واسم كتابه الخطيب الحديث، توخى فيه تعليم الخطابة في الجملة لمن لا يستغني عنها من الناس قال: أما النبوغ فيها فلا بد له من هبة إلهية، ولكن بالتعلم لأسلوب الخطابة يستطيع من يدخل المجتمع، ويشترك في بعض الجمعيات الخيرية، ونقابات العملة والمعلمين، والأندية والمجامع المختلفة أن يخطب على أسلوب حسن، ولا يخجل من التعبير عما في فؤاده، وإن على المرء ألا يلقي بنفسه في ميدان الخطاب العام إذا كان موضوعه لم ينضج أو تافها، فالأولى قبل كل شيء دراسة الموضوع للخوض في عباب الكلام الذي تكثر مناحيه، والأسباب الملجئة إليه اليوم بعد اليوم.
وخير ذريعة للمرء حتى لا يخونه الكلام أن يستظهر كثيرا من المفردات، حتى إذا نسي لفظة أقام غيرها مكانها من دون أن يتوقف، فقد كان الشاعر تيوفيل غوتيه يقرأ كل يوم صفحة من المعجم، ولا يبعد أن يكون شأن الشاعرين بالزاك وبودلير، والكاتب فلوبر على هذا النحو لما علم من تمكنهم من أساليب اللغة ومصادرها، فكانوا يتصفحون أيضا هذه الكتب الضخمة التي جمعت نبوغ عنصر بأجمعه، وبدت بها مظاهر مدنيته المنوعة على اختلاف العصور. وأرى أن من المفيد التطريس على آثار أولئك الكتاب، وأن يقرأ المرء كل يوم صفحة من معجم اللغة، وكم من لفظ تذكر به صاحب الفكر عالما، وروايات وتواريخ، وصفحة من الطبيعة وبلادا وعصرا، ثم إن الألفاظ وحدها لا تكفي لإكثار مادة الخطيب ولا بد له من القوالب، فعليه أن يحفظ جملا مأثورة لطيفة تعلمه أساليب البلغاء، وتركيب الجمل على مختلف الصور، ولا يبالغ في الاستشهاد بها؛ فإنه بذلك يضيع شخصيته، ويكون ناقلا كلام غيره فقط، وعليه أن يركب لنفسه جملا يمكنه أن يقولها ويلفظ بها بصوت جهوري كل يوم من 15 إلى 30 دقيقة، ونجاحه مؤكد لا محالة.
تعلم الارتجال هو غاية الغايات التي يجب على مريد الخطابة أن يحاول بلوغها، وإليك ما عساه يهيئ لك الطريق إلى ذلك: افرض أنك بما لقفته سابقا من المعارف قد استعددت لأن تكتب بعض الشيء خطابا لك على الورق، فاترك الآن عادة تقييد فكرك في الكاغد، وفكر في موضوع لك مدة ساعة أو ساعتين، وذلك بينا أنت سائر، أو راكب في حافلة، أو منصرف إلى عملك البدوي، إن كنت ممن يتعاطون صناعة بيدك، أو بينا تكون في مكتبك فالخطب سيان، انظر إلى جميع النقط التي تعرض لفكرك، وائت بالاعتراضات وردها بما لديك من الحجج تنقضها بها، وخمر المادة العقلية التي بلغت منزلتها، حتى إذا كنت في دارك بمعزل عن المكدرات وجلبة الخارج، اطرد من ذهنك جميع الشواغل الخارجة، وخذ نفسك بما تريد أن تأخذه بها، واجمع كل قوتك العقلية في الفكر الذي يأخذ من نفسك بخط، وتدبر فيما تريد بضع دقائق، واشرع في التكلم جهارا جائيا ذاهبا في غرفتك، تكلم على مهلك بدون أن تبحث عن تعابيرك، ولا تهتم بحالة جملك، ولا لصحتها من النحو والصرف، وداوم بدون انقطاع، ودع كلماتك تتساقط منك، ولكن بأن تصل بينها ما أمكن اتصالا جيدا أو رديئا، فتقارب بينها وتتكرر وتتشوش الأفكار، فالقطع على هذا الضرب من الكلام تنتهي في الدمدمة، أو لا تنتهي أبدا، وأنت لا يأخذنك قلق من ذلك، بل ظل مثابرا أيضا، ونخط العوائق، واطرح وراءك الفقرات التي لم تتلطف في رصفها، ولا تبتئس أبدا لما لا تذكره حافظتك، ولا لما يتخلل كلامك من المنافذ، أو لضعف حججك وتفاهة براهينك، وثابر ثم ثابر، واذهب إلى أدراجك لا تلوي على شيء، وارفع صوتك حتى ينخفض ويخونك بطبعه.
وإياك أن تحبط إذا لحظت أن النتيجة التي تحصل عليها حقيرة، فإن هذا الجهد الذي يبدوا لك هزوا بانحلال السياق والسباق بين أجزائه، ربما عبث بنشاطك وخيب من أملك، فليس هو من العبث بالدرجة التي تتصورها بادئ الرأي، لا جرم أن مثل هذه التجربة لتربية ملكة الخطابة لا تنتج شيئا إذا اقتصر عليها، ومهما بلغت من الثبات في الخطة التي اختطها لنفسك، ورزقت من الصبر لتجديدها على الدوام، فإنك تصلح منطقك بالتدريج والكلام الذي تدعوه يأتيك هفوا أكثر من قبل، ولا تستعصي عليك الجمل، وتلين مادة الكلام وتتلاحم أجزاؤه على أسلوب حسن، وتنجلي الأفكار فتنال كل مرة نتيجة تحمد غب سراها، فتصل بعد فضل الثبات والصبر إلى ما تريد بلوغه من مراقي الكمال، وإياك إذ ذاك أن تقنع بغير سلطة الإرادات العالية، لا يكفي السهولة في المنطق بدون ارتجال، فكثرة مادة الكلام حسن، ولكن الواجب تنظيمه وتخطيط الطريق الذي يجب عليه سيره حتى لا يضل في تافهات لا منفذ لها: إن تعيين الخطة ضرورية في إنشاء خطاب مكتوب، وهو ضروري أكثر عند إرادة الارتجال، إن القريحة المخيلة والمنطق في الخطيب التي تظهر بأنها منبعثة من ذهنه، هي ثمرة التدريب والنظام العلمي بادئ بدء، وبدونه لا رباط ولا سياق.
ثم شبه الخطيب بالممثل في حركاته، ولكن تمثيلا حسنا بحسن استعمال حركاته وسكناته، لا تأخذه رهبة ولا جزع. قال: والأحسن أن يعمد من يحب التبريز في هذا الفن أن يتمرن أمام أصحابه، ويقوم بينهم خطيبا كما لو كان بين غرباء، وهم يدلونه على نقصه ويبينون له عوراته، وبصحة الإرادة وفضل الانتباه يتوصل المرء إلى ما يريد، حتى إذا حصلت له أنسة بالكلام يشرع في خطابه ببطء، والمستمعون لا يستمعون له بكليتهم أولا، بل إن لهم من أحواله أعظم جاذب، وعلى الخطيب أن يلاحظ وسط القاعة التي يخطب فيها أو آخر الحضور يحدق النظر فيهم؛ ليدلهم بلسان حاله أنه يعنى بأسماعهم وإقناعهم.
هذا محصل ما اخترناه من الكتابين في الخطابة عند الفرنسيس، وهم من الأمم المشهورة بفصحائها وخطبائها، فالسياسي الخطيب منهم هو الذي يتسلط على النواب ببيانه، ويتولى الوزارات والسفارات، وكلما برز في هذا الفن استجاش أنصارا وأحرز سمعة على وجه الدهر، والخطيب بين العلماء هو الذي يستولي كل الاستيلاء على المجامع العلمية والكليات، ويكهرب الشعب بأقواله، ويكثر أشياعه وأعوانه.
أصل المعتزلة1
من العادة أن كل فرقة أو أهل مذهب إذا أرادت أن تصف الفرقة المخالفة لها تبخسها حقها، وربما نسبت إليها ما لم تقله، اعتقادا منها بأن تنفير الناس عن المخالف والدعوة إلى المذهب، لا يتيسران إلا بهذه الطريقة الفتة الباردة، حتى إن بعضهم جوزوا الكذب على المخالف، وما ندري أي دين سماوي أو مذهب فلسفي يجوز الكذب في أمثال هذه المسائل.
والمعتزلة ما خلوا ممن يرميهم بما ليس فيهم، خصوصا أيام استحرت المجادلات بينهم وبين الفرق الأخرى من أهل الإسلام، أيام كانوا ممتعين على عهد أوائل الدولة العباسية بحريتهم الدينية على أصولها، ولم يلاقوا من أرباب السلطة شدة ولا عناء، وقد كثر بحث الغربيين في العصر الأخير عن المعتزلة ومنشئهم، حتى قال بعضهم: إن من سوء طالع المسلمين أن ينقرض المعتزلة، فإنهم كانوا معدلين لأمزجة الحكومات وأرباب المذاهب الأخرى، إذ جروا مع العقل وطبقوا المنقول على المعقول، ونظروا إلى الجوهر أكثر من العرض، ومن حكم العقل في أقواله وأفعاله، يحترمه أحبابه وخصومه على السواء.
ولقد استطلعنا طلع رأي أحد كبار علماء الإسلام
صفحه نامشخص