لا بد أن تكون اللغة الفرنسية الأكثر عمومية من بين جميع اللغات الأوروبية؛ لأنها الأكثر ملائمة للمحادثة؛ إذ اتخذت طابعها من طابع الشعب الذي يتحدث بها.
ظل الفرنسيون لما يقرب من مائة وخمسين عاما هم أفضل شعب عرف المجتمع، وأول من نبذ الحرج، وأول شعب تتحرر فيه النساء، بل حتى يحكمن، بينما كن إماء وحسب في غيرها. البناء اللغوي الدائم الاتساق في تلك اللغة، الذي لا يسمح بأي تقديم أو تأخير، هو ميزة أخرى لا تكاد تمتلكها الألسن الأخرى؛ إنها أكثر ابتكارا من غيرها، وإن كانت تفتقر إلى الوزن. إن الكمية الهائلة من الكتب المتفق على عبثيتها التي أنتجتها تلك الأمة سبب إضافي للفضل الذي اكتسبته لغتها بين كل اللغات.
لن تمنح الكتب العميقة اللغة رواجا. ستترجم، وسيتعلم الناس فلسفة نيوتن، لكنهم لن يتعلموا الإنجليزية من أجل أن يفهموها.
ما يجعل الفرنسية أكثر شيوعا بعد، هو الكمال الذي بلغته الدراما في هذه اللغة. إنها تدين برواجها لأعمال مثل: «سينا»، و«فيدر»، و«عدو البشر»، لا لفتوحات لويس الرابع عشر .
ليست الفرنسية غزيرة ولا مرنة مثل الإيطالية، ولا فخمة مثل الإسبانية، ولا حيوية بقدر الإنجليزية، إلا أنها فاقت هذه اللغات الثلاث نجاحا من الحقيقة الوحيدة أنها أكثر ملائمة للتواصل، وأن هناك كتبا مبهجة مكتوبة بالفرنسية أكثر مما يوجد في غيرها. نجحت الفرنسية مثلما نجح طهاة فرنسا لأن لها مذاقا عاما أكثر إرضاء.
الروح نفسها التي قادت الأمم الأخرى لمحاكاة الفرنسيين في أثاثهم، وفي ترتيب غرفهم، وفي الحدائق، وفي الرقص، وفي كل ما يمنح السحر، قادتهم أيضا ليتكلموا لغتهم. إن الفن الرفيع للكتاب الفرنسيين الجيدين هو بالضبط الفن الرفيع لنساء هذه الأمة اللائي يرتدين أفضل مما ترتدي نساء أوروبا الأخريات، واللائي، من دون أن يكن الأجمل، يبدون كذلك، بفضل الفن الذي يتزين به، وبفضل السحر النبيل البسيط الذي يمنحنه لأنفسهن على نحو طبيعي للغاية.
بقوة التهذيب الرفيع، نجحت هذه اللغة في إخفاء آثار همجيتها السابقة. كل شيء يمكن أن يشي بهذه الهمجية لمن ينظر عن كثب. يمكن أن يلحظ المرء أن كلمة «فان» التي تعني رقم عشرين تأتي من كلمة «فيجينتي» السابقة، وأن هذين الجيم والتاء كانا منطوقين بخشونة تتسم بها كل لغات الأمم الشمالية؛ وأن كلمة «أوجوستوس» التي تعني شهر أغسطس صارت «أوت». منذ زمن ليس بعيدا، أطلق أمير ألماني كان يعتقد أنه لا يمكن نطق كلمة «أوجست» في فرنسا بطريقة أخرى على أوجست ملك بولندا اسم الملك أوت. كل تلك الحروف التي أهملت في النطق وبقيت في الكتابة، هي ملابسنا الهمجية السابقة.
حينما لطفت السلوكيات لطفت اللغة أيضا. قبل أن يستدعي فرانسوا الأول النساء إلى بلاطه، كانت اللغة فظة مثلما كنا. وكان التحدث بالكلتية جيدا بقدر التحدث بفرنسية زمن شارل الثامن، ولويس الثاني عشر. ولم تكن الألمانية أكثر خشونة.
استغرق الأمر قرونا لنزيل ذلك الصدأ. وكان من شأن العيوب المتبقية أن تكون مفرطة لولا العناية المستمرة التي يبذلها المرء لتجنبها، كما يتجنب فارس ماهر الأحجار في الطريق. يحرص الكتاب المهرة على مقاومة التعبيرات المعيبة التي يجعلها الجهل العام في البداية رائجة، ويتبناها كتاب سيئون، ثم تمر في المجلات والمنشورات. تعني كلمة «روستبيف» في الإنجليزية «الثور المشوي»، ويقول لنا النادلون اليوم «روستبيف الضأن». تعني كلمة «رايدينج-كوت» رداء مخصصا لامتطاء صهوة جواد؛ حولها الناس إلى «ردينجوت»، ويظنها العامة كلمة قديمة من اللغة. كان من الضروري استخدام هذا التعبير مع الناس لأنه يدل على شيء يشيع استخدامه.
في أمور الفنون والحرف والأشياء الضرورية، استعبدت العامة البلاط، إن كان للمرء أن يجرؤ على قول ذلك؛ فكما هي الحال في شئون الدين، يضطر أولئك الأكثر احتقارا لعامة الشعب، إلى أن يتكلموا وأن يبدوا وكأنهم يفكرون مثلهم.
صفحه نامشخص