من تأمل في تاريخ الطرق الخطابية ير أن القدماء
1
أفرطوا في فن الخطابة، وأنه وإن صعب العثور على مبدأ معين في كتب الأقدمين، وطريقتهم في خطاب الجمهور، فإن جميع المصنفات التعليمية تحوي إبهاما خلطوا فيه بين علم الكتابة وعلم الكلام، فإن علم الخطابة لم يكن في نظر القدماء هو علم التكلم والإلقاء، بل علم تحسين الكلام وتنميق الإنشاء، ومن تلا كتاب الجمهورية لأفلاطون، وفيه مباحث جليلة في الخطابة عند اليونان، يتجلى له أن جميع خطباء أثينة كانوا ينمقون العبارات قبل أن يتلوها، وتتراءى له من خلال سطورهم آثار التعمل، والاستعداد قبل إلقاء خطبهم على مسامع الجمهور، وإذ كان يحظر على المحامي في أثينة أن يدافع عن غيره اضطر بلغاء اليونان أن يكتبوا خطبهم في الدفاع، ويعطوها لغيرهم يستظهرها ليلقيها؛ ولذلك قل المرتجلون من الخطباء في يونان وإن وجدوا فهم على ندرة.
قال بعض المعاصرين: لو لم يكن خطباء الأقدمين يهيئون خطبهم قبل إلقائها ما كان بقي لنا من كلامهم إلا النذر اليسير؛ وذلك لأن فن الاختزال لم يكن يعهد إذ ذاك، بيد أنه مما لا شك فيه أن بعض خطباء اللاتين الذين وصلتنا خطبهم قد ألقوها بدون أن يستعدوا لها بكتابتها، وكان من العادة أن يعود الخطيب عندهم، فيدون بالكتابة ما قاله من خطاب كما فعل شيشرون في بعض خطبه، والحق الذي لا مرية فيه أن الخط طالما اعتبر في اليونان ورومية بأنه الأسلوب الوحيد في الجملة لإعداد الكلام ليلقى على المسمع العام، ويجب أن يلاحظ أن الخطيب الأثيني مهما بلغ من ثقته بنفسه، لم يكن يجسر أن يقف موقف الخطابة قبل أن ينظر نظرا بليغا فيما سيلقي عليهم؛ لأنه عارف بدرجة مدارك الحضور، ومعرفتهم نقد ما يقول، وما بقي من خطب خطباء يونان هو مما هذبته أناملهم، ونظرت فيه عقولهم، ملاحظين في ذلك أنهم سيخلفون ذلك للأعقاب، فلا يليق أن تكون إلا من أحسن ما يجب.
وطالما هذب شيشرون خطبه وتمرن على إلقائها، حتى إنه في سن الستين قبل أن يقتل كان يمرن نفسه على كيفية الإلقاء، وكان القدماء يعلقون شأنا عظيما على الإلقاء في المجالس العامة، حتى لقد أفرط شيشرون في قوله بأن الخطاب العام يتطلب تعبيرات لطيفة منتقاة، فقد كتب إلى أحد أصحابه أن الرسالة لا يمكن أن تشبه دفاع المحامي، أو خطابا سياسيا، فإنه تستعمل فيه جمل شائعة بالاستعمال، بيد أن كثيرين من خطباء اللاتين وقدماء خطباء اليونان، كانوا لا يحفلون بإعداد خطبهم، ويظهر أن هورتانسيوس وهو أستاذ شيشرون لم يكن موافقا لتلميذه على قضاياه، وهورتانسيوس هذا كان على جانب من الذكاء وحسن الذاكرة، بحيث كان يستطيع أن يتلو خطبه، ويؤلفها في الحال، جاريا في ذلك على طريقة شارلماد وميترودور، وهما خطيبان أثنيان كانا يعدان في ذهنهما ما يريدان إلقاءه.
وكانت طريقة القائد الخطيب الروماني «كالبا» غريبة في بابها، فكان ينقطع في داره مع خدامه غداة يريد أن يلقي دفاعا ويلقي عليهم ممرنا نفسه فيما يريد أن يخوض عبابه، فكان يخرج من الغد في حالة تهيج خارقة للعادة، وعيناه تقدحان شررا، وهو على غاية التحمس يعبث به هواه، ويذهب إلى ميدان الفوروم، واعتاد بعض شبان الخطباء من الرومان أن يأتوا إلى المحكمة بدفاعهم مكتوبا على الورق، وكان كنتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين، يرى أن يتقيد الخطباء في إعداد ما سيتلون، ولا سيما للمترشح للخطابة المبتدئ فيها، ويرى أن الارتجال لا يتأتى للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن يكون ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة، وعرف حلوها ومرها ، ولم يكن في عهده وهو القرن الأول للمسيح سوى خطيبين مرتجلين هما بورسيوس لاترو وكاسيوس، وما عداهما فكانوا ككل الناس يعدون خطبهم قبل إلقائها.
وكان بوسويه خطيب الفرنسيس المتوفى سنة 1704، يكتب خطبه على الورق فيرسمها، ثم يتوقع ما يوحيه إليه المنبر ليجعل فيها حياة وحركة، وظلت الأصول المتبعة في فرنسا مدة القرن الثامن عشر بأن يقيد المحامون والخطباء أقوالهم، هكذا كان يسير أكبر المحامين كوشين، ولما حدثت الثورة الفرنساوية الأولى اضطر أرباب السياسة إلى الارتجال، فأخذوا يخطبون قومهم بدون أن يستعدوا من قبل، ثم ارتقت الخطابة عندهم في الكليات والمحاكم والمجالس حتى قال موريس آجام: ما من شيء يضاد الارتقاء في الخطابة أكثر من إعدادها بالكتابة قبل الإلقاء، فإذا كان وصل كبار المتكلمين إلى أرقى درجات الفصاحة، فبدونها وصلوا، أو بعبارة ثانية على الرغم منها.
ويرى أن يتمرن المرء على الارتجال بأن يرتجل كل صباح في موضوع من الموضوعات لنفسه ولو ربع ساعة، فيتمرن جرسه وصوته، وذلك بأن يذكر دائما قاعدة ينيبون أن المرء يتعلم الارتجال بتكرار العمل فيه، وأن الواجب تعويد الناشئة النطق منذ نعومة أظفارهم، وأن صناعة الخطابة ولا سيما الارتجال لا يتعلمها من جاز الأربعين من العمر، ولا من جاوز الثلاثين، فالأولى أن يبدأ بها منذ الصغر، وأنه من اللازم على من يريد تعلم الخطابة أن يستنصح صاحبا له يدله على عيوبه في النطق والإشارة، وأن يأخذ النفس كل يوم بسماع صاقع الخطباء لا متوسطيهم حتى يتعلم منهم، فإن المتوسط يفسد عليه ملكة الخطابة؛ ولذلك كانت العواصم والحواضر أكبر ميدان للتخرج في الخطابة؛ لأن فيها من أهل الطبقة العالية أصنافا من الخطباء؛ وذلك لأن السماع يجعل المتكلم متكلما، وفكر البشر يغتذي بالتقليد، وعليك يا هذا ألا تعمد إلى استعمال الغريب ولا تتقعر، بل توخ السهولة، ومألوف الناس من الكلمات تؤثر فيهم، وتفعل في عقولهم. لا تعمد لغير الوضوح ودع الكلمة النادرة للشاعر، والكلمة العويصة للفيلسوف، وإذا اعتقدت أنه يكفي الإنسان أن يتلو كتابا يبحث في أصول الخطاب حتى يصبح خطيبا، فألق سريعا هذا الكتاب طعاما للنار.
كان بوسويه نصف مرتجل يعد مفكرات لخطبه، ثم يزيد عليها وينقص منها عند الإلقاء، وكان فلشيه وفنيلون في مواعظهما يعدان ما يلقيان من قبل ويستظهرانه، وكان كوشين يعد من قبل مدافعاته حتى استطاع في آخر عمره أن يرتجل، وكان المحامي جربيه يعد ما يخطب به مطولا، ولا يزال يمحو منه حتى لا يبقى على أكثر من عشرين سطرا، وكان تارجه يكتب دفاعه برمته ويقرؤه، وكان ميرابو خطيب الثورة ممن يعتمد على الكتابة ليخطب، فاضطرته السياسة أن يرتجل، وما كان يحسن الكتابة وهو مستريح البال، أما إذا هاج فإنه يعاود القلم ويكتب في الجملة، وكان يبدأ بخطابه متأنيا في بادئ الأمر ويتحمس بالتدريج، وكان فيرينو من خطباء الثورة لا يخطب إلا إذا تألم لظلم يقع أو حاذر خطرا يدهم، وعندها تنتبه حواسه ويفكر سريعا، ويعمل في ساعة ما لا يعمل في ساعات، بدأ محاميا وكان يكتب دفاعه ويتلوه، ثم كف عن الكتابة، وكان يعد كل الإعداد خطبه الكبرى، ولا سيما في تلاوتها لأصدقائه من قبل أن يلقيها على الجمهور، وهذه الطريقة هي التي جرى عليها بعد حين تيرس رئيس الجمهورية الأول في الجمهورية الثالثة والعالم المشهور.
وكان كواديه من خطباء الثورة، يكتب خطبه عندما كان محاميا، ولما أصبح خطيبا سياسيا صار يرتجل، وكان إيسنارد من خطباء الثورة مرتجلا، ولكنه كان يكتب، وكان دانتون خطيب الثورة الخطيب التام الأدوات في الثورة، وأقدرهم على إدراك حاجة عنصره، وكان أرول دي سيشل من خطباء الثورة يكتب ويحفظ خطبه ويعمل بقول فولتير: إن الألفاظ بريد الأفكار. وكان روبسبير من خطباء الثورة يعد خطابه، ويمحو ويثبت كثيرا كتلميذ مبتدئ، ومعظم خطبه اخترعت وألفت من قبل أن تنشر، لم يتوسع فيها عندما يقولها، وكانت طريقة بانجامان كونستان الكتابة لما يخطب به مثل القائد فواولافيت ودوبون ورويه كولار، وكان النائب مانويل مرتجلا لا يكتب خطبه إلا في أمور المالية، ولم يتخل دي مارتينيان عن كتابة ما يريد إلقاءه مع أنه يرتجل أحسن ارتجال، ومن كان يسمعه يتكلم بصوت رخيم يستريح ويسكت وينوع لهجته، يستدل على أنه يرتجل، وكان لينه مثل كواديه ورافيه وفيرير من أمراء الكلام، لم يجعل المتقيد بالكتابة إلا مقاما ثانويا، وفيرير كان من أعظم من وجد من رجال المحاماة، كان يفكر طويلا فيما يريد أن يلقيه ويتأمله، فلم يكن ممن يعتمد على الكتابة صرفا، وكان هانكن من رجال المحاماة لا يأنف طول حياته من إعداد خطبه، وكان بريه المحامي لا يكتب خطبه ولم يعرفوا طريقته في خطبه، هل كان يحدث بها أصحابه قبل أن يلقيها، كما كان يفعل فرنيو وتيرس، أو يفكر فيها مثل فيرير، أو يكتبها في فكره مثل هورنانسيورس، والذي عرف عنه وكان يكتم طريقة نبوغه أن كلامه كان يسبق فكره، وإنشاؤه كان منحطا.
صفحه نامشخص