الإنسان أم أبى. إلا أن يحصل هناك معارض. وهو أن يتصور تصورا آخر يوجب ضد مقتضى التصور الأول. إلا أن على هذا التقدير لا يبقى التصور الأول تصورا لكون ذلك الشيء نافعا. وأما إن كان ذلك التصور ضارا ، حصلت النفرة. شاء الإنسان ، أو أبى. إلا إذا حصل التعارض المذكور. وحينئذ لا يبقى اعتقاد كونه ضارا. وإن لم يحصل ، لا اعتقاد كونه نافعا ، ولا اعتقاد كونه ضارا. فحينئذ لا يحصل الطلب ولا الهرب.
ثم بينا : أنه إذا حصل الطلب الجازم ، والميل التام ، ترتب عليه إجماع جازم. على أن لا بد من إيجاده. وإذا حصلت النفرة التامة ، ترتب عليه إجماع جازم. على أنه لا بد من تركه. وإذا حصل هذا الإجماع التام الجازم ، حصل الفعل لا محالة. فثبت : أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله : ترتب ضروري.
وليس لأحد أن يقول : الواضع بقدرة العبد هو تحصيل التصور ، الذي هو المبدأ الأول. لأنا نقول : هذا باطل من وجهين :
الأول : إنا سنقيم الدلالة على أنه لا يمكن أن يقع شيء من المعلوم والتصورات بقدرة العبد.
الثاني : إن ذلك التصور الذي حصل بفعل العبد ، حصل في تكوينه تلك المراتب الأربعة المذكورة فانتهت إلى تصور آخر. فإن كان ذلك أيضا بفعله ، لزم إما التسلسل وإما الدور. وهما باطلان. ولما بطل ذلك ، ثبت انتهاء هذه التصورات إلى تصور أول ، هو المبدأ للأفعال الاختيارية لذلك الحيوان. وثبت : أن حصول ذلك التصور ليس باختيار العبد ، بل هو حاصل في قلبه ، على سبيل الاضطرار. ثم إذا حصل ذلك التصور ، ترتبت تلك المراتب بعضها على بعض ، بالغة ما بلغت ، ترتبا واجبا لازما اضطراريا. وعند هذا يظهر أن الإنسان مضطر في اختياره ، وأن جميع أفعال العباد : إما أفعال الله تعالى ، أو موجبات أفعال الله تعالى. وعلى التقديرين فالمطلوب حاصل.
واعلم : أن كل من رجع نفسه ، واعتبر أحوال أفعاله وأعماله : علم قطعا ويقينا : أن الأمر كما ذكرناه. وذلك لأنه إنما تحرك إلى جهة كذا ، لأنه أراد تلك الحركة وإنما أراد الحركة إلى تلك الجهة لأنه اعتقد أن له في تلك الحركة منفعة. وإنما حصل ذلك الاعتقاد ، لأنه رأى شيئا ، فصارت تلك الرؤية سببا لتذكره : أن له في ذلك الفعل منفعة. وهلم جرا إلى جميع المراتب.
وبالجملة : فأفعال الجوارح مترتبة على أفعال القلوب وأفعال القلوب يستند بعضها إلى بعض. والأخير يستند إلى أمور خارجية اتفاقية. مثل : إن وقع بصره على شيء ، فتذكر شيئا. أو سمع صوتا فتذكر شيئا مع العلم الضروري بأن تلك الاتفاقات الخارجية : خارجة عن وسعه وطاقته. ثم إنا قد ذكرنا تلك الأشياء الستة التي بسببها تختلف أحوال الإنسان في عقائده وفي
صفحه ۵۵