الذي أوردتم علينا في الإرادة : وأورد عليكم في العلم. فإن لزم من هذا القدر كونه تعالى موجبا ، فهو أيضا وارد عليكم بسبب العلم.
وأما السؤال الرابع : وهو قوله : «القادر يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» فنقول : هذا محال. ويدل عليه وجوه :
الأول : إن نسبة القادر إلى الضدين. إما أن تكونان على السوية ، أو لا على السوية. فإن كان على السوية ، امتنع حصول الرجحان. وإلا فحينئذ يكون ذلك الرجحان حاصلا ، لا لمؤثر. لأن الاستواء لا يوجب الرجحان البتة. وحصول الرجحان قول بحدوث الأثر ، لا لمؤثر. وذلك يوجب نفي الصانع وهو محال. وإن كانت نسبة القادر إلى أحد الضدين راجحة ، فهذا اعتراف بأن الرجحان لا لمرجح محال. وهو المطلوب.
الثاني : إنه لو حصل الرجحان لا لمرجح ، لكان حصول ذلك الرجحان على سبيل الاتفاق المحض. وقد دللنا على أن ذلك يوجب الجبر.
الثالث : إنا لما اختبرنا أنفسنا ، علمنا : أن عند حصول تعارض الدواعي يتعذر الفعل وذلك يدل على أن عند عدم الدواعي يمتنع صدور الفعل.
وأما السؤال الخامس : وهو الهارب من السبع ، إذا عن له طريقان.
فجوابه : من وجهين :
الأول : وهو أن الهارب من السبع ، ما لم يقصد الذهاب في أحد الطريقين ، فإنه لا يترجح ذهابه في أحد الطريقين ، على ذهابه في الآخر. وكذلك العطشان إذا خير بين شرب قدحين فإنه ما لم يقصد أخذ أحد القدحين فإنه لا تمتد يده إلى أحد القدحين دون الثاني حتى إنه لو لم يحصل في قلب الهارب من السبع ، قصد إلى سلوك أحد الطريقين بعينه ، فإنه يبقى هناك ولا يتحرك. وكذلك العطشان إذا لم يخص أحد القدحين بمد اليد وأخذه ، فإنه لا يتحرك ذلك القدح ، ولا يرتفع إلى فمه ، ولا ينصب بنفسه إلى حلقه. فثبت : أن القادر ما لم يخص أحد الطريقين بالقصد إليه ، وما لم يخص أحد القدحين بمد اليد إليه ، فإنه لا يترجح وهو على غيره. وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يصير هذا الكلام حجة لنا في قولنا : «إن القادر لا يصدر عنه الفعل المعين ، إلا إذا دعاه الداعي إليه».
بقي أن يقال : فلم حصل في قلب هذا الهارب : القصد إلى هذا الطريق ، دون ذلك الطريق؟ ولم حصل في قلب هذا العطشان : إرادة أخذ القدح ، دون ذلك القدح ، إلا أن نقول هذا عين الدليل الذي تمسكنا به. وذلك لأنا بينا : أن صدور الفعل عن القادر يتوقف على حصول الداعية المخصوصة في قلبه. وحصول تلك الداعية بعينها في قلبه ، ليس بداعية أخرى من قبل العبد وإلا لزم التسلسل. بل لا بد وأن يكون من الله ، وحينئذ يلزم أن يكون العبد
صفحه ۴۵