آخر ملوك أثينا. فليس غريبا أن يكون أفلاطون - بحكم مولده الأرستقراطي ونشأته الأرستقراطية، وبحكم هذه الاضطرابات المختلفة - شديد الميل إلى النظام الأرستقراطي، شديد النفور من النظام الديمقراطي.
ولكن النظام الأرستقراطي الذي كان يميل إليه أفلاطون قد اقترف في أثينا ضروبا من الآثام لا سبيل إلى إنكارها، فانصرف عنه أفلاطون كما كان منصرفا عن النظام الديمقراطي، ولبث في شيء من الحيرة غير قليل يلتمس النظام الذي يلائم الحياة الإنسانية حقا، ويبرأ من الآثام حقا.
ولما بلغ أفلاطون العشرين اتصل بسقراط، فلزمه ثمانية أعوام أو تسعة، ولم يكن سقراط أقل منه بغضا للديمقراطية، ولا أقل منه انصرافا عن الأرستقراطية. وهنا نستطيع أن نلاحظ مسرعين أن الفلسفة اليونانية كانت دائما في حرب متصلة مع الديمقراطية، كما أنها كانت شديدة الكره للنظام الأرستقراطي الذي كان معروفا حينئذ، وكان سخطها على هذين النظامين يحملها على أن تبحث عن نظام سياسي يبرأ من رذائلهما وآثامهما. فاتفقت ميول أفلاطون وميول سقراط السياسية؛ ثم لم تتفق ميولهما السياسية وحدها، بل اتفقا في أشياء كثيرة أخرى: اتفقا في كره هذا الاضطراب العام الذي تناول كل شيء وأفسد كل شيء. واتفقا في كره السوفسطائية الذين لم يكونوا يهيئون لحياة جديدة بريئة من الاضطراب، وإنما كانوا يذيعون الشك، ويؤيدون المنفعة الخاصة، ومن ذكر الشك والمنفعة الخاصة فقد ذكر الاضطراب. واتفقا في الحكم على المذاهب الفلسفية القديمة بالضعف أو الفساد أو العجز عن السيطرة على العقول والإشراف على الحياة الفكرية العامة. واتفقا أيضا في الحكم على الشعر القديم وأثره السيء في نفوس الجمهور، ثم اتفقا في الحكم على أن الديانة الموروثة لا تخلو من سخف وسذاجة يخالفان كل المخالفة ما وصل إليه العقل اليوناني من الرقي. ومن هنا اشتدت الصلة بين الفيلسوف الشيخ وتلميذه الشاب.
حتى إذا انتهى القرن الخامس، وكانت قضية سقراط ثم القضاء عليه، ثم موته، اشتد سخط أفلاطون على أثينا وعلى النظام الديمقراطي فيها، واشتد خوفه من أثينا ونظامها الديمقراطي، فهاجر فيمن هاجر من تلاميذ سقراط، ولجأ في أول الأمر إلى مدينة «مجار» (Mégare)
القريبة من أثينا، وعاش فيها حينا مع صديق له كان تلميذا لسقراط، ثم أسس في هذه المدينة إحدى المدارس السقراطية المشهورة، وهو إقليدس (Euclide)
الذي قد نعرض له في هذا الفصل، ثم ترك أفلاطون مدينة «مجار» وابتدأ سياحة طويلة زار فيها آسيا الصغرى ومصر وبرقة.
ولست في حاجة إلى أن ألفتك إلى تأثير هذه السياحة في نفس أفلاطون؛ ولكني مضطر إلى أن أذكر أن زيارته لمصر تركت في نفسه من غير شك آثارا قوية؛ فقد شاهد في هذه البلاد آثار تلك الحضارة الضخمة التي كان يتحدث بها اليونان في إعجاب لا حد له. وليس من شك في أن أفلاطون حاول أن يفهم هذه الحضارة بعض الشيء، ولكن ليس من شك أيضا في أنه لم يفهم منها شيئا قليلا، إذ لم يكن يعرف اللغة المصرية، ولم يكن يستطيع أن يتحدث إلى المصريين مباشرة، وإنما عرف ما عرف من أمر مصر بوساطة اليونان الذين لقيهم فيها، شأن المؤرخ اليوناني «هيرودوت»، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الحضارة المصرية لم تؤثر في فلسفة أفلاطون تأثيرا مباشرا، ثم لم تنته سياحة أفلاطون عند زيارة آسيا الصغرى ومصر وبرقة، بل زار أيضا إيطاليا اليونانية، زار صقلية، وكان له فيهما شأن سنلم به بعد قليل.
أشرنا في أول هذا الفصل إلى تلك الحرب التي اضطربت لها الحياة العالمية في طفولة أفلاطون وشبابه. ولا بد من أن نشير هنا إلى الحال السياسية في القرن الرابع قبل المسيح؛ فقد كان لهذه الحال في حياة أفلاطون وفلسفته تأثيرا ليس أقل من تأثير الحال السياسية في القرن الخامس. كان هذا القرن الرابع عصر انحطاط وانحلال في الحياة العامة كلها، سواء في ذلك البلاد اليونانية والبلاد الفارسية فبينما كانت الخصومة السياسية بين الأحزاب قد انتهت إلى أقصاها في داخل المدن اليونانية كانت الخصومة السياسية العسكرية قد انتهت إلى أقصاها بين المدن اليونانية. وكذلك كانت المدن منشقة مضطربة في حياتها الداخلية: يمزق بعضها بعضا، وينفي الحزب المنتصر أفراد الحزب المنهزم أو يقتلهم، ثم لا يدوم له الانتصار إلا حينا قصيرا؛ فإذا انتصر الحزب المغلوب ثأر لنفسه. وكانت الحياة السياسية الدولية - إن صح هذا التعبير - أشد فسادا من الحياة السياسية الداخلية؛ فكانت السيطرة متنقلة في المدن، وكانت هذه المدن تتنازع السلطان؛ فكانت السيادة (لإسبرطة) (Sparte)
حينا و(لطيبة) (Thèbes)
حينا آخر. وكانت أثينا مترددة بين هاتين المدينتين، تنتهز الفرص وتتربص الدوائر. وكان الشعور بالكرامة اليونانية والواجب الوطني قد فسد أو انمحى؛ فلم يكن اليونان أفرادا وجماعات يترددون في اقتراف الخيانة العظمى، ولم يكن الفرد يأبى أن يضحي بمدينته في سبيل منفعته الخاصة، ولم تكن المدينة تكره أن تضحي بالأمة اليونانية كلها في سبيل منفعتها الخاصة.
صفحه نامشخص