ليس في العالم العربي اليوم، لا في العراق ولا في سوريا ومصر، لغة للشعر جديدة بأجمعها - بمعانيها وبمبانيها، بأساليبها وفنونها، بأغراضها ومصادر وحيها. فإنك لا تجد بين الشعراء العراقيين أو السوريين أو المصريين شاعرا من طبقة الشعراء الأوروبيين الحديثين في نطاقهم الرحب، الاجتماعي والوجداني، الطبيعي والروحي - شاعرا مثل إميل فيرهارن البلجيكي، أو وليوم بايتس الأرلندي، أو جان ماسفيلد الإنكليزي، أو روبرت فراست الأميركي.
وكل واحد من هؤلاء الشعراء يختلف عن زميله بالأسلوب الشعري، والأغراض الشعرية، ويتفق وإياهم في الخروج من قديم الأوضاع والمواضيع. هم الأعلام لشعر جديد في أوروبا وأميركا، قد يستغرب عندنا وقد لا يرى فيه القارئ العربي المحب للشعر، المتذوق محاسنه، ما يستسيغه. فالصور فيه جديدة، قليلة الألوان الزاهية، والأوزان قائمة بالإيقاعات التي تقع في أنفسنا وقع الألحان البدوية في أنفس المتحضرين. بيد أن له هناك منزلة عالية، لما يحتويه من مشاهد الحياة الحديثة ومشاكلها، ولما فيه من الفن الفكري.
وقلما نجد شيئا من هذا في الشعر العربي. قلما نجد شيئا من منازع النفس التي تحررت من قيود التقاليد، ولا تزال مضطربة حائرة، أو من أغراض العقل المكتشف الفتاح، أو من الأهواء البشرية المقرونة بتصوف، أو من الأهداف المادية التي تلحفها سحب الخيال الورع الوديع.
ولكن في الشعر العربي آثارا للتطور ظاهرة، وإن كانت لا تزال مائعة، أو ضئيلة، أو متقلقلة. وما أمر تبلورها وثبات اتجاهها ببعيد. ومما لا ريب فيه أن هذا التطور سيشمل المعاني والمباني، وعندئذ يقرأ المتأدب العربي الشعر الأوروبي الحديث ويستسيغه. عندئذ يدرك الجمال في التصوف المستحدث الذي ينبو عن التقشف، ولا يتدرع بالأوهام، ذلك التصوف القومي مثلا الذي يربط الأمم بأرواح لها ماضية، ويشعل أنوار رموزه في هيكل البعث والتجدد. عندئذ نرحب بالشعراء الأوروبيين والأميركيين كإخوان لنا في غير الأوزان والقوافي.
لقد تقيد الشاعر العربي - وخصوصا في الماضي - بكل ما هو محسوس منظور، وما تقيد في صناعته بغير القواعد والاصطلاحات الشعرية. أما تقييد العقل والتصور بشيء من الاتساق المعنوي، والتجانس الروحي، والاقتصاد في التعبير، والارتداع في مواقف الإطناب، بشيء من الذوق الفني الذي يوجب الوحدة في القصيدة، وضبط القريحة في فيضها، بشيء من التحليل الفكري والنفسي الذي يقي الشاعر هون التعميم والغلو - فكل ذلك مجهول على الإجمال لدى شعرائنا، ونادر الوجود في شعرهم.
وما الشعر العربي الحديث في مجمله غير أصداء لأصوات الشعر الماضية، وأشباح لألوانه وأشكاله. فهاكم القصيدة بوجوهها القديمة كلها - بمحاسنها اللغوية والبيانية، وبمصادر وحيها، وبقوالبها القاسية، وبمواضيعها الأبدية - المديح والرثاء، والغزل والاستجداء. أما في الجيد من هذا الشعر فقد يغلب في هذا الزمان الحماسة الوطنية، والمنازع القومية، والاكتئاب والنحيب. ها هو ذا الشاعر واقفا على الأطلال الجديدة في الأمة، وفي نفسه فيرثيها دامع العين، دامي الفؤاد. وهو يمجد الماضي، ويعدد محاسن الأجداد، فيصوغ القوافي حينا من الماء المالح، وحينا من النار والحديد. هي ذي أمة عربية مصفدة، فلتنقذها. هي ذي أمة عربية مجزئة، فلنوحدها. هي ذي أمة عربية مستضعفة مستذلة، فلنجعلها قوية عزيزة مستنصرة.
هو الصوت الأعلى لشاعر اليوم، إن كان في القدس أو في بيروت، في بغداد أو في النجف في مكة أو في القاهرة. هو صوت تخنقه العبرات حينا، وحينا يضطرم بنيران الحماسة والفخر، وحينا تتطاير منه شرار النقمة والانتقام.
وإنه ليندر بين الشعراء المبرزين اليوم من يخلو شعره من القصائد الوطنية، ومن تخلو قصيدته الوطنية من قافية هي طعنة للأجنبي البغيض، الأجنبي المفسد للمنازع الوطنية كلها، الأجنبي المستعمر. إن لهذا الشاعر، إن كان من الطبقة الأولى أو العاشرة، صوتا مسموعا في كل مكان، فيهز من النفس أصولها وفروعها، بل يضرم فيها نار الغيرة على أمة مستضعفة، ووطن مستعبد، ويحبب إليها الجهاد في السبيل الأشرف، سبيل الاستقلال والحرية.
أجل، إن صوت الشاعر الوطني لمسموع، وإن قصائده لتستذرف الدموع؛ لأنه يصوغ قوافيه كما صاغها قبله شعراء الجاهلية، ويرسلها في أوزان لها جرسها وروعتها، وما فقدت شيئا من سحرها اللفظي، وجمالها البياني. هو ذا الشيء الذي ألفه البدوي في البادية، كما ألفه ربيب المدن. ولا يزال الاثنان واحدا في تقدير هذه المحاسن الطنانة البراقة، واحدا في الشغف والطرب لدى استماعها، واحدا عندما يكون الموضوع مجد العرب المفقود، ومجدهم المنتظر المنشود.
بيد أن هذه الوطنية الجديدة تضيق وتتسع، وتشع وتصطخب، بحسب محاسن الشاعر العقلية والفنية والذوقية. وهي تسمو في بعض الأحايين، فيصفو جمالها، وتتقد لهجتها، في قصائد شاعر يحفظ التوازن بينها وبين صناعته، أو بين حب الوطن وحب الفن، فلا يرفع الواحد على الآخر، ولا يقدم الزائل على الخالد في الحياة. إن مثل هذا الشاعر ليستطيع التوسع في الوطنية، فتشمل الإنسان في منازعه، والإنسانية في غمراتها. •••
صفحه نامشخص