكرر فيه المخلوقات، ولا تتعاقب ولا تحس الحاجة إلى شيء، ولا يحدث لها الإحساس إلا كما يحدث الأثر في المادة الصماء.
والناس لا يمكن وجودهم على هذه الصورة في عالم تتميز فيه الأشياء؛ لأن الأشياء لا تتميز في عالم يتشابه فيه الزمن والمكان، وتتساوى أجزاؤه، كما تتساوى أجزاء الفضاء.
هذا هو البديل من العالم كما عهدناه، فمن ارتضى هذا البديل فله أن ينكر الوجهة في التاريخ، وأن يفهم المصادفة كما يشاء، ويفهم الحكمة والتدبير كما يشاء، ولكنه لا يستطيع أن يزعم أن هواه قضية مسلمة، واختيار متفق عليه.
صفحه نامشخص