من الرطبة نبدأ بالهبوط هبوطا محسوسا، وعندما نصل إلى الرمادي ينبئ عداد الارتفاع بأن هذه البلدة العراقية، على حاشية البادية الشمالية، هي ثلاثمائة متر فوق سطح البحر. وفي الرمادي شيء مما نلقاه في أبي الشامات، إلا أنه أخف، ولا يد أجنبية فيه. فالمأمورون في دائرتي الجمرك وجوازات السفر كلهم عراقيون، وقد ألفيناهم على جانب من اللطف جزيل.
استأنفنا السير ساعة الظهر، ونحن لا نزال آخذين بالنزول، فعبرنا الجسر في الفلوجة، ودخلت السيارة بعد ذلك نعيم الزفت. ذلك النعيم الذي لا يدوم طويلا في طرق العراق. إنما هو قطع، أو حتت، بلغة أهل مصر، من الزفت، تصلها بعضها ببعض الطريق القديمة الحافلة بالغبار والأخاديد. ومتى يتم نعيم الزفت؟ سألت السيد يحيى هذا السؤال، فكان جوابه أن «الوطنيين» في الحكومة مثل المستشارين، وأن المستشارين من سلالة البدو. وقد شنف آذاننا ببعض ألفاظه المنتخبة التي رمى بها ذلك الأعرابي.
على أننا شاهدنا في الطريق بعض العمال وأدوات العمل، ثم أخذت تقل لعنات الوصل، ويطول نعيم الزفت، في دنونا من بغداد، ومن مستوى البحر، فإن المدينة لا تعلو عن سطحه أكثر من تسعين مترا.
عبرنا جسر الحديد الصغير الذي بناه الترك في أواخر القرن الماضي، وعيدت بغداد يوم افتتاحه وبعده عيدا طويلا مهلهلا، وبعيد ذلك وقفنا أمام البناية التي كانت ولا تزال الجمرك.
أمر المدير - وهو شاب أشقر أعمش - بأن تنقل حقائبنا كلها إلى غرفة الفحص، ثم دخل إلى مكتبه يتبعه الشيخ قسطنطين حامل الجوازات والسيد يحيى، وبينا كان يفحصها ويسأل سؤالاته المعتادة، سمعت أولا صوت قسطنطين، ثم صوت السيد يعلوه ويمحوه، وسمعته يصيح: «اتق الله يا رجل، نحن ثلاثة، وما معنا غير ثلاث زجاجات.» الأمر أمر خمر.
ولكن المدير أصر على ما يظهر، وما أسر السيد العنجري، الثلاث لواحد من الركاب الثلاثة - هذا ما يفترضه حضرة المدير، وافتراضه هو وفق القانون، ولمصلحة الجمارك العراقية - فعلينا إذن أن ندفع رسم الجمرك على زجاجتين من العرق. مدير مدقق - مدير يهودي. وسمعت السيد يقول وهو خارج من مكتبه: «يهودي أبو شمعة! لولا كرامتكم والله، لمرغت أنفه بالتراب.»
وعلى جسر «مود» استوقفنا آخر من أولي الوجوه البيض، والعيون العمش. وكنا قد شاهدنا بين المارين ثلاثا من الحسان، يلبسن العباءة دون الحجاب، فقال السيد بعد أن دفع رسم المرور، ولعن الوكيل: «وهذا يهودي أبو شمعة، ينصبونهم لنا في كل مكان ليلتقطوا الفلوس. ولكن لهم «خويات» والحمد لله. أرأيت الثلاث اللواتي مررن سافرات؟ هن أخوات أبي شمعة هذا، ولولا إحداهن لما كان هو على الجسر في هذه الوظيفة يلتقط الفلوس.»
وكنا - والحمد لله - قد أدركنا النهاية من رحلتنا، بل وصلنا إلى حيث تبدأ الرحلة، فنباشر البحث عما جد وأنشئ في بغداد خلال السنين العشر الأخيرة. •••
قد أشرت إلى ما كان من تجديد وتغيير في طريق الصحراء، وأول ما نشاهده في العراق هو جسر الفلوجة الذي كان من خشب، فأصبح من حديد، ثم الطريق من الرمادي إلى بغداد، التي باشرت وزارة الأشغال تزفيتها، وستتمم العمل، وهي طويلة العمر، بإذن الله، فيغدو مدخل العاصمة من الغرب ناعما للمسافرين، ومستحقا إعجابهم.
إن القسم الأخير منه لهو الآن كذلك. فمن الجمرك إلى جسر «مود» جادة كانت ترابا في الصيف، ووحلا في الشتاء، وهي اليوم شارع واسع مزفت مشجر، أطلق عليه اسم الملك فيصل، إلا أن في ساحته عند الجسر جنينة مدورة تشكو العطش والإهمال، وتشتاق الزهور!
صفحه نامشخص