سررت بما سمعت، وتحفزت للعمل. كل شيء يتم في دنياي في ثوان، وبدت مهمتي غاية في السهولة. استحسنت أن أتجاوز الرجل إلى أبنائه. على من يريد أن يقتحم حصنا، أن يبحث عن موضع ضعف في سوره. في هذا ضمان لمأساة أفجع وأشد. واندلعت في قلبي النشوة التي تسبق العمل، لكنها ارتطمت بشيء ما. يا للسرعة ويا للغرابة! شيء ما كرائحة مجهولة المصدر. تراجعت النشوة كالموجة المتقهقرة عن الساحل وسقطت في الفتور؛ فتور كأنه الإحباط، وكأنما أخجل من نفسي لأول مرة في تاريخي العريق. ترددت ولم أكن أتردد أبدا، أحجمت ولم أكن أحجم أبدا، ما لذتي في معركة، النصر فيها جالب للسخرية والهزيمة محققة للعار؟ كلا يا إبليس، ما هو بالفتور فقط ولكنه الزهد. لم أصادف تجربة كهذه من قبل. سأتركك يا سيد محمد لشأنك وظروفك أنت وأسرتك المعذبة، لست سعيدا فتحسد ولا أنت متحد فتستفز. لا أحد يحبك. لا أحد يعطف عليك. يضمرون لك الشر، ويبيتون لك أسوأ النوايا. إني تاركك، سأتابع أخبارك من بعيد. ستظل في حياتي نقطة سوداء، وإذا سئلت يوما عنك أجبت: هذا الرجل زهد إبليس في القيام بواجبه.
العودة
أي عالم هذا؟!
ينظر فيما حوله بعجب. كأن القيامة قد قامت. تغيرت معالم الطرق وتبدلت حالا بعد حال. هذه العمائر الضخمة متى حلت محل البيوت العتيقة المتهاوية؟ والسيارات المنتظرة على الجانبين، والمركبات المنطلقة كالقلاع. والزحام .. الزحام .. الزحام. متي ولد كل هؤلاء، متي نموا وتربعوا على عرش الشباب؟ ها هم يضربون الأرض بأقدامهم محدثين ضجة كبري. هل حدث ذلك كله على مدى خمسة وعشرين عاما؟! المساجين المستجدون جاءوه في السجن بمعلومات جديدة، ولكنه لم يصدق أو لم يستطع أن يتخيل الواقع، ولكن ما يراه اليوم يذهل الإنسان عن عقله. ويتساءل بقلق: ترى ما شأن الحارة؟ قد تحتفظ الحارة بطابعها، وتتحدى الزمان. سيجدها كما تركها منذ ربع قرن، وسيجد رجاله في انتظاره، وسيتطلع إليه الناس بانبهار وسرور، ويستقبلونه بالزغاريد، ويتبادلون التهاني لعودة فتوتهم. أجل، طعن الرجل في السن، ولم تبق في رأسه شعرة واحدة، وتخلت عنه قوته، ولكن الفتوة هيبة ومقام وشجاعة. في سبيل الدفاع عن كرامتهم فقد عينه اليسرى، وقضى في السجن تأبيدة، فأي إنسان يمكن أن ينسى ذلك؟ لم يعد له أهل في مصر، وماتت زوجته منذ خمسة عشر عاما، فانقطع ما بينه وبين الأهل، ولم يبق إلا رجاله. في الأيام الغابرة كانت تتبعه الأبصار أينما حل ويحدق به الرجال الأشداء، وعندما يهل على الحارة وينتبه الناس إلى عودة الغائب ستنقلب الحارة رأسا على عقب، ويرجع كل شيء إلى أصله، فتحلو الأيام وتصفو.
واخترق الميدان وجاز عتبة الحارة. انتفخ وشملها بنظرة جامعة. هي هي والحمد لله ببيوتها العتيقة الصغيرة المتلاصقة. بيت واحد هدم وقامت مقامه عمارة نحيفة مثل العامود. الكتاب القديم باق، ولكن سقفه تهدم وبابه نزع. لكنه لم يعثر على وجه واحد من الوجوه القديمة، لا بين المارة أو العاملين في الدكاكين. محل كواء مكان محل عم سليمان بياع الطعمية. المقهى في مكانه، ولكن يديره شاب ببنطلون وقميص، وأعدت كراسيه صفوفا لتشاهد مباراة كرة القدم في التلفزيون، لا يعرف أحدا ولا أحد يعرفه. أين الرجال؟ .. أين الاستقبال؟ تلاشت كما تلاشت أيام العمر. سار في الحارة من أولها لآخرها، ومن آخرها لأولها، ولا حياة لمن تنادي. ودق كثيرا من الأبواب سائلا عن أصحابها، فأجابه قوم أغراب لا يعرفونه، ولم يسمعوا عمن يسأل عنهم. كأنه لم يكن فتوة الحارة وسيدها وحاميها، بل ولا واحدا من سكانها. لقد انساق إلى المعركة المشئومة دفاعا عن أحد أبناء الحارة حين تعرض للأذى في حارة مجاورة، أين رجاله؟ أين التجار الذين حماهم بقوته وجبروته؟ كيف لا يذكرهم أحد، أو يفيده بنبأ عن أحدهم؟ وشعر بضياع لم يشعر بمثله في السجن نفسه. وقال لنفسه «ما أنا إلا ميت». ودنا في تخبطه من زاوية سيدي الصبان، فلمح خادمها جالسا على بابها، غيره الزمن، ولكنه لم يمح معالمه، فاستخفه الفرح وهرع إليه قائلا: يا شيخ!
وتبين له أنه نسي اسمه فارتبك، ولكنه دارى ارتباكه بأن احتضنه وقبله وهو يسأله: ألا تتذكرني؟
فتفحصه الرجل بعينيه الذابلتين ثم هتف: المعلم زيد. - جزاك الله كل خير، أنا المعلم زيد.
فتمتم الرجل: إن مع العسر يسرا.
فسأله بحرارة: أين الرجال والجيران؛ فإني لم أجد منهم أحدا. - الرجال والجيران! سبحان من له الدوام.
وجلسا معا على باب الزاوية، وراح يسأل، والآخر يجيب. البقية في حياتك، ربح أموالا طائلة، وهاجر إلى حيث لا نعلم، لا أدري عنه شيئا، البقية في حياتك.
صفحه نامشخص