112

قدیم و جدید

القديم والحديث

ژانرها

قال: وأما العرب فكان لهم أولا فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية، لم يزل هذا شأنهم في بداوتهم وجاهليتهم، فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش، فهجروا ذلك كثيرا، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خائر مولى عبيد الله بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره، وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم وابنه إسحاق وابنه حماد.

قال: وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها، وكان للموصليين غلام اسمع زرياب، أخذ عنهم الغناء، فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس، فبالغ في تكرمته، وركب للقائه، وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحله من دولته وندمائه بمكان، فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها.

وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع؛ لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح، وهو أيضا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.

قال ابن خلدون أيضا: ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار، وقلت له: ليس هذا من شأنك، ولا يليق بمنصبك، فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة، ورئيس المغنين في زمانه، فقلت له: يا سبحان الله، وهلا تأسيت بأبيه وأخيه، وما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم؟ فصم عن عذلي وأعرض.

هذه زبدة تاريخ الغناء أو الموسيقى في العرب، وطرف مما كان من عناية ملوك الإسلام بها أيام الحضارة. ولقد انتشرت بعد حتى صار يتعلمها بعض أهل العلم من غير نكير، وشرفت بإقبال الكبراء عليها، بحيث لم تكن في شرفها دون غيرها من العلوم، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى، وعملها إلى غاياتها، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع عنها ألحانا بديعة يحرك بها الانفعالات، وله كتاب الموسيقى الكبير ألفه للوزير أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي، وكتاب في إحصاء الإيقاع، وكلام له في النقلة مضافا إلى الإيقاع كلام في الموسيقى، ويحكى أن القانون الذي يضرب عليه للطرب هو من وضعه، وأنه كان أول من ركب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم.

وألف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب في الموسيقى، فكتب رسالة في ترتيب النغم الدالة على طبائع الأشخاص العالية وتشابه التأليف، ورسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى، ورسالة في الإيقاع، ورسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى، ومختصر الموسيقى في تأليف النغم، وصنعة العود ألفه لأحمد بن المعتصم، ورسالة في أجزاء جبرية الموسيقى.

وألف أحمد بن الطيب السرخسي العالم الحكيم كتاب الموسيقى الكبير، ولم يعمل مثله، كما ألف كتاب نزهة النفوس ولم يخرج باسمه، وكتاب اللؤلؤ والملاهي، ونزهة المفكر الساهي في الغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة، وأنواع الأخبار والملح صنفة للخليفة.

وألف ثابت بن قرة كتابا في الموسيقى، ورسالة إلى علي بن يحيى المنجم فيما أمر بإثباته من أبواب علم الموسيقى، ورسالة إلى بعض إخوانه في جواب ما سأله عنه من أمور الموسيقى، وكان أبو بكر محمد بن طفيل من فلاسفة المسلمين في الأندلس، يأخذ رواتب كثيرة مع الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد وغيرهم، ويقول: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم.

وكان ابن باجة الفيلسوف الأندلسي على جلالة قدره متقنا لصناعة الموسيقى جيد اللعب بالعود، قال ابن سعيد: إن ابن باجة في الموسيقى بالمغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد.

وكان ابن يونس المنجم المشهور يضرب بالعود على جهة التأدب، وكان أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين يعرف الموسيقى، ويلعب بالعود، ويجيد الغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، وعمل أرغنا وبالغ في إتقانه، وكان أبو زكريا يحيى البياسي من أفاضل العلماء جيد اللعب بالعود وعمل الأرغن أيضا وحاول اللعب به، وكان يقرأ عليه علم الموسيقى، وكان أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي العالم الرياضي الطبيب متقنا لعلم الموسيقى، وعمله جيد اللعب بالعود، وكان الحرث بن كلدة الثقفي أحد أطباء العرب يضرب بالعود، تعلم ذلك بفارس واليمن، وكان قسطا بن لوقا البعلبكي العالم الفيلسوف بارعا في علم الموسيقى، وكان أمين الدولة بن التلميذ يحب صناعة الموسيقى وله ميل إلى أهلها، وكان صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر العالم المفنن عالما بالموسيقى، وكان نجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة؛ لأن أمة كانت عالمة بدمشق، وتعرف ببنت دهين اللوز فاضلا في الأدب والطب، وله معرفة بالضرب بالعود، استوزره الملك مسعود صاحب آمد وحظي عنده، وكان فخر الدين بن الساعاتي الفلكي الفيلسوف الطبيب خدم بني أيوب، وتوزر للملك العادل والملك المعظم، وكان ينادم هذا ويلعب بالعود، وكان رشيد الدين بن خليفة الطبيب العالم أعرف أهل زمانه بالموسيقى واللعب بالعود، وأطيبهم صوتا ونغمة حتى إنه شوهد من تأثير الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي، فكثر إعجاب الملك المعظم به جدا، وبعد ذلك أخذه إليه واستمر في خدمته، وذكر ابن خلكان أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور كان في شبيبته يضرب بالعود ويغني، فلما التحى وجهه قال: كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستظرف، فنزع عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة.

صفحه نامشخص