ما كان في حياتي من نعمة ربي، يا أمين، مثل هذه النعمة. للمرة الأولى في حياتي أشاهد امرأة حسناء بيضاء هيفاء، فقد عقل الابتهاج لساني والله! فأصبحت كالطفل ينظر إلى دمية تمشي. وعندما دنت هذه الدمية من مكاننا، زررت جبتي، ورفعت يدي إلى صدري، وطأطأت الرأس مبتسما. فابتسمت هي كذلك يا أمين. فانحنيت مرة ثانية، فأحنت هي رأسها وكانت في تحيتها الصامتة مثال اللطف والكرم.
ما توقعت ذلك منها، لا والله! بل كنت أظن أنها ستوبخني؛ لتعرضي لها بنظرة وابتسامة، ولكن الشاعر الأكبر يا أمين، ينظم قصائده، لا كما ننظم نحن الشعراء الصغار، بل كما ينظم من له مائة عين نقادة، فتجيء القصيدة كاملة في كل محاسنها. وتلك الحسناء البيضاء من غرر قصائده، وكأنه، سبحانه وتعالى، كان يتلوها علي للمرة الأولى في ذاك اليوم، فقد سمعت والله جمالها يغني، ورأيت والله جمالها يزهو ويرقص أمامي. ولكني سألت نفسي عندما خرجت من المقهى، هل اليد التي صنعتها صنعتني أنا كذلك؟ هو أمر يحيرني. وساعة أكون في حال اليقين منه - أو في الحال كما يقول المتصوفون - أشعر بالنسب الإلهي، وأحاول أن أقلد الشاعر الأعظم. وما الشعر، يا أمين؟ أنا نفسي آية شعرية، وقل آية إلهية، ساعة أنظم الشعر وأجيد.
وما الشعر الأكل ما رنح الفتى
كما رنحت أعطاف شاربها الخمر
وإن ابتسام الغيد عن كل أشنب
ليطرب نفسي فوق ما أطرب الشعر •••
إن للأدباء والشعراء في أوروبا وأمريكا عادة في الإكرام مرعية مستحبة. فإذا كنت معجبا بشاعر من شعرائهم، وجئته للمرة الأولى زائرا، بعلم منه، فهو يهديك رسمه أو نسخة من ديوانه. ولا يخفى ما في ذلك من الأنانية - ها أنا ذا في رسمي وفي عبقريتي - التي تكاد تكون مجهولة في الشرق. فعندما زرت الشيخ رضا الشبيبي في بيته بالنجف، في فصل الخريف من عام 1922، وما أهداني رسمه، ولا شيئا من شعره. بل قدم لي ما يصرف النظر عن نفسه، وما هو في نظره أثمن وأعز. قدم لي مخطوطة قديمة من كتاب عربي قديم.
محمد رضا الشبيبي.
وما كان أشبه الشاعر صباح ذاك اليوم، وهو متربع على فراش فوق حصير على الأرض، في وسط قاعة فرشها عادي قليل، وأمامه طاولة صغيرة عليها أوراقه، وحولها كتبه، وما كان أشبهه بصورة من الصور التي تزدان بها المخطوطات الفارسية. إلا أنها قاتمة ساكنة، لا تذهيب فيها، ولا وهج لألوانها، وما إطار هذه الصورة الحية غير جدران الغرفة الدكناء العارية، وفيها نافذتان تشرفان على جدران البيوت الملاصقة لبيت الشاعر، كأن الصورة وإطارها صنع فنان يحسن التجانس في فنه، فيلتئم الوجه الهادئ والبيئة الدكناء التئامهما والتقاليد الشيعية القاسية التي أحيا الشاعر فيها أيامه ولياليه.
أقول أحياها؟ ما أظن أن طيرا في قفصه كان يغبط الشبيبي! أو يود أن يكون على شيء من حاله في تلك الأيام. وهل يغبط السجين أخاه في سجنه؟ ولكن الشبيبي فر من نقصه في السنة التالية هاربا إلى بغداد؛ حيث علق جناحه في دبق السياسة، فغدا عضوا في المجلس التأسيسي. من قفص عتيق إلى قفص جديد مطلي بالذهب! فلا عجب إذا لم يطقه سوى سنة أو سنتين، ولا عجب إذا فر بعد ذلك منه، كما فر من قفص النجف، متبرما من الشرائع ومن المجتمع. طار الشبيبي إلى الكرادة، فبنى له عشا هناك، وطفق يغرد على أغصان الحرية والحب والزهادة. هناك على شاطئ دجلة، في ظلال النخيل، ولا قفص ولا رقابة، ولا من يقطع عليه نعمة العزلة. هناك ظفر الشاعر بأمنيته الكبرى.
صفحه نامشخص