وإنك لتشاهدها في هذه الحال في مكان واحد هو شارع المأمون عند مدخل شارع السراي، قف هناك هنيهة تر معرضا من الناس عجيبا، أو اجلس في دكان أحد التجار، بشارع السراي الظليل، وراقب الموكب المستمر في سيره، فتنطبع في ذهنك شتى الصور، وتدرك إذا استعنت بالتساؤل معناها ومغزاها.
تعال نستعرض قيافات البغداديين، وهي اليوم في مجملها كما كانت على ما أظن في زمن الرشيد والمأمون، سنبدأ بالرأس، أو بما يزينه من عمارة، في شكل عمة أو عقال أو سدارة، قد تظن أن العمة عمة، والعقال عقال في كل حال، وهذا خطأ، فإن لأشكالها وألوانها وكيفية لبسها معاني ومغازي تخفى على السائح العربي، فضلا عن الأوروبي.
وأول ما يستوقف البصر العقال الصوف الضخم الطية، البني أو الأسود اللون، هو عقال أهل البصرة والزبير، ويندر أن يلبسه في بغداد غير الشيوخ المسنين. يلبسونه فوق غطرة «كوفية» ملونة ولا فارق في اللون، أما في الجنوب فإن النجدي والزبيري يمتاز بغطرته الحمراء عن البصراوي ذي الغطرة الزرقاء؛ ولهذا العقال في بغداد صفات أخرى. فإن كان ذا لفتين سمي «طيتين» وذا ثلاث أو أربع طيات عرف باللف، أما العقال الأسود البسيط فيدعى قحطانيا.
ولا عقال بلا غطرة؛ أي كوفية، وللغطرة ما للعقال من الأشكال والمعاني، فالزرقاء التي تدعى «يشماق» تلبس في شكل عمة ملفوفة لفتين أو ثلاث لفات ، ومشدودة على الرأس في انحراف إلى الأمام أو إلى الوراء، وفقا لمزاج صاحبها، فالذين يرفعونها فوق الجبين هم «القبضايات» أو الفتيان المشهورون في العراق بالشقاوة، فهم المثيرون «للعركات»، الضاربون القاتلون، في سبيل الشرف ومن أجل من شاء ممن له ثأر، وعنده المال بدل الشجاعة.
وبما أن لهؤلاء «الفتيان» شهرة محلية تذكر بشيء من الإعجاب فالمتهافتون على المهنة والمتطفلون كثيرون، وليس في القانون ما يمنعهم من أن يلفوا الغطرة لفتين أو ثلاث لفات، ويرفعونها فوق الجبين عالية. فلا يغرنك إذن كل من لفها ثلاث لفات، ولا تخش جانب كل من رفعها فوق الجبين!
والغطرة كيفما وضعت على الرأس بدل العقال تسمى جراوية، أما إذا لفها صاحبها على الرأس وحول الوجه؛ أي تلثم بها، فتدعى إذ ذاك يشمقين، وأكثر من يلبسونها ملفوفة لفة واحدة بتأدب واتضاع هم من أصحاب الصناعات.
أما العمم، فالشاب المتدين إذا كان طالب علم، يلفها رقيقة فوق الطربوش. والتاجر أو الوجيه الشيعي يجعلها كذلك فوق الطربوش، إنما من الحرير المقصب، فتسمى إذ ذاك كشيدة، وهناك الخضراء للشريف كما في سوريا ومصر، والسوداء للسيد، والبيضاء للعلماء.
ننتقل من الرأس إلى العباءة، فهي سوداء مطرزة بالأسود أو بالفضة أو بالذهب، وهي بيضاء صيفية، وهي من اللون البني أنواع، فالعباءات السوداء المفضضة والمذهبة تصنع في بغداد من قماش أوروبي، والباقي يصنع في إيران وفي الحساء. فالعباءة الحسوية، التي هي من الوبر، يلبسها مشايخ العشائر خصوصا في كربلاء والنجف، والعباءة الإيرانية التي هي من الصوف البني اللون على نوعين، الكوبائي والنائيني، يلبسها التاجر والعالم وغيرهما.
أما ما تحت العباءة فهو كذلك من الملابس العربية الشائعة، فلا تميز البغدادي عن السوري، الذي لا يزال يلبس القنباز، من قطن أو حرير، ويتمنطق بمنطقة من نوعه، أو أنه يلبس الدشداشة «جلباب» ويشدها بحزام من جلد أو قماش. أضف إلى ما تقدم القيافة الفرجية بالسدارة الفيصلية، وهي قلما ترى في غير المدن. تلك هي الأوليات في علم القيافة العراقي ، احفظها إذا شئت أن تحسن التمييز بين أبناء التقوى وأبناء الشقاوة في بغداد.
وإذا ما وقفت في شارع السراي تشاهد الموكب جميعه وفيه من كل طبقات الناس. فالشاب في القنباز والعباءة السوداء المفضضة، والعقال الأسود، والغطرة الزرقاء، الحامل في رجله حذاء أسود أو أصفر، هو من الفتيان الذين لم يمعنوا بعد في الحرفة، فما اشتهروا بخيرهم ولا بشرهم. إن قيافتهم تخبر بانحراف فيهم إلى الشقاوة، وقد تحول الأيام دون تحقيق رغباتهم الفتوية، فيبقى ذكرهم مضمخا ومنعما بالخمول. مثل هذا الرجل في الغطرة الزرقاء والعقال البني والعباءة والقنباز فهو من الطبقة الوسطى التي لا تعرف من خمول الذكر غير القطن والصوف. وإذا لبس أحد رجالها السرماية أو ما يسمونه اليمني، فهو من كعب الطبقة. إذا لبس الساكو الفرنجية بين القنباز والعباءة والحذاء الفرنجي فهو من رأس تلك الطبقة - من وجهائها ... اتق الله يا حمار، يا، يا أبالجراوية، فإنك تحشر حمارك بين عالم معمم، وسياسي «مسدر».
صفحه نامشخص