ومن هنا كان تدخل الأمة الفارسية في أمور اليونان، وانتهى هذا التدخل إلى أن أصبح ملك الفرس مسيطرا على الحياة اليونانية الداخلية والخارجية: يشهر الحرب بين المدن، حتى إذا أضعفها اضطرها إلى الصلح، وفرض عليها شروطه وقواعده. غير أن الأمة الفارسية نفسها لم تكن أحسن حالا من الأمة اليونانية - فقد كان الفساد قد عبث بها وتغلغل في طبقاتها، حتى عجزت عن الاحتفاظ بملكها وسلطانها، ولجأت إلى اليونان تستأجرهم لحماية هذا الملك والسلطان، ولإخضاع الأقاليم التي أخذت تضطرب وتثور وتنفصل عن الإمبراطورية.
وعلى هذا النحو زال التوازن الذي كانت تقوم عليه الحياة السياسية في العالم القديم، والذي كان يعتمد على قوة اليونان في الغرب، وقوة الفرس في الشرق. زال هذا التوازن فضعف اليونان وضعف الفرس، وأخذ كل من الفريقين يلجأ إلى صاحبه ويسخر منه: أخذ الفرس يلجئون إلى اليونان، وأخذ اليونان يلجئون إلى الفرس: أولئك يبذلون المال، وهؤلاء يبذلون الرجال.
ويظهر في ذلك الوقت أن النظم السياسية القديمة كلها قد أخفقت إخفاقا تاما: فأخفق النظام الديمقراطي والأرستقراطي في بلاد اليونان، وأخفق نظام الملكية الفردية في بلاد الفرس وفي الشرق كله، وترددت الإنسانية بين اثنتين: إما الدمار والفناء، وإما نظام سياسي جديد يخرجها من هذه الفوضى، كذلك كانت الحال في بلاد اليونان وفي الشرق. ولم تكن الحال في إيطاليا وصقلية خيرا منها في بلاد اليونان الحقيقية وفي فارس، فقد كانت المدن اليونانية في إيطاليا وصقلية مضطربة في داخلها مختصمة فيما بينها، وكان عبث الأحزاب بها شديدا.
ومع ذلك فقد خيل إلى أفلاطون أن هذه المدن اليونانية في إيطاليا وصقلية قد تكون خيرا من المدن اليونانية الحقيقية؛ فهاجر إليها، واستفاد من هذه المهاجرة فائدتين عظيمتين، كان لهما أثر عظيم جدا في حياته الفلسفية النظرية والعملية. ذلك أنه درس في هذه المدن مذاهب الفلاسفة القدماء الذين نشئوا في إيطاليا ولا سيما مذهب «الفيثاغوريين» (Pythagorricien)
الذي كان يجمع بين الفلسفة النظرية والعملية، وكان يزعم لنفسه القدرة على تدبير المدن تدبيرا يلائم المنفعة الحقيقية، وكان منتصرا في بعض المدن، متسلطا على الحياة السياسية فيها، ثم زار صقلية مدينة «سراقوس» (Syraceuse)
وكانت حينئذ عظيمة البأس، واسعة السلطان، وكانت خاضعة لنظام الطغيان، يشرف عليها طاغية قوي يقال له «دنيس» (Denys) . وكان بالقرب من هذا الطاغية رجل حكيم فيلسوف يقال له «ديون» (Doin)
كان صديقا لأفلاطون يشاركه في أهوائه السياسية، فخيل إليه أنهما يستطيعان أن يؤثرا في الطاغية، ويحملاه على نوع من الحكم يلائم المثل الأعلى الذي كانا يطمحان إليه. ولكنهما لم يكادا يقدمان إلى الطاغية نصائحهما، ويظهرانه على آرائهما، حتى نفر منهما وسخط عليهما؛ ويقال إنه باع أفلاطون كما يباع الرقيق.
عاد أفلاطون إلى أثينا، وكانت قد نسيت سقراط وأعرضت عن تلاميذه، فاستطاع أن يستقر فيها، وأن ينشئ فيها مدرسة، هي الأكاديمية (Accadémie) . على أنه لم يطل المقام في أثينا بل عاد إلى صقلية؛ ذلك لأن الطاغية الذي كان مشرفا على «سراقوس» قد مات، وآل الأمر إلى ابنه من بعده، فخيل إلى الصديقين الحكيمين أن هذا الطاغية الشاب سيكون أسمع لهما وأطوع من أبيه، ولكن الشاب لم يكن أقل من أبيه حرصا على الطغيان ونفورا من حكمة الحكماء، فغضب ثم ارتحل مرة ثالثة إلى صقلية. وحاول في هذه المرة أن لا يؤثر في الطاغية، بل أن يصلح بينه وبين صديقه «ديون»؛ على أنه أخفق في هذا أيضا، ولم ينج من سخط الطاغية إلا بمشقة. عاد إلى أثينا وقد ذهبت تلك الآمال التي كانت تبسم له وتضيء حياته وتخيل إليه أنه يستطيع أن يقر المدنية الفاضلة على الأرض، فاستقر فيها وانقطع إلى مدرسته، وأخذ يعلم حتى مات سنة 347.
عسير جدا درس فلسفة سقراط؛ لأن سقراط لم يكتب شيئا، وعسير جدا درس فلسفة أفلاطون؛ لأن أفلاطون كتب كثيرا، ولأن فهم هذه الكتب التي تركها أفلاطون وبقيت كلها وهي تنيف على الثلاثين ليس بالأمر اليسير. ليس بالأمر اليسير؛ لأن هناك ضروبا من التناقض بين هذه الكتب من جهة، ولأن آراء الفيلسوف في بعض المسائل قد بلغت من الغموض والدقة حدا عظيما جدا ، ثم لأن هذا التناقض يمكن تفسيره وإزالته. لو استطعنا أن نتبين التاريخ الذي كتبت فيه هذه الكتب. بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الرأي قد جاء بعد هذا الرأي؛ فهو يدل على أن الفيلسوف قد تطور وغير من آرائه قليلا أو كثيرا. ولكن من العسير جدا، أو قل من المستحيل، تحديد التواريخ التي كتبت فيها آثار أفلاطون. ونحن نعلم أن أفلاطون قد بدأ الكتابة منذ مات سقراط، أي في أول القرن الرابع، وظل يكتب ويعلم إلى أن مات، أي في أول النصف الثاني من هذا القرن. وليس غريبا أن تتطور آراء الفيلسوف وتتغير في خمسين سنة، ولا سيما إذا لم يكن الفيلسوف قد لزم حياة هادئة مطمئنة. فليس إذا سبيل إلى الشك في أن فلسفة أفلاطون قد تغيرت وخضعت لألوان من التطور يمكن تحديدها لو ظفرنا بالتواريخ التي كتبت فيها الكتب الأفلاطونية. ومن هنا اجتهد العلماء المحدثون في البحث عن هذه التواريخ، وسلكوا إلى ذلك سبلا مختلفة؛ فمنهم من حاول ترتيب الكتب الأفلاطونية ترتيبا منطقيا، ومنهم من حاول أن يؤرخ كل كتاب بما يجد فيه، أو بما يمكن أن يجد فيه، من الأسماء والتعريض بالحوادث التاريخية. ولكن كتبا كثيرة لأفلاطون تخلو من هذه الحوادث، ومن هذه الأسماء. وآخر ما اهتدى إليه الباحثون في هذا النحو، هو الطريقة اللغوية، وهي التي تمكن من تحديد التاريخ الذي ظهر فيه الكتاب بوساطة لغة الكتاب نفسه، ذلك أن لغة الكاتب تتطور كما تتطور آراؤه؛ فإذا استطعنا أن نعين لغة أفلاطون في شبابه، ثم كهولته، ثم شيخوخته، فقد استطعنا أن نؤرخ كتبه.
ويظهر أن هذه الطريقة هي أقوم الطرق. ويقول النقاد والمؤرخون المحدثون إنها قد انتهت بهم إلى نتائج قيمة، وينتظر أن تنتهي بهم إلى تحديد هذه التواريخ على وجه التقريب. ومهما يكن من شيء، فلم يعرف العالم القديم قبل أفلاطون فلسفة بلغت من السمعة والعمق والتفصيل ما بلغته فلسفة أفلاطون. فقد كان الفلاسفة القدماء يحاولون فهم الكون وتفسيره، ويجدون في ذلك حتى يحدثوا مذهبا من المذاهب، ويزعمون أنه يفسر الوجود والموجود، ثم يقنعون بهذا المذهب، فيعلمونه ويؤيدونه ويذهبون عنه. ثم جاء عصر الشك الذي أنكر هذه المذاهب جملة، ثم جاء سقراط فحاول شيئا آخر غير ما حاوله الفلاسفة القدماء، وهو جعل الإنسان نفسه موضوعا للفلسفة مكان الكون والكائنات، أو مكان الوجود والموجود. ولكن سقراط لم يتجاوز أو لم يكد يتجاوز هذه النظرية التي تجعل الإنسان موضوعا للفلسفة، وتجعل معرفة الإنسان نفسه شرطا ومصدرا لمعرفة الكون والكائنات، ثم جاء تلاميذ سقراط وكلهم احتفظ بالنظام الفلسفي القديم، فأسس مذهبا بعينه، وأخذ يعلمه ويؤيده ويذود عنه. وكل ما تمتاز به فلسفة هؤلاء التلاميذ من الفلسفة التي تقدمت سقراط هو أنهم انصرفوا عن الكون والكائنات، وعن الوجود والموجودات إلى الإنسان، فاتخذوه موضوعا لفلسفتهم، وأخذوا يلتمسون الوسيلة إلى رقيه وسعادته: فمنهم من وجد ذلك في اللذة، ومنهم من وجد ذلك في الزهد. أما أفلاطون فإنه خالف الفلاسفة الذين تقدموا سقراط وخالف سقراط نفسه، وخالف تلاميذ سقراط أيضا، واستحدث في الفلسفة بدعا لم يكن مألوفا من قبل: فلم يتخذ الكون موضوعا للفلسفة، ولم يتخذ الإنسان موضوعا لها، وإنما اتخذ الكون والإنسان جميعا موضوعا لمباحثه الفلسفية. ثم لم يتخذهما موضوعا لبحث فلسفي خاص، ينشئه هو، ويقصر عليه عنايته وحياته، ويطبعه بطابعه الخاص، وإنما حاول شيئا أعظم من هذا كله، ووفق فيه توفيقا غريبا: حاول شيئا لم يكن قد حاوله أحد من قبل، وهو درس هذه المذاهب الفلسفية الكثيرة المختلفة، وموازنتها، واستخلاص ما فيها جميعا من خير، وإقامة فلسفة جديدة من جهة وقديمة من جهة أخرى: جديدة لأن الناس لم يألفوها. وقديمة لأنها لم تنشأ من لا شيء، وإنما تعتمد على المذاهب الفلسفية كلها. وفي الحق أنك تجد في فلسفة أفلاطون شيئا من كل المذاهب الفلسفية التي سبقته: تجد فيها شيئا من مذهب الاستحالة، وتجد فيها شيئا من مذهب الوحدة، وتجد فيها فلسفة سقراط، وتجد فيها خلاصة الآراء السقراطية، ثم تجد فيها الفلسفة «الفيثاغورية» ثم تجد فيها أشياء أخرى، منها ما يرجع إلى الدين، ومنها ما يرجع إلى الأدب، ومنها ما يرجع إلى شخصية أفلاطون نفسه. وكل ذلك متسق منسجم، لا يظهر فيها الاختلاف ولا التباين، وإنما هو مطبوع بهذا الطابع القومي الذي يمثل شخصية أفلاطون.
صفحه نامشخص