لذلك، فالحكومة الشعبية بذاتها تعد أقل شرا وأقل بشاعة من السلطة الاستبدادية.
ليست الرذيلة العظمى للديمقراطية بالتأكيد هي الطغيان والوحشية. ظهر جمهوريون قاطنو جبال متوحشون، لكن ليست الروح الجمهورية هي التي صنعت ذلك، وإنما هي الطبيعة.
الرذيلة العظمى للجمهورية المتحضرة يمكن أن نجدها في الأسطورة التركية عن التنين ذي الرءوس العديدة، والتنين ذي الأذيال العديدة. تصيب الرءوس العديدة بعضها بعضا، وتطيع الأذيال الكثيرة رأسا واحدا يود أن يلتهم كل شيء.
تبدو الديمقراطية مناسبة لبلد صغير جدا فقط، فضلا عن أنه لا بد وأن يكون في موقع جيد. ومهما يكن صغيرا؛ فسيرتكب أخطاء كثيرة؛ لأنه سيكون مكونا من البشر. سيسود النزاع هناك كما يحدث في دير؛ لكن لن تكون ثمة مذبحة يوم سان بارثولوميو، ولا مذابح أيرلندية، ولا صلاة غروب صقلية، ولا محاكم تفتيش، ولا مصادرة سفن شراعية لحصولها على بعض الماء من البحر دون أن تدفع ثمنه، إن لم يفترض المرء أن هذه الجمهورية مكونة من شياطين في ركن من الجحيم.
يتساءل المرء كل يوم: هل الحكومة الجمهورية أفضل من حكم ملك؟ دائما ما ينتهي الخلاف بالاتفاق على أن حكم البشر صعب للغاية. اتخذ اليهود الرب نفسه سيدا؛ فانظر ما حدث لهم بسبب هذا: دائما تقريبا ما هزموا وصاروا عبيدا، واليوم ألا تجد أن لهم شأنا؟
القدر
تعد كتب هوميروس الأقدم من بين كل كتب الغرب التي توارثناها. فيها يجد المرء عادات العصور القديمة الدنسة، والأبطال الضخام، والآلهة الضخام المصورين في صورة البشر، لكن فيها يجد المرء من بين التخيلات والتفاهات بذور الفلسفة، وعلى رأسها فكرة القدر الذي هو سيد الآلهة بقدر ما أن الآلهة سيدة العالم.
حينما يتمنى هيكتور النبيل من كل قلبه مقاتلة أخيل النبيل، ويطوف بالمدينة ثلاثا قبل القتال كي ينعم بمزيد من القوة والحيوية؛ حين يقارن هوميروس أخيل سريع العدو الذي يلاحقه بشخص نائم، وحينما تصل مدام داسير إلى نشوة الإعجاب بالفن والإحساس الطاغي بهذه الفقرة، فيريد جوبيتر حينها أن ينقذ هيكتور العظيم الذي قدم تضحيات كثيرة لأجله، ويستشير الأقدار ؛ يزن مصيري هيكتور وأخيل في الميزان (الإلياذة، الجزء الثاني والعشرون)، ويجد أن الطراودة يجب أن يقتلوا بأيدي الإغريق؛ لا يستطيع أن يعارض ذلك، ومن هذه اللحظة، يجبر أبولو، حارس هيكتور البارع، على أن يهجره. لا يعني ذلك أن هوميروس ليس مسرفا - في أغلب الأحوال وخصوصا في هذا الموضع - في الأفكار المتناقضة تماما، متبعا خصال العصور القديمة؛ لكنه أول من يجد المرء عنده فكرة القدر؛ لذلك كانت هذه الفكرة رائجة للغاية في أيامه.
لم يتبن الفريسيون من بين الشعب اليهودي الصغير فكرة القدر إلا بعد قرون عدة؛ لأن هؤلاء الفريسيين أنفسهم، الذين كانوا أول المتعلمين بين اليهود، كانوا مبتكرين للغاية. مزجوا في الإسكندرية بين جزء من عقيدة الرواقيين وبين الأفكار اليهودية القديمة. يدعي القديس جيروم أن طائفة الفريسيين ليست حتى سابقة كثيرا على العصر المسيحي.
لم يكن الفلاسفة في حاجة قط إلى هوميروس أو الفريسيين ليقتنعوا بأن كل شيء يحدث عبر قوانين ثابتة، وأن كل شيء مرتب، وأن كل شيء بالضرورة حادث. هكذا كانوا يتجادلون.
صفحه نامشخص