قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية
قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية
ژانرها
وقد اتبعت هذه الطريقة، فيما بعد على لسان الشيخ حسن الآلاتي، وقد كان فكها لطيفا، وكان يجتمع مع بعض أصحابه في البيوت ويتسامرون ويتنادرون ويتكلمون في الجد والهزل، ثم تسامع بهم الأصحاب فكثروا وضاقت عليهم البيوت فاتخذوا قهوة لطيفة في حي الخليفة بالقرب من السيدة سكينة وسموها المضحكخانة الكبرى، وشاع صيتها في القاهرة، وكان يأتيها الناس من كل ناحية، بل كان يأتيها بعض الأمراء في زي الفقراء ليروا هذه الأعجوبة.
وكان يدير هذه الجلسة في القهوة جماعة من الظرفاء رئيسهم الشيخ حسن الآلاتي المذكور، فيفتحون موضوعا ويتنادرون عليه، وينتقلون من باب إلى باب حتى يتقدم الليل، ويتخلل أحاديثهم أحيانا زجل وأحيانا قصص وأحيانا سباب ... إلخ.
وقد مات الشيخ حسن الآلاتي سنة 1889م وألف من ذلك كله كتاب دون فيه بعض ما كان يجري سماه: «ترويح النفوس ومضحك العبوس» طبع في ثلاثة أجزاء.
وأظهر ما في هذا الكتاب من فنون المضحكات فن «المفارقات» فقد ارتقى على يد الشيخ حسن الآلاتي واستخدمه استخداما كبيرا، فيقول مثلا في مطلق خطاب له: «إلى السيد المهاب والضبع الوثاب الصادق الكذاب عالم العصر ومصلي الظهر وتارك العصر الجاهل بصلاة القصر، الذي بني على ظهره مائة قصر، أعز إخوان ذي المجد الرفيع الشأن من تهابه الخرفان، ولا تحتقره «الشجعان» الضارب بالنقرزان قاهر ابن خلكان مولانا الشيخ رمضان.»، والكتاب مملوء بالقصص والتنكيت، وتهزؤ النحو بالإعراب الماجن والعرضحالات على طريقة الدعابة ... إلخ.
وكان يعاصر حسن الآلاتي ويجري معه في هذا المضمار عبد الله نديم المتوفى سنة 1896، فقد أنشأ مجلة أسبوعية اسمها «التنكيت والتبكيت» كما أنشأ مجلة أخرى اسمها «الأستاذ» وفي كلتا المجلتين كان يمزج الجد بالهزل والكلم السياسي وينقد الحياة الاجتماعية في شكل فكاهي جذاب، وتتابع هذا الباب فأنشئت جريدة «حمارة منيتي» وغيرها من المجلات إلى أن كان في أيامنا الكشكول ثم آخر ساعة ... إلخ.
كل هذه مدرسة واحدة بعدت عن الأدب الكلاسيكي واتصلت بالأدب الشعبي، وعنيت بالنكت وبالتعبير اللاذع وبالنقد المخفف بالفكاهة.
والنكتة أنواع، فمنها العقلي الذي يستخرج الإعجاب لما فيه من دلالة على ذكاء، ومنها اللفظي الذي قيمته في التلاعب باللفظ، ومن خصائص النكت العقلية أنها عالمية يمكن ترجمتها إلى اللغات الأخرى من غير أن تفقد قيمتها، أما النكت اللفظية فمحلية تفقد قيمتها بترجمتها.
كذلك تتنوع النكت، فمنها ما يستخرج الضحك القوي العميق، ومنها ما يبعث على التبسم فقط ومنها ما يدعو إلى الإعجاب فقط من غير تبسم ولا ضحك، وأكثر ما يثير الضحك هو النكت التي تبنى على السخرية بالغير والاستهزاء به وتحقيره، أما النكت التي لا تشتمل على نقد لاذع ولا على سخرية حادة فتبعث على التبسم أو الإعجاب.
والأمم تختلف اختلافا كبيرا في مقدار حبها للنكات وإعجابها بها فمنهم من شهر بها، ومنهم من كان حظه منها قليلا فاترا، فأظن أن في العالم الشرقي أشهر أمة بالنكتة الأمة المصرية، وهي في ذلك تفضل الشام والعراق والحجاز، وكذلك في العالم الأوروبي تفوق أمة أمة في هذا الباب.
والأمة الواحدة تختلف في تقويم النكت من حيث الكمية والكيفية، وحسبنا دليلا على ذلك الأمة المصرية نفسها، فقد كانت منذ عهد ليس ببعيد تعجبها النكت اللاذعة، وكلما كانت النكتة ألذع كانت أبدع، والذي يرجع إلى النكت التي كانت تنشر في «حمارة منيتي» و«الصاعقة» و«المسامير» وما ينشر الآن في المجلات المشابهة لها يرى تقدما محسوسا يستدعي الإعجاب، فقد كان ينشر في تلك المجلات نكت صارخة مكشوفة كل الانكشاف عارية كل العري، قد ذكر فيها بصراحة أسماء المهجوين ونسبت إليهم أشنع التهم مع سفاهة لفظ وقبح معنى، وكان الجمهور يتقبل ذلك قبولا حسنا؛ أما اليوم فاكتفي في كثير من الأحيان بالتلميح مكان التصريح، وباللذع الخفيف مكان اللذع السخيف، وبالكناية بدل الحقيقة، وسيفعل الزمن فعله في استمرار الرقي.
صفحه نامشخص