لذلك اقتدينا بالسيد، فلبسنا لليلة شباط وريحها أثقل ما عندنا، ونحن نردد متورعين الكلمة التي كان يرددها قبل أن يضع يديه على الدولاب: توكلنا على الله!
ولكننا بعد نصف ساعة من السير، أحسسنا بأن يد السيد تهتز، والسيارة تتذبذب في العراء المجهول. فصاح الشيخ قسطنطين به أن قف. - قف يا سيد، وفتش عن الطريق.
ثم نزل هو بنفسه يتحقق ظنه، فعدنا نحو خمسمائة متر إلى الوراء ننشد أثر القوافل السيارة.
قبل أن خرجنا من دمشق أطنب قسطنطين بمدح السيد السائق. هو أحسن السائقين في الشام وفي العراق، وهو رجل صادق شريف - من سلالة النبي - هو سيد! وكأني بالرفيق قد نسي ما كان من حظنا وأولئك السادة في اليمن. وهم - على زعمهم - خلاصة الخلاصة، زبدة السلالة النبوية. وقد كان رفيقي في نجد سيدا كذلك، وما كنت في رفقته من أسعد الناس، فقد كان خمرا في أول أمره، وخلا في آخره.
في تلك الساعة، وفي قلب البادية وشدة الليل والبرد، وددت لو أن سائق سيارتنا من غير السادة، فقد عادت اليد القابضة تهتز على الدولاب، وصرنا للمرة الثانية خارج الطريق. نبهنا إلى ذلك قسطنطين على عادته. فهو في الأسفار، ساعة الخطر، أكثر من عرفت تيقظا وحزما. ولكنه - خذ الحقيقة بكاملها - أكثرهم تشاؤما. صاح بالسيد وفي صوته رنة الأمر والتوبيخ، فتوقف فورا، ثم قال يخاطبه: هل أنت نائم؟ - لا والله. - هل أنت نعسان؟ - لا والله. - والله أنت كذاب. والله ستنام - كلنا ننام.
أظن أن السيد سلك ذلك المسلك ليصل إلى هذه النتيجة. نمنا كل في مكانه من السيارة، نحو ساعتين، نوما متقطعا. وكان الواحد منا، كلما صحا، يلعن ريح شباط، وبرد ليله، ذلك البرد الذي يخرق المعاطف كلها ويتغلغل في الأمعاء، فيقلصها ويزيد في تعقدها.
لزمتني الرعدة بعد أن استأنفنا السير، وأحسست بوجع معوي شديد. وعندما رجا الشيخ قسطنطين السائق أن يقف، كما كنت قد فعلت، ضحكت، على ألمي، وسمعته وهو عائد إلى السيارة يقول: «هذه مذلة، وأية مذلة، أن يكشف المرء قفاه لهذه الريح القبيحة ... وبي صداع أيضا ... بودي لو بتنا في الرطبة.»
كان الفجر ساعتئذ يتثاءب ويتمطى، ففاجأته الشمس، وهي مثله كليلة أو عليلة. رفعت رأسها من بطن الأرض - من حافة السهل المنبسط أمامنا - بدون مقدمات، وهي أشبه بالقمر المغيوم، فما شعرنا بحرارة وجودها، إلا بعد ساعة من تشريفها. وكان السيد أول من استنشط فينا، فحاول أن يعوض عما كان من إبطاء، فزاد بالسرعة حيثما استطاع. على أن الجانب العراقي من هذه البادية هو وعر، والطريق كثيرة الأخاديد.
وبينما كنا سائرين بسرعة تنيف على الثمانين كيلومترا في الساعة، رأينا أعرابيا يلوح من بعيد بردن قميصه، ورآه السيد وما اكترث به، فتململ قسطنطين غيظا. قسطنطين، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، على الدوام، وإن كان مكروبا متألما، قسطنطين، حاضر الفكر، بعيد التصور، لله دره، فقد ذكر في تلك الفينة أن قسما من القافلة تقدمنا، وظن أن إحدى السيارات أصيبت بأذى، فأمر السيد أن يقف. قد يكون هذا البدوي قادما من قبل القوم مستنجدا. وقد يكون هو نفسه في حاجة إلى إسعاف. - وقف يا سيد. أما سمعت؟ أقول لك وقف!
وكان الأعرابي لا يزال يعدو ويلوح بردنه، فبتنا ننتظر وصوله. ولبثنا ننتظر، بعد أن وصل، رجوع النفس إليه، ثم قال إنه عطشان، يكاد يموت من العطش.
صفحه نامشخص