ومضيت أعد حقيبتي.
وأراوح بين إعداد الحقيبة، وبين التسلي بمشاهدة الرائح والغادي، ألتف في روبي اتقاء لبرد الشتاء، أقف وراء زجاج النافذة، الأرض لامعة مظللة بغصون الأشجار، والسماء متدثرة بالسحب وعيناي تترقبان. أكثر من مرة أراه وهو يعبر الطريق بقامته الفارعة، التي لم يحنها الكبر، ولكنه لم يقصد بيتي بعد. في صباي خدعت بصداقة أبي له وثنائه عليه، ثم ماذا كانت النتيجة؟! ذلك الرجل العجيب. في فترة انخداعي بما بين أبي وبينه صادفته في الطريق قريبا من بيتنا، وبكل براءة دعوته لزيارتنا كما يقضي الأدب فابتسم قائلا: ليس اليوم، شكرا لك يا بني.
طالما تحير الناس بين سمعته الطيبة، وفعاله القاسية. وفي حديث صحافي سألته الصحافية عما يوجه إليه من اتهامات فأجاب: إني أؤدي واجبي على أكمل وجه.
فأشارت إلى ما يقع من ظلم أحيانا فقال: عملي يتسم بالعدل المطلق. - ألم تؤد واجبك مرة وأنت كاره؟ - أبدا، إني أنفذ قانونا كامل العدل. - ثمة حوادث تستحق التفسير؟ - لو دخلنا في التفاصيل الفقهية فلن يستطيع القراء معي صبرا!
وختمت الصحافية الحديث بالتنويه بطمأنينته الكاملة. ذلك الرجل الذي ينفخ اسمه الرعب في الأفئدة، الذي قال مرة جهرا: أنا لا أذهب إلى الناس لألقي القبض عليهم، ولكنهم هم في الحقيقة الذين يجيئون إلي بأنفسهم .
كما أنكر بشدة جميع ما يقال عن التعذيب الذي يمارس في السجون. •••
ها أنا أقف وراء زجاج النافذة أترقب، في الدقائق القصار التي أستريح فيها من إعداد الحقيبة.
ذوو الدخل المحدود
دهمنا الانفتاح كالطوفان؛ أناس طفوا فوق سطح الماء الهادر، وآخرون مضوا يغطسون نحو القاع. بادئ الأمر فرحنا لانهزام الانغلاق. قلنا: ولت أيام الحصول على علبة ثقاب بالطابور والبطاقة، وتسول الأدوية من المحسنين. ولكن رويدا رويدا تحرك القلق جارا وراءه الخوف، وأخذت تكاليف الحياة تتجهم وتكشر عن أنيابها، ولأول مرة عرفت اسم طبقتي الجديد في العهد الجديد، وهو ذوو الدخل المحدود. قبل ذلك دعينا بالبرجوازية أو الطبقة الوسطى، وقالوا عنا إننا العقبة الكئود في طريق البروليتاريا المبشرة بالغد. اليوم البروليتاريا تصعد، وذوو الدخل المحدود يرددون في نفس واحد: عشانا عليك يا رب.
وأذهب ذات صباح لأحلق شعري فأجد المحل مغلقا، ثم يخبرني أهل العلم بأن صاحبه باعه بثمن خيالي، وأنه يعد الآن ليكون بوتيكا. في عام واحد ترددت في ثلاثة شوارع رئيسية على حلاقين سرعان ما يختفون كالأول، حتي تساءلت: ترى كيف تعيش مدينة بلا حلاقين؟ وما الحيلة لو تبعهم الحانوتية والترابية؟ وساءني الانفتاح أكثر في المكتبات التي كنت أغازل الكتب في معارضها الخارجية؛ فقد كتب عليها نفس المصير وتحول غير قليل منها إلى محال أحذية، حتي قهوتي المفضلة انقلبت مطعما. هكذا تحسنت أحوال البروليتاريا وأصبحت طبقة جديدة ذات شأن، وتدهورت الوسطى في منحدر التقشف، وراحت تفكر في وسائل دفاعية جديدة تناسب العصر، وتقتدي في حدودها برجاله العظام.
صفحه نامشخص